تأليف:يوسف القعيد
الناشر:
دار ابن رشد-بيروت-1978
دار الشروق-2008
في مصر شاهدت أشياء كثيرة ولكني لم أنطقهذه مقولة لهيرودوت يبدأ بها الكاتب والروائي الشهيريوسف القعيدروايتهالحرب في بر مصرالتي صدرت الطبعة الأولي عام 1978 عن دار ابن رشد في بيروت ثم أعيدت طباعتها عدة مرات إلي أعادت دارالشروقالمصرية طباعتها مجددا عام 2008 وترجمت إلي عدة لغات أجنبية منها الروسية والإنجليزية والإكرانية, كما أنها تحولت إلي عمل سينمائي أنتج عام 1991 في فيلم يحمل اسمالمواطن مصري بطولة الفنانين عمر الشريف,عزت العلايلي,صفية العمري,عبد الله محمود,وإخراج صلاح أبو سيف, أن قراءة هذه الرواية تحمل الكثير من المتعة والعمق,كما أنها تذكرنا بتضحية جيل بأكمله في حرب السادس من أكتوبر التي نحتفل بذكراها السادسة والثلاثين في هذه الأيام.
يبدأ الكاتب روايته التي تدور أحداثها في قرية من قري مصر قبيل حرب السادس من أكتوبر 1973 بوصف معبر عن فرحة العمدة بعودة أرضه التي أخذت منذ 1945 قائلا:أمس كان يوما عظيما..أول يوم يدخل قلبي الفرح وتلمس نفسي السعادة منذ سنوات مضت ..كرامتنا عادت إلينا..ولأن سعادتي بعودة الأرض ما بعدها سعادة أخري في العالم كله تمنيت أن أموت ساعتها,ولكن القدر لم يمهل العمدة ليستمتع بفرحته فألقي بقنبلته في وجهه حين استلم إشارة المركز التي تخبره بضرورة إرسال ابنه للتجنيد فجلس حزينا طالبا الرحمة لوالده وهو يقول:لن أنسي كلماته أبدا..إذا وجدت الدنيا مقبلة عليك..وفي يدها اليمني نعمة كبري..لابد و,أن يدها اليسري خالية..لأنها تأخذ باليد اليسري ما أعطته باليد اليمني..
يجلس العمدة حزينا يبحث عن حل لمشكلة ابنه المطلوب للتجنيد,وفي نفس الوقت حضر كاتب التليفون وعلم بالأمر فقال للعمدة:إن الأمر بسيط ولا يستوجب كل هذا التفكيروأشار عليه بالمتعهد الذي يملك الحل لكل المشاكل مهما كانت صعوبتها,والمتعهد هذا كان يعمل مدرس إبتدائي,وقد ألقي القبض عليه في قضية رشوة,وفصل من عمله فزالت عنه صفة المدرس وبقيت له صفة المتعهد الذي يستطيع فعل كل شيء,واستراح العمدة لهذه الفكرة مستندا علي علاقاته وأمواله التي يقول عنها: نحن في أيام شعارها معروف معك قرش تساوي قرشا..وأنا والحمد لله معي ملايين القروش..وما دام القرش أصبح رب هذه الأيام,فلن أخاف أبدا من أي احتمالات..وقريبا سيجرون عمليات جراحية للناس في بلدي يستأصلون فيها القلوب..ويعلقون مكانها جنيهات ذهبية تخفق بدلا من القلوب..وتدفع بالقروش الذهبية بدلا من كرات الدم الحمراء والبيضاء..وعندما يحدث هذا ستعود إلينا الهيبة والجاه ونصبح ملوك مصر من جديد.
طريق أبو زيد كله مسالك
ذهب العمدة إلي المتعهد في المركز وقص عليه الأمر فبعث فيه الاطمئنان وأشار عليه أن الحل الوحيد لمشكلة الابن المطلوب للتجنيد هو سفره لمدة خمس سنوات خارج البلد,وإرسال شاب آخر مولود في نفس اليوم إلي التجنيد,ثم نقرأ علي لسان المتعهد ما يشير للظروف التي كانت تمر بها مصر في هذه الفترة:البلد سابت والكل يعمل ما يريده دون خوف..من يرغب في السفر يسافر من يبغي الهرب حر في الهروب ,طريق أبو زيد كله مسالك,وكل الطرق تؤدي إلي ما يريد القادر علي الدفع..وما دام معك قرش,فأنت قادر علي فعل ما يساوي هذا القرشوبعد البحث والتنقيب يقع الاختيار علي مصري ابن الخفير النظامي الخارج علي المعاش,وهو ذلك الشاب المعروف بذكائه وتفوقه ورغم ذلك اضطر إلي ترك المدرسة, لكي يساعد والده الكبير في رعاية ثلاثة أفدنة تم استئجارها من الإصلاح الزراعي,ولأن العمدة كان معجبا بهذا الشاب رفض الفكرة,وطلب من الكاتب البحث عن شخص آخر,ولكن الكاتب أكد له أنه أنسب شخص لهذه المهمة خاصة أنه وحيد علي خمس شقيقات ومعفي من التجنيد,وعلي الرغم من هذا ذهب إلي مكتب البريد ليسأل عن استمارة تطويع للجيش واستطرد الكاتب قائلا: إن الخدمة في الجيش هي الوسيلة الوحيدة للحصول علي وظيفة مضمونة..يوجد نظام في القوات المسلحة أن من يخدم فيها لابد من تعيينه في وظيفة ثابته علي درجة حكومية بمجرد انتهاء خدمته ..مصري سيذهب إلي الجيش سواء باسمه أو بديلا عن أحد..ولا يوجد فرق بين ذهابه متطوعا أو علي أنه ابن العمدة ,وأخيرا وافق العمدةمعللا فعلته بقوله:إن والدي يقول عمر هذه الشجرة يعود إلي زمن المماليك شجرة العائلة وتقوست واقتربت من الأرض..ولما كان كان عمر هذه الشجرة يعود إلي زمن المماليك والأتراك في مصر فلا يصبح من حقي العبث به.
