يجسد لنا مثل السامري الرحيم مشهدا مألوفا في أيام يسوع. وإن ما يثير الاهتمام في النص الذي نحن بصدد التأمل فيه اليوم هو الدور الذي لعبه هذا السامري الرحيم. فاليهود يكنون للسامريين عداوة كبيرة. وهو شعور متبادل يعود إلي زمن بعيد. وقد وصل بعض اليهود للسامريين إلي حد التلفظ باللعنات خلال الصلاة في المجمع, والطلب من الله أن يحرمهم من الحياة الأبدية. وبالمقابل, كان السامريون يكنون عداوة مماثلة لليهود وكثيرا ما قاموا بأعمال انتقامية منهم. من هنا يمكن أن نتخيل استغراب سامعي يسوع عندما أثني علي دور السامري الإيجابي في المثل. ويضعنا تركيب النص أمام حكمة يسوع التربوية. ونحن نلاحظ غالبا أن يسوع لا يعطي جوابا مباشرا علي سؤال محاوره, بل يقوده كي يكتشف الجواب بنفسه تدريجيا. وأن الهدف من السؤال المضاد هو إرجاع المتكلم إلي خبرته الشخصية كي يحصل منها علي الجواب المنشود. وفي قسمي الحوار, نسمع الجواب من فم معلم الشريعة. وكلمة يسوع النهائية ليست جوابا بقدر ما هي إلا دعوة إلي العمل بنتائج الحوار ومفاعيله.
كما نري التركيز علي المضمون الموضوعي للحوار من خلال استخدام كلمات (أعمل, حياة, تعيش), التي نراها في سؤال معلم الشريعة وفي أمري يسوع الأخيرين. يحملنا النص علي التركيز علي الفعل (عمل), وكل ما يتضمنه هذا الفعل, أي أن نكون قريبين من الآخر الذي هو هدف ## العمل## .
يقودنا النص إلي متابعة تطور الجواب علي السؤال (ماذا أعمل) الذي يدور بين طرفي الحوار داخل المثل الذي نحن بصدده. في البداية, يتعلق الفعل أعمل بما هو مكتوب في شريعة العهد القديم, ثم في مثل السامري الذي يتميز بالحركة والحياة, يأخذ هذا الفعل بعدا إنجيليا جديدا. إن الطريقة التي استخدمها الإنجيلي لوقا في سرد قصته تهدف أساسا إلي إبراز مثل السامري وجذب اهتمام القراء إليه.
فتركيز المثل علي إنسان عادي دون أن يوضح هويته الاجتماعية, وبالتالي فإن العلاقة التي تجمع بينه وبين باقي الأشخاص تقتصر علي كونهم جميعا أمام شخص في محنة معينة. وحالته خطيرة لدرجة أنه إن لم يسعفه أحد فإنه سوف يتعرض للهلاك. وعلي العكس, فإن باقي الأشخاص لهم وصف اجتماعي أو ديني, اللصوص, الكاهن, اللاوي, السامري. تدل حركة الثلاثة الأوائل وابتعادهم عن الإنسان المحتاج علي انفصال داخلي أعمق, فالإهمال في المساعدة اللازمة يحرم هذا الإنسان من إمكانية المحافظة علي حياته.
ولا شك في أن تصرف اللصوص سلبي, لكن تصرف الكاهن واللاوي لا يقل سلبية إن قارناه بتصرف السامري. اقتراب السامري تعبيرعن موقف داخلي ترافقه مشاعر الرأفة والرحمة بالمسكين: أشفق عليه. إن تحرك الرحمة الداخلي ليس مجرد تعبيرعن شيء نفسي, فالإنجيلي لوقا يستخدم الفعل ذاته في الكرم عن موقف يسوع تجاه الأشخاص الذي يقابلهم في مسيرته الخلاصية (لوقا 7-13) وأمام أرملة نائين المتألمة لموت ابنها الوحيد. وكذلك في موقف الله الآب تجاه كل إنسان لأنه يعتبره أحد أبنائه ( لوقا 15-20) حيث يتقدم الآب ليحضن أبنه عندما يعود الي البيت. نستنتج من هنا أن موقف السامري له قيمة أكبر. ثم يتبع هذه الحركة الداخلية كل الأعمال الخارجية التي تتطلبها مشاعر الرحمة واعتني به. ومن الجدير بالذكر كيف يتكرر الموقف مرة أخري من خلال وصية السامري لصاحب الفندق, الأمر الذي يقودنا إلي اعتبار هذا العمل ميراثا مستمرا ومتواصلا, فعمل السامري يلزم الآخرين أيضا.
