حلمت بالطفل المصري مبدعا فنظرت في مرآة ثقافتنا ولم أجد فراشا يأوي هذا الحلم, قال هذه العبارة ثم أطلق تنهيدة ملؤها الأسف. إن الشاعر أحمد زرزور, رئيس تحرير مجلة قطر الندي – مجلة أطفال, تصدر عن وزارة الثقافة, نظر زرزور إلي أوراقه وأمسك بقلمه وكأنه يستعد لكتابة قصة مثيرة ثم بدأ يقص علي حكاية هذا الحلم منذ البداية قائلا:
في الصف الأول الإعدادي كتبت أول قصيدة كانت عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, كان ذلك عام 1964, ألقيتها أثناء طابور الصباح, وبالطبع كانت غير مكتملة الوزن والقافية,لكنها لم تخل منهما تماما, توقعت تشجيعا ممن حولي إلا أنني فوجئت بنظرات الشك في عيونهم نتهمني. فربما سطوت علي قصيدة لأحد الشعراء. ونسبتها إلي نفسي, حزنت لكن لم يؤثر هذا الموقف بالسلب في مسيرتي بل دفعتني لتنمية وإثبات موهبتي…
* موقف مؤسف لكنك أعلنت التحدي وتفوقت.. لذلك دعنا نبدأ من رغبتك في الكتابة للأطفال تحديدا. هل هي المحرك الأساسي في إبداعاتك أم هناك ما هو أبعد من هذا؟
** نعم,فتلك الرغبة لها جذور قديمة. فعندما كنت أدرس في المرحلتين الابتدائية والإعدادية كنت غاضبا علي النصوص الشعرية التي يتم تدريسها لنا,لصعوبة ألفاظها وبعدها عن المعاني والأحاسيس المرتبطة بالطفولة بل وغلبة الجفاف والجمود عليها, وعدم التناغم نهائيا بينها وبين الأطفال وقضاياهم.
كنت أتساءل دائما: ما أهمية أن يدرس الطفل قصيدة تصف معركة أو جبلا؟ لماذا لا يكتبون لنا عن أحلامنا وهمومنا, ورغم تفوقي في اللغة العربية إلا أنني كنت فاشلا في حفظ تلك الأشعار وتمنيت أن أصبح شاعرا للأطفال لأكتب لهم ما يتمنون, فاحتفظت برغبة انتقامية بداخلي من تلك النصوص الشعرية المدرسية السخيفة, وكتبت أول مجموعة شعرية للأطفال في أواخر الثمانينيات تحت عنوان ويضحك القمر وفزت بجائزة الدولة التشجيعية عنها عام 1991 فأدركت أني حققت حلمي.
صمت زرزور فجأة كأنما تذكر شيئا مهما لم يقله, استند إلي المكتب وأحني رأسه وكتفيه في تواضع شديد وقال: حققت أيضا حلمي عندما تم اختيار أشعاري لتدرج ضمن المناهج الدراسية في المرحلة الابتدائية.
* دون أن أدري أطلقت تنهيدة وسألته: كيف تم ذلك؟ فقال:
** اتصل بي المسئولون في مركز تطوير المناهج بوزارة التربية والتعليم وكلفوني بإعداد بعض النصوص الشعرية المختلفة في موضوعاتها وقضاياها التي تهم الأطفال في سن الصفين الأول والثاني الابتدائي, تركوا لي حيرة الاختيار, تجسد الحلم القديم أمام عيني وشعرت أنني أمام ملايين الذين سيحفظون أشعار ربما تثبت في أذهانهم طوال العمر, وتذكرت ما كنت أدرسه وكانت الفرصة للتغيير في الجزء الذي كلفت به…
* وماذا تتناول تلك الأشعار؟
** تتناول كل ما هو مبهج,فواحدة عن الربيع, وأخري عن الحواس الخمس وثالثة عن مشاعر الطفل تجاه أبويه ومعلميه.
* أليس من الغريب أن تكون مهتما هذا الاهتمام الشديد بأدب الطفل ثم يصدر أول ديوان لك في عام 1986 تحت عنوان الدخول في مدن النعاس للكبار؟!
** لم يكن من الممكن أن أبدأ بشعر الأطفال, لأنه يتطلب مسئوي عاليا جدا من الحرفية, لذلك كان لابد للبداية أن تكون للكبار لأصعد إلي مستوي الأطفال, فالكتابة لهم صعبة جدا.
* ما أوجه هذه الصعوبة؟
** هذا النوع من الكتابة يتطلب موهبة غنية من الإبداع تتلازم مع احتفاظ المبدع بطفولة يقظة بداخله طوال الوقت لتلهمه الأساليب والأفكار والأحاسيس الطفولية التي يتناولها إبداعيا عندما يكتب للطفل.
كذلك علي من يقدم إبداعا للطفل أن يلم بالثقافات التربوية والإنسانية الخاصة بعوالم الطفولة والتربية الحديثة,ليستطيع اكتشاف الشفرة المناسبة للتخاطب مع جمهوره من الصغار.
