مازالت روسيا تراهن علي إقناع الحكومة العراقية بالعودة لتنفيذ العقود التي وقعتها شركة(لوك أويل) الخاصة باستثمار حقول قرنه-2 ولو بشكل جزئي, أو من خلال التعاون مع الشركات الأمريكية التي باتت تسيطر علي قطاع النفط العراقي, إلا أن الواقع يكشف عن أن آمال الشركات الروسية قد ذهبت أدراج الرياح منذ دخول القوات الأمريكية إلي العراق.
ومنذ تولي الحكومة العراقية الحالية مقاليد السلطة حاولت الشركات الروسية إقناعها بأحقيتها في عقود (قرنة-2), وبادرت موسكو للاستجابة إلي دعوة المجتمع الدولي بإسقاط 90% من الديون العراقية المستحقة السداد بل وسارعت لتقديم المساعدات إلي العراق, وتدريب الفنيين والمهندسين العراقيين, علي أمل التوصل إلي تفاهم حول حق الشركات الروسية في استثمار (قرنه الغربية) ولم تحقق كل مساعي موسكو أية نتيجة في هذا الإطار.
ومنذ أيام وقع ألكسي كودرين نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الروسي وهوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي اتفاقية تعفي روسيا بموجبها العراق من 93%(12 مليار دولار) من ديونه لحساب روسيا. وتجاوزت روسيا بالتالي تعهداتها الناشئة من اتفاق الدول المانحة أعضاء نادي باريس التي تعهدت بإعفاء العراق من 80% من ديونه لحساب الدول المانحة والمنظمات الدولية.
واعتبر رئيس لجنة الشئون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارجيلوف أن روسيا قد اتخذت خطوات إيجابية نحو دعم العراق الجديد وتعزيز العلاقات الثنائية, وأشار إلي أن إسقاط ديون بغداد يأتي في إطار مساندة الديمقراطية العراقية الفتية علي أمل أن يبقي العراق شريكا اقتصاديا وسياسيا أمينا لروسيا في الشرق الأوسط. باعتبار أن موسكو تسعي إلي أن تحصل شركاتها من العراق علي عقود عمل تقارب قيمتها الإجمالية 4 مليارات.
إلا أن الوزير العراقي وقبل مغادرته العاصمة الروسية أكد في تصريحاته الصحفية أن العراق يتبني سياسة اقتصاد السوق الحر, وأن الأسواق العراقية مفتوحة لكل الشركات العالمية, ولن تميز الحكومة العراقية هذه الشركات عن بعضها البعض. وأن بغداد تدعو الشركات الروسية للعمل في العراق وفق نفس الشروط التي تعمل بها الشركات الأجنبية الأخري.
وإذا تجاوزنا عن دور الولايات المتحدة ومساعيها لإقرار قانون النفط الجديد, والذي يخدم عمليا مصالح الشركات الأمريكية, وإذا لم نتطرق إلي سيطرة الشركات الأمريكية علي عقود إعمار العراق, وبعض منابع النفط في إقليم كوردستان, فيمكن أن نتعامل مع دعوة الوزير العراقي بنوع من الجدية.
وكانت موسكو تعتقد أن شطب الديون العراقية المستحقة السداد لروسيا, يمكن أن يفتح الباب أمام تعاون اقتصادي فعال ومثمر, يحقق للبلدين المنفعة. إلا أن بغداد تتمسك بقوانين المنافسة الحرة عندما يدور الحديث عن مساعي الشركات الروسية لتوظيف استثماراتها في العراق, بينما يدعو رئيس الحكومة العراقية المالكي الشركات الأمريكية للاستثمار في العراق وتوسيع مشاركتها في خطط ومشاريع التنمية. ويؤكد لواشنطن أن المؤسسات العراقية وخاصة النفطية التي شيدتها الشركات الروسية بحاجة إلي تحديث وإعادة تأهيل, داعيا الشركات الأمريكية للقيام بهذا الدور, وهي لغة معروفة لإيجاد المبررات للتهرب من التعاون مع الشركات الروسية.