العمر كله جوع
وننتقل من رواية العمدة إلي مارواه الخفير والدمصريقائلا:سمعت طلقات الرصاص تنطلق من دوار العمدة فرحت..فرح أي إنسان في البلد يعد فرحا للكل.. لم يدر بخاطري أن بلدي ستعرف أياما عصيبة سيكون فرح إنسان ما فيها,غما وكربا لإنسان آخروفي هذه اللحظة حضر ابنهمصريوالهموم والمشاكل تتعارك علي وجهه وقال:صدر حكم قضائي اليوم بعودة الأرض التي أخذها الإصلاح الزراعي من العمدة ووزعها علي الفلاحين ..و##أن البوليس سيأخذ الأرض من المنتفعين وسيسلمها إلي العمدة, وبعد ثلاثة أيام قضاها الفلاحون في خوف وترقب ,حضر الضابط وجمعهم ليخبرهم بضررة تسليم الأرض خلال يومين,ومن يرفض سيتم الاستيلاء علي الأرض بقوة السلاح,ويصف الخفير هذه اللحظة قائلا:تفرقنا ويبدو أن الضابط أعطانا هذه الفرصة لنختلف ..بعضنا أعلن أنه سيهاجر تاركا مصر بعد أن انتشر الظلم فيها بهذه الصورة..يأخذون ممن لايملك ويعطون لمن معه الدنيا بما فيها..البعض قالوا إنه أشرف أن نشتري بثمن الأرض والمواشي أسلحة ونقاوم حتي الحكومة نفسها.
يستغل العمدة فقر وعوز الخفير ويطلب منه إرسالمصريإلي الجيش بدلا من ابنه في مقابل إغرائه بالعطايا والأموال التي ستفيض عليه إلي جانب بقائه في العمل علي حراسة الدوار والمخازن,وعدم أخذ الأرض منه وهنا يتذكر الخفير حالة قائلا:طول عمري وأنا أعاني من الجوع..الجوع إلي النوم..الجوع إلي اللقمة..والجوع إلي الهدمة..والجوع إلي الراحة..العمر كله جوعوأخذت الأفكار تتراقص في عقل الخفير وقال مترددا:عروض العمدة وما وعدني به جعل رفض الموضوع ليس أمرا سهلا كما تصورت خاصة الأرض, وبالفعل تم للعمدة ما أراده وحتي لاينكشف هذا الأمر تم استخراج أوراق إثبات جديدة لمصريباسم ابن العمدة وأخذ منه كل ما قد يثبت هويته الحقيقية .
المفاجأة
لم يعلم أحد بهذا السر سوي صديقمصريفي الجيش الذي أوصاه بأن يفشي سره إذا استشهد في الحرب وأن بدفن علي أنه مصريابن الخفير وليس ابن العمدة حيث يخبرنا بعد استشهاده في الحرب بصفاته قائلا:مصري كان شابا ينضج بأشواق..فيه الكثير من تناقضات بلدنا ..حب الدنيا والزهد فيها..الجرأة والخجل..الخوف والشجاعة..الواجهة المسالمة..والباطن المتفجر بالثورة والتمرد..تعبت نفسي طويلا في البحث عن كلمة أصفة بها..ها قد وجدتها..مرتاب؟متشكك؟مراهق؟كان سيظل هكذا حتي لو عاش التسعين من العمر..حياته كانت فصولا متصلة ومستمرة من العذاب الذي لانهاية لهومن المؤسف إننا نعلم أن العمدة ماطل ولم يعط الخفير الأرض وأخذها منه بحكم القانون ثم شاركه في زراعة قطعة منها ورفض حتي كتابة ورقة بهذا الوضع الظالم.
