تحت عنـوان “أحمد درويش ـ رحلتا النقد والإبداع” وبباخرة مرسى النهر الخالد بالمعادى, أقام فرع ثقافة حلوان التابع لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافى برئاسة الكاتب أحمد زحام مؤتمرا رأسه د. حمدى السكوت بالجامعة الأمريكية وتولى أمانته الشاعـر فولاذ عبد الله الأنور رئيس نادى الأدب المركزى لفرع ثقافة حلوان، ضمن فعاليات المؤتمر بدأت جلسة الأبحاث برئاسة أ.د. السيد فضل، وبدأ الحديث د.علاء رأفت عميد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والذى أشاد بالدكتور أحمد درويش الذى ارتبط بعدد كبير من المستشرقين الأجانب، وأنه سينضم لقائمة شرف الخالدين وسيظل نهر عطاء يتدفق.
الأصالة والمعاصرة
وقد أثار د.محمد زكريا عنانى أستاذ الترجمة إلى أن المسألة تزداد تعقيداً إذا ما تعلقت بترجمة الشعر, وأن الترجمة مثل المرأة عندما تكون جميلة لا تكون مخلصة وعندما تكون مخلصة لا تكون جميلة, وقد اختار د.أحمد درويش القالب التفعيلى بدلا من النثر وبدلا من البناء التقليدى، ولذلك امتاز شعره بالسهل الممتنع, ولاشك أن شاعرنا الكبير اتسم بقدر موفور من الرهافه والحذق واستطاع أن يتلمس السبيل للكثير من نص ” جاك بريفير “ولكن من السهل أن يلحظ القارئ زيادات هنا ونقصاً هناك.
ثم تحدث محمد على سلامة الذى توجه بالشكر للهيئة العامة لقصور الثقافة على إقامتها لهذا الاحتفال تكريماً للدكتور أحمد درويش الذى نهل من الثقافة الفرنسية واتقن لغتها حينما أراد أن يصوغها, حيث تهيأت كل العوامل لتكوين مثقف يجمع بين الأصالة والمعاصرة، لينعكس ذلك على نتاجه النقدى، وظهر ذلك فى نتاجه الثقافى تأليفاً وترجمه فقد ألف العديد من الكتب التى تعبر عن هذا المزيج الثقافى العميق.
أفئدة الطير
كما تحدث أمجد ريان عن ديوان أفئدة الطير قائلاً إن أهم ما يميز هذا الديوان هو هذه الأبعاد العروبية التى صُبت فى روح مصرية أصيلة دون أن يمنع هذا إمكانية الاستفادة من الشعر الأدبى، وقد تنوع الديوان تنوعاً هائلاً ما بين التوجهات الاجتماعية والعاطفية والتاريخية بل وهناك قصائد احتوت معان ذات طابع سياسى, سواء بشكل متضمن أو بشكل صريح مثل القصيدة التى ينحاز فيها الشاعر إلى المناضلين السياسيين من أجل الحق، وهى قصيدة “المعذبون فى السجن” ولكننا يمكن أن نختلف مع هذا الشاعر الكبير فى بعض القضايا منها أن تجربته الحقيقة هى تجربة رومانسية فى المقام الأول, تنتمى كتابة الشاعر إلى الرومانسية, بداية بحجم قصائده متوسطة الطول فهى تميل إلى الطول المبالغ فيه أو إلى القصيدة شديدة القصر، وهما شكلان حداثيان ونهايةً برؤى الشاعر ولغته وخيالاته وصوره الشعرية والرومانسية كمذاهب شكلت تجارب شعراء لا حصرلهم ومازالت تشكل.
الذاكرة الحافظة
واختتمت الجلسة بحديث محمد عليوة الذى أعرب عن أعجابه بجملة ذكرها أحد الأكاديميين فى أحد المؤتمرات وهى “أننا الآن فى زمن أحمد درويش وحسام الخطيب قاصداً أنهما يأتيان فى صدارة الباحثين والنقاد العرب المعاصرين فى ميدان الأدب المقارن.
برغم كل شواغل واهتمامات أحمد درويش إلا أنه لم يعش بمعزل عما يموج به عالم اليوم من هموم ثقافية وأدبية. حيث إنه متابع جيد لكل ما تصدره المطابع ودور النشر كما يحرص على حضور فعاليات اللجان العلمية الثقافية والمؤسسات الأكاديمية باعتباره عضواً فيها, وذلك إلى جانب ترجمته الذاتية التى مازالت حلقاتها على متن مجلة الهلال المصرية الشهرية ودراساته اللغوية، لذلك فهو ظاهرة تستحق الدراسة.
وهناك عوامل هيأت لدرويش أن يبرز فى هذا الميدان من بينها أنه بطبيعته ميال إلى المقارنة حتى ولو لم يكن الموضوع الذى يتحدث فيه داخلاً ضمن أبحاث وميادين الأدب المقارن، فدائماً تتجلى لديه القدرة العائلة والذاكرة الحافظة على استحضار أوجه الشبه والخلاف بين الموضوع الذى يدقق النظر فيه ويرهف السمع له وما يشبهه وما يخالفه سواء داخل محيط الأدب العربى أو خارجه.
أحمد درويش وفتنة الطبيعة
وبعد ختام جلسة الأبحاث بدأ د.حماسة عبد اللطيف بتقديم جلسة الشهادات وبدأت بشهادة د.عبد الرحيم الكردى قائلاً إن اللوحات التى كتبها أحمد درويش صادر على حكمنا عليها لأنه لا ينسى أنه ناقد ومبدع عنوانه يعتبر نصا مستقلا, كلمات العنوان مقتبسه من النص الأدبى وقاموس الناقد الأدبى، وأن بعض المصطلحات تراثى وبعضها حديثه، وهذا هو أحمد درويش وكل ذلك تجده فى العنوان إذا أردت أن تحلله تحليلاً نفسياً.
