انتهت الحرب الأهلية السودانية المكونة من جزئين — وهي حرب دامت اثنتين وعشرين عاما وأسفرت عن مقتل مليونين في جنوب السودان — بتوقيع ##اتفاق السلام الشامل## في عام .2005 وقد جاء الاتفاق نتيجة الدبلوماسية النشطة التي قامت بها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش حيث توسط في الكثير منها شخصيا الرئيس بوش والرئيس السوداني عمر حسن البشير. وتشمل بنود هذا الاتفاق منح الحكم الذاتي لجنوب االسودان لمدة ست سنوات تبدأ في عام 2005 وتنتهي في 9 يناير 2011, حيث يجري استفتاء علي انفصال جنوب السودان. وفي حين أن الغالبية العظمي من الناخبين مسجلين في الجنوب, تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلي أن أكثر من 90% منهم سيصوتون لصالح الانفصال. وقد سارت عملية التسجيل بسلاسة — أفضل كثيرا مما كان متوقعا, وبدون أية محاولة من قبل الخرطوم للتلاعب بالعملية. وستتقدم عملية الاستفتاء رغم جهود الخرطوم لتعقيد وعرقلة طباعة بطاقات الاقتراع وإثارة التساؤلات حول أهلية الناخبين, لأن إدارة الاستفتاء في هذه النقطة تقع في أيدي الحكومة الجنوبية. ومع اقتراب 9 يناير, سيصوت الجنوب لصالح الانفصال.
لقد أظهر هذا الاستفتاء عددا من المفاهيم الخاطئة. أولا, الفكرة بأنه سيتم إنشاء دولة واحدة جديدة. لكن, من الأهمية بمكان أن يعترف المجتمع الدولي بأن التصويت سيؤدي إلي قيام دولتين جديدتين. ,ونتيجة لذلك] ستتأثر الديناميات الاقتصادية للشمال تأثيرا عميقا, ذلك لأن الجنوب — الغني بالنفط والذهب والنحاس ومصادر المياه, والذي يملك أخصب تربة زراعية في أفريقيا — كان المصدر الرئيسي للموارد الطبيعية لعدة عقود. وبصرف النظر عن الاعتبارات الاقتصادية فإن جنوب السودان الذي يعمل بالفعل كجزء مستقل لمدة دامت ست سنوات لن يؤخذ بعد ذلك في الحسابات السياسية للشمال, وهو ما يحتمل أن يعرض حدوث انشقاقات عميقة داخل النخب الحاكمة في الخرطوم.
وهناك مفهوم خاطئ آخر هو أن جنوب السودان سيكون دولة فاشلة في اليوم الأول للاستقلال. بيد, يعكس الواقع غير ذلك: ففي السنوات الثلاث الماضية تم تحويل جوبا إلي مدينة جيدة الأداء, تدب فيها الحركة حيث أقيمت فيها عشرات الفنادق, وتخترقها شوارع معبدة, ويوجد فيها نظام شامل لتوصيل المياه. وعلاوة علي ذلك, باستطاعة جوبا دفع الموارد إلي الأقاليم بصورة متزايدة. وهناك مجتمع مدني متنامي, وقطاع خاص يقوم بأعماله بصورة فاعلة. وبتوصية من الحكومة, شهد الجنوب تدفقا من رجال الأعمال الأفارقة من دول مجاورة مثل تنزانيا وأوغندا للمساعدة علي دفع عجلة الاقتصاد إلي الأمام. ولهذه الدول مصالح قوية في نجاح الجنوب, حيث تأمل في تأمين منطقة فاصلة بينها وبين ما تراه كشمالا إسلاميا عدوانيا. وعلي الرغم من أن هناك قلقا من وجود اتجاه استبدادي في جنوب السودان, لا يزال البرلمان يسمح بوجود معارضة تقوم بأعمالها بصورة فاعلة.
إن المفهوم الخاطئ الأخير — وذو الأهمية الكبري — هو أن الشمال يزداد قوة يوما بعد يوم. كما أن الخرطوم التي تواجه أزمة انفصال وشيكة تعاني من تفشي الانقسام; وبالفعل, من المرجح أن يحدث تفكك في الشمال أكثر بكثير من حدوثه في الجنوب. ويحارب حزب المؤتمر الوطني من أجل بقائه في عدد من المناطق وليس فقط في دارفور التي تعترف حكومة البشير سرا أنها لن تستطيع السيطرة عليها قط. ولم يخسر حزب المؤتمر الوطني الحكم فقط في ##أعالي النيل##, بل خسر أيضا السيطرة علي أراض إضافية خارج حدود المنطقة, بما في ذلك ##جبال النوبة##.
