سؤال الديموقراطية وخصوصا من حيث علاقتها بالمشروع الوطني وبالدولة الوطنية وجودا وبناء,غير مقتصر علي الحالة الفلسطينية حيث يفرض نفسه علي كل العالم العربي,إلا أن طرحه وجعل أزمة الديموقراطية والانتخابات والنظام السياسي تتصدر المشهد السياسي بل وتطغي علي المشكل الحقيقي وهو الاحتلال,يعد منزلقا خطيرا يجب الحذر منه.
بعد سنوات من المراهنة علي إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني (ديموقراطيا) بنقله قسرا من الشرعية الثورية إلي الشرعية الانتخابية والديموقراطية,ضمن استحقاقات التسوية,عادت الأمور لوضع أسوأ مما كانت عليه قبل التسوية,بل أدت هذه(الديموقراطية) بعد انتخابات 25يناير 2006 والتي قيل عنها أنها الأكثر نزاهة وشفافية,لاقتتال وحرب أهلية ثم انقسام النظام السياسي فالحصار ودخول المشروع الوطني بشقيه المقاوم والمفاوض في مأزق.الأمر الذي يدفع للتساؤل هل الخلل في الديموقراطية بحد ذاتها,أم في نخب وثقافات غير مهيأة ولا مستعدة لدفع استحقاقاتها؟أم أن الخلل في الحالة الفلسطينية يكمن بأنه تم إقحام الديموقراطية وأدواتها واستحقاقاتها علي شعب تحت الاحتلال حيث المرحلة مرحلة تحر وطني وليست مرحلة بناء دولة وصراع علي السلطة؟
إن كنا نقصد بالديموقراطية وجود أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني وانتخابات,أي الطابع المؤسساتي الشكلاني للديموقراطية,فيمكن القول إن فلسطين تعرف الديموقراطية منذ بداية عشرينيات القرن الماضي,حيث تم تأسيس أول مؤسسة مجتمع مدني عام1918 وهي الجمعيات الإسلامية المسيحية,وتأسس أول حزب سياسي(الحزب الوطني) عام1923,وبعد النكبة تأسست هيئات مجتمع مدني قبل تأسيس النظام السياسي,ومن هذه المؤسسات الاتحاد العام لطلاب فلسطين عام 1959 والاتحاد العام لعمال فلسطين عام1963 والاتحاد العام للمرأة عام1965,وبعد تأسيس منظمة التحرير شهدت المنظمة والأحزاب السياسية أشكالا متعددة من الانتخابات والتعددية وهو ما كان يطلق عليها الرئيس الراحل أبو عمار(ديموقراطية غابة البنادق).فهل كل هذه التشكيلات والممارسات وفي ظل الاحتلال والشتات تسمح لنا بالقول بوجود نظام ديموقراطي في فلسطين؟ أما إذا قصدنا بالديموقراطية نظام حكم سياسي لمجتمع حر وسيد نفسه,يتم فيه التداول السلمي علي السلطة بين أحزاب وطنية.فيمكن القول بأنه لا يوجد اليوم ولم يوجد سالفا نظام فلسطيني ديموقراطي حتي في وجود السلطة الوطنية,ولكن وجدت ممارسات تعد مؤشرا علي تفكير وتوجه ديموقراطي.