وهكذا فأن تصرف السامري يأخذ اتجاها معاكسا لتصرف اللصوص الذين جرحوا الرجل. فدوافع اللصوص للهجوم علي الرجل هي نفسها التي استخدمها السامري لكي يساعده في محنته. النقود التي كانت سبب هلاكه علي يد اللصوص, تصبح هي نفسها سبب خلاصه علي يد السامري الرحيم لدي صاحب الفندق.
هذا المثل هو في واقع الأمر ##مثل قدوة##. وتفسيره لا يتطلب منا أبدا المرور من المستوي الرمزي إلي المستوي الديني, بل يكتفي بالدعوة إلي الاقتداء به في الحالات التي نعيشها الآن أي أن نقوم بتأوين المثل هنا والآن. والمطلوب هنا ليس أن نقوم بتحويل النص إلي مستوي آخر كما هو الحال في مثل الزارع. فالمهم في مثل الزارع هو العبورمن الصورة إلي المعني الديني. ذلك أن هدف المثل ليس إعطاء تعليم عن البذرة,وإنما من خلال الصور والكلام إعطاء صورة عن ملكوت الله. بينما المطلوب في مثل السامري هو أن نوسع معني المثل ليشمل كل الحالات المشابهة في الحياة البشرية اليومية.
فقد تم في الأساس طرح سؤال علي يسوع حول: ##من هو القريب؟##, وقد احتد النقاش حول هذا الموضوع بين علماء الشريعة, وكانت الآراء مختلفة بين الأطراف. فمنهم من كان يعتبر قريبا فقط من ينتمي إلي العرق اليهودي, ومنهم آخرين أقل تشددا من كان يعتبر قريبا غير الإسرائيلي الذي كان يعيش في أرض إسرائيلية. والسؤال مرتبط بالمطلب الأول الذي طرحه معلم الشريعة: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية, وبإمكاننا أن نقدر كيف أن التساؤل المطروح بهذه الطريقة من معلم الشريعة لا يتعدي الأمور النظرية والمبدئية: فهو يطلب المعيار الذي يستطيع من خلاله أن ينظم نفسه في جميع ظروف الحياة. وهو مستعد لقبول أي توجيه مهما بلغت صعوبته ومتطلباته علي شرط أن يكون واضحا, كما أنه مستعد لعمل أي شيء حتي النهاية. إن جواب يسوع يقود المتكلم معه وبشكل تدريجي إلي عمل تغيير جذري في المباديء. فيسوع لا يعرض أي مبدأ نظري ,إنما يتوجه رأسا نحو الخبرة المعاشة, ومن هذا المنطلق يقوم بتمييز ما هو جيد وما هو غير جيد.ومن ثم يقوم السيد المسيح بتحولين فيما يتعلق بسؤال معلم الشريعة: أولا من النظرية إلي التطبيق (القريب هو الذي أتعرف عليه من خلال الخبرة المعاشة, وهو ليس موضوع نقاش بين معلمي الشريعة ). ثانيا من الخارج إلي الداخل (السؤال الحقيقي ليس من هو قريبي, ولكن أري أمامي قريبا كل حين). المطلوب ليس أن أجد مقاييس أطبقها حتي أشعر براحة الضمير.أ يسوع يقدم صورة لإله كريم مع الإنسان. وبالتالي فأن الإنسان يجب أن يتخلي عن فكرته بالوصول إلي الكمال أن هو عمل بكل ما هو مكتوب. فطريق الكمال يمر بمراعاة احتياجات الآخر. فأمام الله كما يتكلم عنه يسوع, لا داعي لأن نتساءل أن كنا قد بلغنا الكمال كوننا نفعل كل ما يطلبه الله. وإنما رسالتنا هي أن نشارك الله بالاهتمام باحتياجات الآخر, بحيث نجعله يشعر أنه مقبول وغير مهمش لا من الله ولا من البشر. هذه هي رسالة يسوع والتي تلغي كل روح تتمسك بحرفية القانون, وتؤكد علي الله الذي يهتم بكل إنسان من غير حدود ولا تميز.