* إذا هناك مواصفات لشعر الأطفال علي الشاعر الالتزام بها.
** بابتسامة هادئة وإيماءة قوية هز زرزور رأسه وقال: طبعا فيجب أن يتسم بالسهولة ويكون مستلهما من عوامل الأطفال واهتماماهم وأن يكون قصيرا لأن الأطفال بطبعهم يملون النصوص الطويلة. أيضا أن يكون للكلام إيقاع غنائي ليسهل حفظه وترديده, مع مراعاة القاموس اللغوي المناسب لكل مرحلة عمرية, فهناك قاموس خاص بالأطفال من السادسة إلي التاسعة وآخر أكثر تطورا من التاسعة للثانية عشر, وثالث من الثانية عشر إلي الخامسة عشر, ثم من الخامسة عشر إلي الثامنة عشر وهي أقصي مراحل الطفولة. كل ذلك ينتج للمتلقي الصغير ما يمكن أن يتوقعه دون أن نخذله.
* يبدو أن زرزور لمس جرحا قديما لدي فوجدتني أنظر للفراغ وأتمتم بصوت خفيض: عندما كنت طفلة كثيرا ما خذلني الشعراء وقلما حصلت علي ما أتوقعه فيما أقرأ… قاطعني قائلا:
** علي الشاعر عبء إشاعة مناخ من البهجة والأمل الممتزجين بالتفاؤل فيما يقدمه للصغار,لأنهم مخلوقات حالمة تتوقع دائما كل ما هو حنون وجميل من الحياة, ثم طرق المكتب بكفيه في حماسة مكملا وعلينا ألا نخزلهم في هذه التوقعات البريئة.
ألقت حماسة زرزور إلي ذهني بصور كثيرا ما تتزاحم أمام أطفالنا في وسائل الإعلام.
* كيف تري ما يقدم لهم الآن؟
** هز رأسه أسفا وقال: كلنا نعرف أن ما يقدم لهم في الوسائل المرئية أو المسموعة أقل مما يتوقعونه, ولم يخرج عن مجرد اجتهادات لأن القائمين علي صناعة المواد المقدمة يعتبرون الأطفال مخلوقات قاصرة العقل والإدراك,في حين تقدم وسائل الإعلام في الدول العربية عكس ذلك تماما..
* وماذا عن الإعلام المكتوب؟
** الأمر لا يختلف كثيرا فيما يقدم لهم من مطبوعات وقصص وشعر لا يحمل الجديد ليجلعهم واعين باللحظة الحضارية المعاصرة, وما بها من تحديات وصراعات وقضايا إنسانية كبري, وإنما يقدم للتسلية فقط, وبصراحة الوضع الثقافي الراهن في مصر لا يساعد علي بناء طفل مبدع,لذلك نحتاج ثورة معرفية فيما يقدم له.
* ما الحل من وجهة نظرك؟
** حان الوقت لنقدم ثقافة وأدبا وفنا يؤهل صغارنا لمحاكمة الواقع واتخاذ مواقف منه ليتسلحوا برؤي نقدية, فإذا نجحنا في هذا سنجعل منهم نقادا صغارا مستعدين لصناعة شعب واثق من نفسه قادر علي التغيير.
* زياد 24 سنة, وولاء 26 سنة, ويارا 29 سنة, أبناؤك بالجسد, فإلي أي مدي نجحت في تسليمهم ما كنت تحلم به طفلا؟
** ترك زرزور مقعده ودار حول مكتبه نصف دائرة وكأنه يتخلي عن الجزء الرسمي في حديثه, ثم استند إلي ظهر كرسيه ليعانق كفيه بعضهما البعض, وقال نجحت لدرجة إحساسي بالصدمة حتي أنني كلما حاولت إقناعهم بوجهة نظري أفشل في معظم الأحيان لأنهم تعودوا الاختلاف. إذ حرصت علي تسليمهم برؤية نقدية فقط, أكتفي بإبداء ملاحظاتي علي سلوكهم فإذا اقتنعوا فهذا جميل وإذا لم يقتنعوا فهذا أجمل لأنهم سيكتشفون بأنفسهم القرار السليم فيما بعد.
* رغم أنك لم تعمل بالحقل السياسي إلا أنك مهموم منذ صغرك بالقضايا الوطنية,فلماذا؟
** صمت برهة يبدو أنها حملته للماضي وعاد للحديث: كنت طفلا في قرية مصرية بالمنوفية تعاني من الإهمال وعدم الاهتمام باحتياجاتها. مثلما تعاني معظم القري المصرية, وكنت أشعر بالفارق الكبير بين طفل القرية وطفل المدينة, خاصة عندما يأتي إلينا أولاد خالي القاهريون المرفهون,بينما يعاني أطفال قريتي من مظهر لا يقارن بمظهرهم, ترسب داخلي شعور بالظلم الاجتماعي الذي يعود لأحوال اقتصادية سببها في الغالب قضايا وطنية وسياسية.