ذهب الصديق لتسليم جثمان مصري إلي أهله رأي في الطريق إلي قريتهمصريمشاهد من البؤس والشقاء غير المحدود أثارت في نفسه كثيرا من الحزن والشجن جعلته يقول:ففي الحرب التي أنهوها أمس فقط..كان العدو من الخلف ومن الأمام,وكل رصاصة انطلقت في اتجاه سيناء السلبية كان لابد أن تقابلها رصاصة أخري إلي الخلف باتجاه مصر المقيدة والمحتلة بمحتل من نوع آخر بالفقر والتخلف والظلم والقهر..ولكننا لم ندرك..وجهنا كل الجهد نحو العدو الظاهر الواضح..تركنا الأعداء السرطانية الخبيثة تلك التي لا وجود لها أمام العين..كان لنا العذر..تصورنا أن أهلنا سيقومون بتلك المهمة بدلا منا,ولكنهم خيبوا ظننا.وهذا ما يجعلها مهمتنا الآن..التي لابد وأن نقوم بها..لن يتأخر ذلك..التأخر معناه أن السرطان سيسري في جسم الوطن بشكل يصعب معه العلاج..من يدري فقد يصل استفحال الخطر إلي أن يصبح العلاج الوحيد هو استئصال الجسم كله,والحلان أحلاهما مر.
وهنا لابد أن يصف الكاتب حال المصريين الذين ضحوا بأرواحهم في الحرب بينما ذهبت عائدات النصر إلي طبقة الأثرياء التيب لم تشارك في الحرب فنراه يقول علي لسان الصديق:إن الدرس الذي تعلمته اليوم جيدا.. إن بلدنا أصبحت مثل القطط تأكل أبناءها بدون رحمة, وأن هؤلاء الأبناء أنفسهم يخرجون إلي الدنيا مثل السمك الكبير يأكل الصغير..لننظر جيدا إلي بلدنا الآن,أنه عالم غريب ملغوم وآمن ,صعب وسهل محب وحاقد,متخم وجائع..ولكنه لنا علي أية حال وهنا القضية ..هذا البلد لنا كيف ومتي؟ولمن منا بالتحديد؟…عصر الحروب انتهي..ويبدأ في مصر عصر الكلام ولأن الكلمات تشتعل من بعضها البعض فلن يعرف بر مصر سوي الكلمات.
يقوم الضابط بتسليم الجثة إلي أهل الشهيد وعندها يفاجأ بالحقيقة,حيث يتجمع أهالي البلد ويطلبون منه إبلاغ المركز لينال العمدة عقابه علي الجرائم التي ارتكبها,وهنا يصف الضابط إحساسه قائلا:وضعتني كلمات الرجل أمام جريمة متكاملة الأركان شعرت إن يدي ملوثتان بدم الجثة الموجودة في الصندوق.علي أن أتصرف ,كان الجريمة من نوع فريد ومبتكر ليست سرقة أو قتلا أو حتي تزويرا في أوراق رسمية,جريمة لم يخترع لها اسم بعد لأنها لم تحدث من قبل في مصر أو في أي بلد من بلاد العالم.
مصري..وتزييف الحقائق
ذهب الجميع إلي المركز وبدأ المحقق التحقيق,ولكنه فوجيء بمندوب الشرطة العسكرية يأخذ عليه أنه بدأ التحقيق في قضية عسكرية دون حضور الشرطة العسكرية أو إخطارها وهي جهة الاختصاص الوحيدة وقال:إن القوانين تفرض أن يتم تحقيق جديد بمعرفتهم وتحت إشرافهمرفض المحقق هذا وقال:إن الواقعة كلها تمت هنا ..بعيدا عن المعسكرات والجيش ولابد من المضي في التحقيق حتي نهايته وليكن ما يكون فجأة أتت التعليمات صريحة وواضحة يقفل التحقيق واعتباره كأن لم يكن ودفن الجثة.
تبين لنا الرواية كيف تزيف الحقائق فيقول أحد المسئولين الكبار للمحقق: لاتوجد قضية ولا غيره..ابن الخفير ذهب إلي الجيش وأنه يدرك وضاعة أصله ويريد أن يتمسح في الكبار أولاد الذوات أملي بياناته من اليوم الأول خطأ..لهذا عندما استشهد تم هذا الاستشهاد بالاسم الذي أرتضاه لنفسه..برغبته الكاملة.
يزيدنا الكاتب حزنا وكمدا عندما نعلم أن الذي يحصل علي التكريم الأدبي والمستحقات المالية هو العمدة وليس الخفير والد الشهيد الحقيقي,حيث يرفض العمدة التنازل عن المستحقات معتبرا أن هذا استدراج إلي فخ وأن تنازله معناه أنه أرتكب جريمة تزوير والتنازل يتساوي مع الاعتراف ولعل هذا يذكرنا بمقولةأمل دنقلفي رائعتهالبكاء بين يدي زرقاء اليمامة حين يقولأدعي إلي الحرب..ولا أدعي إلي المجالسة,كما أن مما لاشك فيه أن لاختيار اسممصريدلالة رمزية في إشارة إلي كل فرد مصري من الطبقة الكادحة يستغل عرقة لخدمة مصالح طبقالت أخري هذا إلي جانب أن هذه رواية تنطق بالفقر والمعاناة والظلم والجبروت وأستغلال النفوذ الذي يبرزه الكاتب بشدة بعد استشهادمصري في حرب أكتوبر وانكشاف القصة كلها لدي المسئولين وكيف تم وأد القضية بعد أن أستغل العمدة سلطاته ونفوذه.