وضمن حدود شمال السودان, عادت قوات التمرد إلي الانضمام إلي جوبا بينما يواجه الجيش تهديدات بحدوث انقلاب من قبل إسلاميين اختارهم بنفسه الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي. وقد ضعف الجيش الشمالي بشدة بسبب حركات التطهير المتكررة التي ترمي إلي منع حدوث انقلاب مما حد من عدد القوات العسكرية في الشمال إلي 4000 جنديا فقط في الخرطوم. وعلاوة علي ذلك, ومع كون مناطق التجنيد التابعة للخرطوم قد خرجت من نطاق سيطرتها المحكمة, أصبحت قدرة العاصمة علي تجنيد جنود جدد محدودة, كما أن الأجانب هم الذين يتولون قيادة قواتها الجوية. وهكذا, فإن الشمال الذي له جنود مقاتلين بعدد أقل مما لدي الجنوب, هو ليس في وضع يسمح له بغزو الجنوب. وعلاوة علي ذلك, فإن عودة 1.5 مليون شخص علي الأقل من بين 2.5 مليون من الجنوبيين — الذين شردوا داخليا — إلي الشمال إنما يحرم الشمال من النفوذ المحتمل المتمثل في استخدام مثل هؤلاء الناس كرهائن.
ولتجنب قيام الخرطوم بالمراهنة علي حسابات خاطئة خطيرة, يجب علي واشنطن التصرف بسرعة وبطريقة استراتيجية لضمان استقرار المنطقة. أولا, يجب علي الولايات المتحدة أن توفر فورا ضمانة أمنية للجنوب, وهذا لن يخدم فقط كرادع للشمال بل ان التصور بوجود أمن متزايد في جنوب السودان يمكن أن يساعد جوبا علي تقديم التنازلات الضرورية للتوصل إلي اتفاق لتقاسم العائدات مع الشمال. ثانيا, يتعين علي الولايات المتحدة الدخول في اتفاقية للتجارة الحرة مع جنوب السودان لتسهيل قيام استثمار أمريكي في الجنوب. ثالثا, يتعين علي واشنطن أن تقيم سفارة في جوبا, وبذلك ستبعث رسالة مفادها أن الولايات المتحدة — لما لها من مصالح أمنية واقتصادية ودبلوماسية في الجنوب — مستعدة للبقاء لفترة طويلة. وأخيرا, ينبغي علي الولايات المتحدة أن توسع نطاق الجهود المبذولة لزيادة القوة العسكرية لجنوب السودان من أجل تقليل خطر نشوب حرب مستقبلية والمساعدة علي تحقيق الاستقرار في المنطقة علي حد سواء.
ريتشارد وليامسون:
يشكل السياق التاريخي للصعوبات التي واجهتها السودان بسبب التهميش أمرا مهما لأجل فهم ديناميات الموقف الراهن. فقد تمت محاباة مجموعة صغيرة من المسلمين العرب من النيل الشمالي أثناء الإمبراطورية العثمانية المصرية, ومرة أخري أثناء الإمبراطورية البريطانية المصرية مما أسهم في انتشار الكراهية تجاه الحكومة الحالية في الخرطوم. وتبرز نهاية الأعمال الحربية الإنجاز العظيم الذي حققه ##اتفاق السلام الشامل##; لكن مثله مثل اتفاقات أخري من هذا القبيل فقد ترك الكثير من القضايا الجوهرية للمستقبل. ومع اقتراب المرحلة النهائية, من المهم النظر في الدروس المستفادة من التعاملات التي قام بها جيش التحرير الشعبي السوداني وحزب المؤتمر الوطني في السنوات الست الماضية:
_ لم يجعل الشمال الوحدة هدفا جذابا.
_ استمر الشمال في التورط في اتباع طرق وحشية وسفك الدماء باستخدام وكلاء مثل الميليشيات الإسلامية.
_ الجنوب الذي تم الحفاظ عليه سوية, بسبب قدرة وجاذبية وقيادة جون قرنق, قد نجح بشكل كبير من خلال قيادة رئيس [حكومة جنوب السودان] سلفا كير ميارديت — بيد, قد لا يكون هذا النجاح دائما.
_ كان الشمال متعجرفا حول نقض الالتزامات, وهو نمط من غير المرجح أن يتغير.
وعلي الرغم من أن الاستفتاء ينهي مرحلة واحدة من العملية إلا أنه يبدأ مرحلة أخري. ومن أجل تعكير الموقف دبلوماسيا, سيقوم الشمال بتحدي الاستفتاء حول أي عدد من الأسباب, مثل محاولته التفاوض علي تعريف الانفصال. إن الكثير مما يفعله الشمال بعد الاستفتاء سيشمل عنصرا قويا للمسرح المعد لكسب النفوذ. وعلي الرغم من وجوب إبرام اتفاقات حول قضايا مثل الحدود وتقاسم عائدات النفط, إلا أن ميل الشمال تاريخيا كان يتمثل بعدم القول: لا, ولكن أيضا الامتناع عن القول: نعم. وهذه التكتيكات التي تشمل النقاش والتشاور والتأجيل وأخيرا الرفض سوف تميز المرحلة التي تسبق المفاوضات في الربيع المقبل, ويمكن أن تثبت في النهاية بأنها خطيرة. ومع ذلك, وبصورة مؤقتة, من غير المرجح أن تؤدي تحركات القوات علي طول المناطق المتنازع عليها, إلي حرب شاملة.