قطر الندي
* هل هذا هو السبب في انتماء قطر الندي – المجلة التي ترأس تحريرها للطبقة الشعبية؟
** قطر الندي رسالة تتبني وترعي قضايا وهموم وأحلام ومواهب الأطفال, ليست مجلة لأطفال النخبة,لكنها تخاطب أطفال القرية والأحياء الشعبية بجميع فئاتها مسيحيين ومسلمين.
*لماذا اسم قطر الندي؟
** لأنها أول مجلة مصرية وعربية تحمل اسم فتاة في مواجهة أسماء مجلات الأطفال الذكورية سمير – علاءالدين – سفد – إلخ…. وهذا رد اعتبار للظلم الواقع علي الفتاة في مجتمعاتنا.
* ذكرت أن المجلة تخاطب المسيحيين والمسلمين,كيف؟
* خصصنا بابا ثقافيا تحت عنوان قلب واحد بدافع تدريب الأطفال المصريين علي معرفة الآخر, ونخصص في كل عدد قيمة إنسانية نذكر ما يؤكدها من آيات قرآنية وإنجيلية وتوراتية,ليكتشف الطفل في النهاية أن السياق الروحي الذي يجمع الأديان واحد.
في تعجب قال: بعض الناس يعتبرون هذا الباب جرأة غير مسبوقة.اتخذ الحوار منحي آخر حول ما تقدمه قطر الندي من شعر للأطفال وتسلل النثر إليه.
* هل يقبل المجتمع تقديم هذا النوع من الأدب للأطفال؟
** رد علي سؤالي بسؤال: هل تتفقين معي في أن جميع أصحاب النظريات الحديثة في كل المجالات واجهوا اعتراضات علي ما يقدمونه في بادئ الأمر؟
* نعم أتفق معك تماما. هكذا أجبته. فأكمل مسترسلا:
** لكن شيئا فشيئا انتصرت النظريات الجديدة وفرضت نفسها انطلاقا من أن الحياة تقوم دائما علي التجدد, فعندما واجهت قصيدة النثر رفضا من المجتمع الأدبي كانت قصيدة التفعيلة قد سبقتها في ذلك في مواجهة الشعر العمودي,لدرجة أن عباس العقاد اعتبرها نثرا ولكن بمثابرة صلاح عبدالصبور والبياتي ونازك الملائكة, وأحمد عبدالمعطي حجازي والفيتوري ونزار قباني أخذت قصيدة التفعيلة طريقها. إذ لا يمكن الوقوف في وجه التطور.
وفي عالم الأطفال يجب أن نمدهم بكل ما هو جديد لقبول أكبر تنوع من الفكر, ولكن علينا أن نعلم أن قصيدة النثر لا تناسب كل الأعمار لكنها تناسب المرحلة ما بين 15-18 سنة باعتبارها مش التفتح علي الأفكار الجديدة وأعتاب مرحلة الشباب.
كلمة أخيرة
* في النهاية طلبت من الشاعر أحمد زرزور كلمة يوجهها لمبدعي أدب الأطفال, فقال:
يا كتاب الأطفال إذا لم تجدوا في جعبتكم الجديد والمبتكر مما يمكن أن يصنع عقلا طفوليا إبداعيا ناقدا توقفوا فورا عن الكتابة,فهذا أفضل جدا.
زرزور في سطور
* أحمد محمد أحمد زرزور – مواليد المنوفية عام 1949.
* درس بكلية الحقوق جامعة القاهرة وحصل علي الليسانس عام 1974, في عام1979 حصل لعي شهادة تقدير من رئيس الجمهورية – في العيد الأول للثقافة والفن.
* وفي سنة 1980 أسس أول ورشة إبداعية في الهيئة العامة لقصور الثقافة بمنطقة بولاق الدكرور واستمرت حتي عام 1994, أسس أول مجلة للأطفال تصدر عن وزارة الثقافة في مصر عام 1995 – مجلة قطر الندي – وتدرج فيها حتي شغل منصب رئيس التحرير إلي الآن.
* حاز علي الجائزة الذهبية لأحسن أغنية عربية بالفصحي للطفل في المهرجان الثاني للإذاعة والتليفزيون عام 1996.
* يتم تدريس أشعاره ضمن المناهج التعليمية في المدارس الابتدائية والإعدادية في مصر والإمارات والبحرين.
* له عدة دواوين للأطفال منها: ويضحك القمر, بلياتشو, أغنية الولد الفلسطيني, مرحبا بالندي, كما أصدر عدة دواوين للكبار منها حرير الوحشة, هكذا تترمل الإمبراطوريات, شريعة الأعزل.
* يشغل حاليا منصب مدير عام القصور الثقافية المتخصصة إسكندرية – 6 أكتوبر – القاهرة – القليوبية.
* عضو اتحاد الكتاب – عضو تحكيم في عدة لجان أدبية.