وتجدر الإشارة إلي أن مباحثات ثنائية بين العراق والولايات المتحدة ستبدأ خلال الأيام القادمة لتوقيع اتفاقية صداقة وتعاون, سيتم بموجبها تقنين التواجد العسكري الأمريكي, وإخراجه من تحت المظلة الدولية, ليصبح شأنا عراقيا-أمريكيا.
ويعني هذا أن العراق سيخضع لسنوات طويلة للنفوذ الأمريكي ولن يتمكن من اتخاذ قرارات سيادية تمكنه من استغلال ثرواته وفق مصالح الشعب العراقي, وسوف تكون واشنطن صاحبة القرار الأول والأخير في تحديد مصير النفط العراقي ومن من الأجانب له حق التعامل فيه, وبالقطع لن تعطي واشنطن لروسيا أية فرصة لدخول هذا القطاع حتي لو تنازلت عن كل ديونها لدي العراق وقدمت المزيد من التنازلات.
ولعلنا نذكر عبارات الرئيس بوتين الساخرة خلال القمة الثلاثية التي عقدت عام 2003 في سانت بترسبورج, عندما قال إن البعض يشن الحروب والبعض الآخر ينهب العراق, والمجموعة الثالثة تسدد الفواتير المستحقة!!!
وتكشف تطورات الأحداث منذ تلك الفترة عن دقة هذا التشخيص, لأن روسيا اليوم تشطب ديونا عراقية, تراكمت نتيجة أعمال نفذتها الشركات الروسية في العراق, ويعتبر المسؤولون العراقيون أن قرار موسكو التزام دولي وليس شكلا من أشكال مساندة روسيا للحكومة العراقية, علما بأن العديد من الدول العربية لم تشطب ديون العراق المستحقة لها.
ويبدو أن الحكومة العراقية لم تأخذ بعين الاعتبار أن العراق علي مدار سنوات طويلة كان أكبر شريك تجاري لروسيا في الشرق الأوسط, وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين آنذاك حوالي ملياري دولار سنويا.
وأنه من خلال علاقات التعاون بين موسكو وبغداد تم تشييد البنية التحتية للعديد من الصناعات الاستخراجية العراقية, وبناء العديد من الصناعات العراقية في قطاع الطاقة وفي قطاعات أخري. مما يعني أن تعاون العراق مع روسيا حقق منفعة ونهوضا للاقتصاد العراقي, ولم يجلب له الخراب والدمار.
وبمقارنة بسيطة بين اتفاقية إسقاط الديون الجزائرية المستحقة السداد لروسيا واتفاق شطب الديون العراقية سنجد أن الأخير يعكس حالة من فقدان الثقة بالرغم من أن هذه الخطوة يجب أن تعبر عن الدعم والمساندة والتواصل بين الطرفين.
لذا كان من الطبيعي أن تأخذ اتفاقية شطب الديون شكلا مختلفا, حيث تم شطب 90% من الديون المستحقة مضافا إليها فوائد الدين حتي عام .2008 وسيتم شطب الديون علي عدة مراحل حيث ستشطب روسيا في المرحلة الأولي 65 بالمائة, وسيتم إسقاط الـ 4.5 مليار دولار المتبقية علي مرحلتين في إطار محادثات يجريها الطرفان فيما بعد.
ويتعين علي الحكومة العراقية من أجل تنفيذ اتفاقية شطب الديون الالتزام بالبرنامج الخاص لصندوق النقد الدولي. وتتوقع روسيا أن يسدد العراق ما تبقي من الديون المستحقة وهو حوالي 1.13 مليار دولار منذ بداية عام 2009 مع حساب نسبة الفوائد.
ويبدو واضحا أن الصراع علي النفط العراقي لم يعد منافسة تجارية, وإنما تحول إلي صراع سياسي داخلي وخارجي, بين الشركات الأمريكية وبقية المؤسسات العالمية العاملة في قطاع الطاقة, وإغلاق الباب أمام عودة الشركات الروسية إلي السوق العراقية, يعبر عن دور الشركات الأمريكية في استنزاف ثروات هذا البلد النفطية والسيطرة عليها. مركز دراسات الطاقة ـ روسيا