وفي حين تركز اهتمام الصحافة الأخير علي استقرار جنوب السودان إلا أن التهديد الفعلي في الحقيقة هو الفوضي المحتملة في الشمال. فليس فقط لا يمكن أن يتحمل الشمال خسارة 70% من عوائده النفطية لصالح الجنوب, بل إن نجاح الحكومة في البقاء في منصبها بالذات هو مهدد بسبب التطرف المتنامي في المنطقة. ولو تفككت الحكومة في الشمال, فبإمكان الإسلاميين المتطرفين — الذين لهم بالفعل وجود كبير في شمال السودان — الاستيلاء علي السلطة وخلق عصبة إرهابية تمتد من الصومال, مرورا بالسودان وحتي ليبيا. كما أن علاقات إيران الوثيقة مع الخرطوم تمثل أيضا إشكالية عميقة.
وبسبب المخاطر المرتبطة بالانفصال يجب علي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أن يبذلا قصاري جهدهما لضمان قيام الحد الأدني من عملية استفتاء ذات مصداقية, لكي ينظر بأن النتائج تعكس رأي الأغلبية. ومن المرجح أن تحيط جيوب العنف بعملية التصويت التي سيحاول الشمال استغلالها كادعاء بعدم شرعية الاستفتاء. ولو كسبت هذه المناورات موطئ قدم فربما يتجرأ الشمال علي التحرك علي مسار الحدود لخلق ##حقائق علي أرض الواقع##. إن المراهنة علي هذه الحسابات الخاطئة علي الحدود يمكن أن تؤدي إلي المخاطرة بقيام أعمال عنف أوسع نطاقا بل وحتي العودة إلي الحرب.
ويقوم جيران السودان والمجتمع الدولي بمراقبة الاستفتاء القادم بتوجس. فلدول شرق إفريقيا والقرن الإفريقي مصالحها الخاصة بها والتي تعني بالدرجة الأولي رؤية جنوب مستقر مع حدود يمكن الدفاع عنها بحيث تخلق منطقة فاصلة ضد ما يمكن أن يتحول إلي شمال إسلامي أكثر تطرفا. وأما الدول العربية فتخشي قيام مثل هذا الشمال المتطرف, فضلا عن إمكانية أن يصبح الشمال دولة فاشلة مع ما ينتج عن ذلك من تدفق للاجئين. إن عدم الاستقرار في السودان يمكن أن يتحول إلي عدم استقرار في المنطقة بحيث ينتقل إلي العديد من الدول المجاورة. وربما تتعرض مصر علي وجه الخصوص لضرر شديد: فعلي سبيل المثال, يمكن للتنمية في الجنوب أن تؤثر بصورة سلبية علي تدفق نهر النيل لو تم استخدام المزيد من مياهه للزراعة.
وعلي الرغم من أن الولايات المتحدة ستبذل قصاري جهدها لتسهيل إجراء استفتاء وقيام مفاوضات سلمية نسبيا, إلا أنه يجب عليها أن توضح وجود تهديد حقيقي من العواقب. فبعد تعاطيها بصورة كبيرة مع حكومة شمال السودان, تدرك واشنطن أن الحوافز ليست كافية لتشجيع قيام تعاون. إن قيام اتفاقية أمن أمريكية مع الجنوب يجب أن تدعم بإجراءات موثوقة لجعلها ذات فعالية. وهكذا, فإن قيام جنوب أقوي يمكن أن يعني وقوع أذي أقل مع الشمال. لكن معرفة فيما إذا كان بالإمكان هندسة توازن عادل وعملي بين دولتين تتمتعان بمثل هذه العلاقة الطويلة من عدم الثقة العميقة, هو أمر يخضع للتساؤل.
——————–
في 17 ديسمبر 2010, خاطب أندرو ناتسيوس وريتشارد وليامسون منتدي سياسي خاص في معهد واشنطن لمناقشة تداعيات الاستفتاء السوداني المقبل. وقد شغل السيد ناتسيوس سابقا منصب مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلي السودان, ويعمل حاليا عضو هيئة تدريس بكلية إدموند أي. وولش للخدمات الخارجية في جامعة جورج تاون. والسيد وليامسون زميل أقدم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية, وزميل أقدم غير مقيم في مؤسسة بروكينجز, وقد شغل هو أيضا من قبل منصب المبعوث الأمريكي الخاص إلي السودان. وفيما يلي خلاصة المقرر لملاحظاتهما.
معهد واشنطن