الاحتلال بما هو نفي لحرية الشعب ولحقه في تقرير مصيره,يتعارض من حيث المبدأ مع الديموقراطية,حيث إن إقحام استحقاقات الديموقراطية من انتخابات وصراع علي السلطة..حرف النضال والجهد الوطني عن وجهته الحقيقية وهي مواجهة الاحتلال,فكيف يمكن التوفيق بين الديموقراطية كحكم الشعب وكتجسد وتعبير عن إرادة الأمة من جانب,والاحتلال كحالة نفي لسيادة الأمة ولحريتها من جانب آخر؟أيضا الديموقراطية تعني(التعددية في إطار الوحدة) أي أن الأمة وأحزابها تختلف في البرامج والإيديولوجيات ولكنها تتفق حول ثوابت الأمة ومرجعيات النظام السياسي,وعندما تشارك الأحزاب في الانتخابات فإنها تشارك علي أرضية وفي إطار هذه الثوابت,والحزب أو الأحزاب الفائزة في الانتخابات تمارس السلطة والخاسرون يلعبون دور المعارضة السلمية في إطار نفس الثوابت والمرجعيات,وتلتزم باحترام الدستور والقانون والسلطة القائمة,أما في الحالة الفلسطينية فما يوجد هو جماعات مسلحة غالبا وليست أحزابا سياسية وغالبا لكل جماعة استراتيجيتها ورؤيتها الخاصة للثوابت الوطنية وعلاقاتها الخارجية الخاصة فحركة فتح وفصائل أخري تقول بالتسوية السلمية وتعارض اللجوء للعمل المسلح ضد إسرائيل وتعترف بإسرائيل وبالشرعية الدولية ومرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية وهدفها هو دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة,أما حركة حماس فتقول بالجهاد العسكري وبتحرير كامل فلسطين وترفض التسوية السلمية والمفاوضات,ومرجعيتها جماعة الإخوان المسلمين ومشروعها الإسلامي المتجاوز للمشروع الوطني,وهناك جماعات سياسية أخري-الجهاد الإسلامي وحزب التحرير-ترفض بالمطلق المشاركة بالنظام السياسي وبالانتخابات وبالتحول الديموقراطي.
كيف يمكن إعمال التداول السلمي علي السلطة-مع افتراض وجود سلطة وطنية فلسطينية حقيقية- في ظل هذا التناقض في الاستراتيجيات والأهداف والمرجعيات؟وكيف يمكن احترام نتائج صناديق الانتخابات وكل طرف يعتبر نفسه الممثل الحقيقي للثوابت والمصلحة الوطنية بغض النظر عن نتائج صناديق الانتخابات؟وكيف يمكن لجماعات مسلحة كل منها يملك مقاتلين وميليشيات وترسانة من الأسلحة ومعسكرات تدريب بل وجامعاتها ومستشفياتها الخاصة بالإضافة لتحالفاتها الخارجية التي تؤمن لها الاستمرار كيف يمكنها أن تلعب دور المعارضة السلمية وتخضع لسلطة يديرها الآخر؟
الحديث عن أزمة في الحقل السياسي الفلسطيني يستدعي تحديد طبيعة الأزمة,هل هي أزمة نظام سياسي؟أم أزمة حركة تحرر وطني؟أم أزمة مفاوضات وتسوية سياسية؟أم أزمة السلطة؟أم أزمة مقاومة؟أم أزمة المشروع الوطني الفلسطيني برمته؟وهل غياب أو تعثر الديموقراطية السبب في الحالة التي تمر بها القضية الوطنية؟وهل بالديموقراطية يمكن حل الأزمات السابقة؟ هناك علاقة وجوية وتراجيدية ما بين الأزمة وفلسطين,ويمكن أن نستعيض عن مفردة الأزمة بمفردة المشكلة أو الصراع,وحتي المصطلح المتداول في توصيف الحالة الفلسطينية وهو (القضية الفلسطينية) يؤشر علي وجود أزمة مركبة فالقضية مشكلة خلافية.وعليه يمكن القول بأن فلسطين عاشت وتعيش أزمة شاملة ومعممة وليست وليدة اللحظة ولا وليدة الانتخابات الأخيرة,وسيكون من الخطورة اخترال الأزمة بالديموقراطية,لأن ذلك يبعدنا عن حقيقة وطبيعة المشكلة أو القضية الفلسطينية.
الاحتلال هو السبب الرئيس للأزمة وهو سبب المشكلة,فلو لم يكن احتلال ما كانت القضية الفلسطينية تعيش الوضع المأساوي الراهن بكل تعقيداته,وعليه فالاحتلال هو المسئول الأول,ولكن هذا لا يمنع من الحديث عن أزمة داخلية فلسطينية وعن أزمة ديموقراطية,ولكن وحتي علي هذا المستوي فليست أزمة الديموقراطية العنوان المناسب للأزمة الداخلية,فتعثر الانتخابات والممارسة الديموقراطية هما نتيجة لسبب جوهري وسابق وهو غياب استراتيجية عمل وطني محل توافق كل القوي السياسية,أو بشكل آخر غياب الاتفاق علي الثوابت والمرجعيات الوطنية.تعثر الانتخابات والديموقراطية ثم الحرب الأهلية والانقسام نتائج وليست سببا,تجليات لأزمة وليس الأزمة الحقيقية,فالنظام السياسي والتسوية السياسية والمقاومة والسلطة الوطنية تعيش أزمة منذ تأسيسها وهي أزمة وظيفية وبنيوية,الديموقراطية كاشفة لهذه الأزمات وليست منشئة لها.