من المحتمل أن يكون معلم الشريعة الذي كان يستمع إلي يسوع قد تبني موقف الكاهن واللاوي: ومن المؤلم فعلا أن موقفهم قانوني وشرعي, لأن مساعدتهم للملقي أرضا تعني إنهم يتنجسون (بالدم) ولن يستطيعوا أن يقوموا بطقوس العبادة: نجد هنا مفهوما قانونيا يسمح لهم بالشعور براحة الضمير. ويقدم يسوع لهم هذا المثل ليبين لهم موقفه المعاكس تماما. إن القصة التي يرويها ليست مجرد مشادة كلامية مع طبقة دينية, بل مع عقلية منتشرة كانت تفضل أن تحافظ علي حرف القانون والشريعة والطقوس دون النظر إلي روح القانون. فحوي المثل في النهاية هو واجب هجر الفكرة حول امتلاك كتاب يحوي توصيات لما يطلبه, والتوغل في عمق الحياة. تسير خبرة يسوع المعاشة في الخط التالي: إن استقباله المحسوس لكل خاطيء ولكل إنسان محتاج, تظهر حياة لا تتعلق ولا تتبع نظاما يبتغي الطهارة الشرعية فقط, والشعور مع ذلك براحة الضمير, بل حياة تسير في خط محبة الله للقريب. فالسؤال المطروح ليس ## من هو قريبي ##, بل ## كيف أكون أنا قريبا للآخر##؟.
نجد في النص بعد آخر هو التركيز علي العلاقة مع الله التي تقود إلي العلاقة مع القريب, السؤال هو التالي: ## ماذا يريد الله مني##؟. يجب أن نعلم أن الله لا يريد أن يجعلنا كاملين رغما عنا. وتصرفنا ليس وجها من أوجه رد الدين لله (ومن بمقدوره أساسا أن يدفع الدين لله؟). ما يريده الله منا هو أن نقبل في قلوبنا طريقته هو في جعل نفسه قريبا من كل شخص دون اسثناء. الذي يتعهد أن يعيش محبة الله هذه, يجد العون لأن يعيش نفس المحبة في مختلف الظروف, ومع جميع الأخوة. فقط من يدرك أنه موضع اهتمام الله يستطيع أن يعيش نفس الأهتمام اللامشروط بالقريب. هذا الاهتمام الذي يفوق العقلية القانونية لا يرتبط بالمعايير الكمية (بمن اهتم وبأي مقياس)؟, بل يتدفق من محبة الله الفياضة التي وهبها لنا.
فإن وجه الآب, الذي عاشه السيد المسيح والذي يكشفه لنا من خلال مواقفه وأعماله المحسوسة من استقبال ومساعدة لكل شخص, هو الوجه الذي علي كل مؤمن أن يعكسه عندما يكون قريبا من كل شخص. وهذا الاقتراب هو شرط أساسي حتي يستطيع أن يبقي الإنسان حيا. إن السؤال حول ##ماذا أعمل## و##من هو القريب## لا يجد جوابا من خلال وصايا جديدة يمكن أن تؤدي إلي نظرية قانونية جديدة, وإنما بالدعوة للقيام بخبرة شخصية موجهة إلي كل شخص, ليكتشف من خلالها احتياجات القريب الموضوع علي طرقات حياتي اليومية. فالعمل مع القريب لا حدود له لأنه لا ينتهي أبدا. وذلك لأن المحبة بلا حدود ولا تنتهي أبدا.. وصوت المسيح إلينا يصرخ: ##اذهبوا واصنعوا الرحمة أنتم أيضا كذلك##.
الأب روماني أمين اليسوعي