كما أضاف أن هناك نوعان من كُتاب السيرة, نوع لا يدخل حياته فى مجال السيرة, والبعض الآخر يتحفظ فلا يكتب ما لا يعرف, لكنه كان صاحب منهج فى كتابة السيرة، وذلك عندما كتب المجددون فى الإسلام، حيث قال لن ألتقط من حيواتهم إلا ما يخص التجديد الذى يعنينى، وقد أراد أن يركز على ما يساعد على تكوين أحمد درويش العالم لأنه رسمها عن طريق تجسيد المشاعر تجسيد متقن وتتسع الرؤية مع تطور الزمان وتحول المعنى إلى شئ حى وتحول الزمن إلى لغة.
ثم جاءت بعد ذلك شهادة على السويفى قائلاً إن ما من صراع بشرى إلا ويبطن فى أعماقه صراعاً لغوياً حتى قيل إن كتابة تاريخ الصراعات البشرية كان على أساس صراعاتها اللغوية, ونشير أن العالم الجليل د.درويش فى مجمل إبداعه المتميز طابعه الخاص الذى لا تخطئه الذائقة الأدبية من حيث معمار اللغة الراسخ وبلاغتها وهو من درسها معيداً وأستاذاً وعميداً وطارحها شاعراً وأديباً ود.درويش المبدع تستوقفه فتنة الطبيعة وفتنة الانطلاق والسفر والانفتاح على عوالم كثيرة وثقافات متعددة فرنسية وإسبانية، وقد صنع من هذه الفتن سبيكته الثقافية المنفردة التى جاءت على صورة ومذاق مغاير للسائد والمألوف، وبخاصة فى ساحات الشعر والبلاغة والنقد.
كما أنه كان ومازال موسوعة أكثر من غنية وفاعلة من خلال كتب مرموقة مثل “نظرية الأدب المقارن وتجلياتها فى الأدب العربى 2002 – ثقافتنا فى عصر العولمة” وعندما نمعن فى مصاحبة هذا المبدع الكبير واستجلاب تجلياته وأسلوبه وصياغته تكسب مذاقاً متراكماً ومتنامياً, لا يتوفر لمن يطالعه مرة – أو لأول مرة.
ثم تحدث بعد ذلك د.محمد حسن عبد الله معترفاً بهذا التميز الخاص فى نوع الذكاء للدكتور درويش، فعلى الرغم من غيابه عن مصر زمناً متصلاً ليس بالقليل فأنه – فى غيابه كما فى حضوره- مذكور يدخل فى الحساب ويشعر مكانه إذا غاب حتى يئوب, فإذا عاد تصدر الساحة وكأنه على رأس الموكب يوم الزينة, وبهر الأنظار كما بهرها بندرشاه، فليس لمثله صُنِعت دكة الاحتياطى فإذا تحدث إلى غيرك أيقنت أنه يتحدث إليك، وبعد قليل تشعر أنه يتحدث عنك فإذا انصرفت إلى نفسك وتحدثت فى داخلك وجدت أنه هو الذى يتحدث وما عليك إلا أن تستعيد معجباً.
رائحة الخبز .. رائحة الحياة
واختتمت الجلسة بشهادة د.رشا صالح زوجة د.أحمد درويش وكانت بعنوان “رائحة الخبز … رائحة الحياة” قائلة تحملنى كلماته المشعة إلى عوالم نداهة الإبداع السحرية عوالم أرضها رمال يقين متحركة وسماؤها مليئة بأرق معان تخطى على جنبات الروح.
ففى تحليل آسر لإحدى غزليات العقاد يغوص فى بحرهما الغنائى ويلفت النظر إلى أن القافية المضمومة, هى قبلة إلى المحبوبة, وأنها جعلت الشاطئ الذى تنكسر عليه موجة البيت رمليا ناعما متدرجا لا نحس معه ما نحس مع القافية الساكنه أحيانا من قوة ارتطام الموج بالصخر، وفى قراءته لقصيدة الخيول “لأمل دنقل” تروض كلماته خيول الشاعر المغيرة الجامحة لدرجة أن القارئ يسمع صهيلها ويلفه غبار أرض البرية الذى تثيره أثناء عدوها, تشم رائحة كوخ “محمود حسن إسماعيل” ونستمع إلى عزيف الرياح, وصراعها مع النخيل ولا تختلف قراءاته النثريه عن الشعريه فهو فى الأصل حكاء ممتع دون ثرثرة, طيع اللسان, سيال القلم, وفى نقده النثرى ينفذ إلى المادة الأدبية يثير حولها القضايا والتساؤلات ويمحو الحوائط الصارمة بين العصور.
فالعمل هو فرض العين فى حياته, وفيما عدا العمل, فيتأرجح ما بين النوافل وفروض الكفاية, ففى صحبته تشرق دنياى وينشرح صدرى, وينتفض عقلى, ويضيئ كيانى وتمتلئ نفسى فى صحبته أى كلمات تفى حقه؟ وأى عبارات تصف قدره؟ ولكنها تبقى كلمات قلب زوجة محبة لزوجها الذى أحب الله فأحبه عباد الله.
وبعد ختام جلسة الشهادات اختتم د.حماسه المؤتمر بتقديم أمسية شعرية ألقاها كل من الشاعر محمد عبدالفتاح, الشاعر إيهاب البشبيشى.