سيكون من المفيد التمعن بأزمة الديموقراطية في فلسطين ليس كأزمة نظام سياسي بل كأزمة ثقافة ومؤسسات وأحزاب ومجتمع مدني,ولكن في نفس الوقت يجب البحث عن الأبعاد الإستراتيجية لأزمة المشروع الوطني.القول بأن أزمة الفسلطينيين تكمن في الديموقراطية معناه أن الفلسطينيين مسئولون عن المأزق الذي تعيشه القضية الوطنية,وهذا ما تروج له إسرائيل وأطراف خارجية أولئك الذين يعتبرون أن المشكلة تكمن في الفلسطينيين أنفسهم وأن إسرائيل ليست سبب تأزم التسوية السياسية والقضية الفلسطينية برمتها,كما أن القول بأن الأزمة أزمة ديموقراطية سيدفع الجهود لتتركز علي حل ديموقراطي للأزمة من خلال الانتخابات فقط وتجاهل الأزمة العميقة للمشروع الوطني الضاربة بجذورها إلي ما قبل فرض الاستحقاق الانتخابي كأحد استحقاقات التسوية السياسية واتفاقاتها,ولا نعتقد أن الانتخابات وحدها ستخرج القضية الوطنية من مأزقها,وهذا ما نلمسه اليوم من خلال تعليق كل شئ علي الانتخابات التي تتضمنها ورقة المصالحة المصرية,دون محاولة البحث عن مخارج أو إبداع حلول أخري للأزمة,السؤال أيضا ماذا لو لم تجر انتخابات وبالتالي انغلاق أفق الحل الديموقراطي؟هل ستبقي الأمور علي حالها من حيث تكريس الانقسام وغياب إستراتيجية عمل وطني وبالتالي استمرار أزمة المشروع الوطني؟
وخلاصة القول ومع الأخذ بعين الاعتبار أن مشكلة القضية الفلسطينية ليست الديموقراطية بل الاحتلال,يمكن القول إن أزمة الديموقراطية في فلسطين هي أزمة ممارسة وأزمة ثقافة وأهم تجليات هذه الأزمة:-
*عدم الاتفاق علي الهدف الوطني واستراتيجية تحقيقه يجعل من الصعب إعمال مبدأ التداول السلمي علي السلطة.
*عسكرة الأحزاب السياسية وتداخل العمل السياسي مع العمل العسكري.
*ضعف الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب والحركات السياسية بسبب هيمنة القيادات الكارزماتية.
*غياب الديموقراطية والشفافية داخل مؤسسات المجتمع المدني وخصوصا المنظمات الكبري التي تحصل علي تمويل كبير من الخارج.
*ضعف ثقافة الديموقراطية داخل المجتمع وداخل الأحزاب والحركات السياسية,ذلك أن الديموقراطية ليست مؤسسات فقط بل ثقافة أيضا.
*عدم القدرة علي التوفيق ما بين استحقاقات مرحلة التحرر الوطني واستحقاقات الممارسة الديموقراطية.
*غياب استقلالية القرار السياسي عند كل مكونات النظام السياسي.
*غياب توافق وطني علي مرجعيات وثوابت وطنية تجري داخلها العملية الديموقراطية.
*عدم الحسم في علاقة الدين بالسياسة والدولة,الأمر الذي يحتاج لإعادة موضعة الدين في النظام السياسي,ورفض احتكار الدين من طرف أي حزب سياسي.
*الجغرافيا السياسية ذلك أن الشتات ثم فصل غزة عن الضفة,جعل من الصعوبة الحديث عن مجتمع كلي فلسطيني, وبالتالي عن نظام ديموقراطي فلسطيني,فالمجتمع الفلسطيني في كل تجمع له خصوصية وتجربته الخاصة في التعامل مع الاستحقاق الديموقراطي.