كيف يجمع الشاعر بين الأسلوب الرومانسي الحالم والنقد الجريء اللاذع في آن واحد؟كيف يكون الشاعر عاشقا ولهانا يتغزل في حبيبته التي يلتاع من فراقها..وفي نفس الوقت ينتهرها ..يسخر منها ويوبخها بكلمات راعدة صاعقة؟هاينريتش هايني استطاع أن يحقق هذه المعادلة الصعبة.إنه الشاعر الغنائي الألماني الذي تسابق موسيقيو عصره علي تلحين قصائده من فاجنر إلي شوبان إلي راخما نينوف إنه الشاعر الذي يدين له الأدب الألماني واللغة الألمانية بالكثير, فهو أول من حرر الشعر الألماني من القوالب الكلاسيكية المتحجرة ومفردات الطبقة الأرستقراطية,ونزل بها إلي البسطاء الكادحين,ونجح في الجمع بين الرومانسية والواقعية واستحق أن يلقبه الناقد الألماني المعاصر رانيكي بـأبو الحداثة الألمانيةورغم الروائع الشعرية والنثرية التي شهد لها كل نجوم الأدب في عصره إلا أن هاينريتس هايني كانت حياته مليئة بالاضطرابات,إذ كان مضطهدا من الألمان,حتي بعد وفاته بسنوات طويلة,ولم يخطر بباله أبدا أن جامعة دوسلدوروف مسقط رأسه سيطلق عليها اسمه ولم يتخيل ذات مرة أن يوم وفاته سيصبح يوم احتفال قومي في ألمانيا ..تمنح فيه جائزة أدبية باسمه,تبلغ قيمتها في الوقت الحالي 50 ألف يورو.ولم يتصور هايني أنه بعد أن ينفي إلي باريس ويدفن هناك سيتحول بينه في دوسلدوروف بعد مائة وخمسين عاما من وفاته إلي متحف يضم مقتنياته وأعماله ويصبح منتديا ثقافيا تلقي فيه أشعاره .
من القانون إلي الشعر
ولد هاينريتش هايني في 13 ديسمبر عام 1797 من أبوين يهوديين,أمده عمه الغني بالمال ليدرس القانون في جامعة بونحصل علي الدكتوراه في القانون عام 1825 ولكنشيطانة الشعر غيرت مجري حياته فظلت ملازمة له بسحرها وفنونها,حيث فجرت من داخله ينابيع أشعار غنائية ذات مفردات وموسيقي لم تعرفها آذان الألمان من قبل.
عرفه المثقفون في بون من خلال صالون فيلهلم شيجلالأدبي..أحد أهم الشعراء الرومانسيين الألمان والمعادين للحكم الملكي والإقطاع وأحد المتأثرين بمباديء الثورة الفرنسية.ووسط أنغام الأشعار والأفكار الثورية أنقد حماس هايني وأسس جمعية ألمانيا الشابةلمهاجمة البلاط الملكي ورجال الدين بدون تحفظ.
وفي العاصمةبرلين قرأ شعره علي أسماعفوكو وكارميزو وآخرين من ألمع الأدباء في ألمانيا آنذاك,وفي عام 1827 أصدر ديوانه الشهير كتاب الأغاني فتذوق القاريء الألماني لأول مرة أشعارا غنائية يغلب عليها طابع التراث الشعبي القصصي,ونجح هايني في استخدام لغة البسطاء بمفرداتها الفنية وارتقي بها إلي الحس الشعري,وفي نفس الوقت أنزل الشعر من برجه العاجي حيث كان يخاطب الطبقة الأرستقراطية,ووصل به إلي عقول وألباب الطبقات الكادحة من الفلاحين والعمال.
كان هايني يحب وطنه ألمانيا حبا جما,ولكن يبدو أنه كان حبا من طرف واحد ,ربما كان أصله اليهودي سببا من أسباب اضطهاده لكن هناك سببا آخر أهم من ذلك بكثير وهو جرأته الشديدة في التهكم علي الدولة والأمراء وكل صاحب سلطة,حتي رجال الدين لم يسلموا من نقده اللاذع.فكان في نظر الجميع خائنا للوطن.ولذلك نفي شاعرنا الفصيح إلي باريس.
تري ماذا كان يقول في قصائده اللاذعة؟
في قصيدة ألمانيا قطعة مفتنة كتب يقول:
أبناء أمهاتهم يرفلون في الحرير
ويسمون أنفسهم صلب الشعب
أوغاد يدعون أنهم سادة
لكن الصورة التي تتهكم من الأسلاف
هي الشعب في لباسه الألماني
ووصلت جرأته إلي حد أن يلعن الملك شخصيا في قصيدة النساجون من شلزيا إذ يقول:
في عيونهم القاتمة لا أثر للدموع
جالسون علي مقعد النسيج يجزون علي أسنانهم
العجوز
نحن ننسج كفنك
ننسج لعناتنا
نحن ننسج وننسج
اللعنة علي الملك ولك الأقطار
الذي لم يثنه بؤسنا
عن تجريدنا من آخر قطعة نقود
وحصدتنا نيرانه كالكلاب
نحن ننسج وننسج
وفي قصيدة فقط انتظروايتحدث كأنه صوت صارخ في البرية كأنه نبي يعرف المستقبل,ويحذرهم من الدمار القادم فيقول:
سيكون برهان ذلك مرعبا
حينما يأتي اليوم الموقوت
ولسوف تسمعون صوتي
الكلمة الراعدة الصاعقة
ستفلق العاصفة الهائجة
كثيرا من شجر البلوط ذلك اليوم
ستزلزل كثيرا من العصور
الرومانسي
عرف هاينريتش هايني بأسلوبه الرومانسي الحالم ورهافة حسه لكل مفردات الطبيعة حوله وفي قصيدة الصبي الراعي نجده متأملا للطبيعة بعمق وخيال خصيب ونلمس فيها تأثره بالأفكار المسيحية ومفردات الكتاب المقدس بعهديه.كتب يقول:
إنه حقا لملك ذلك الراعي الصبي
عرش تل رحيب أخضر العشب نري
ولديه الشمس فوق الرأس تاج ذهبي
وحوالي قدميه غنم التل الخصيب
تتلوي ملقا للسيد الراعي الحبيب
وبلون أحمر قد حملت رسم الصليب
وكذا سربا من الطير وحشدا من نفر بالمزامير وبالأجراس من دون حذر شكلوا جوقة موسيقي بلمح من بصر
وفي قصيدةفي بلد الاغترابنجده يقول:
كان لي يوما وطن جميل
تنمو شجرة البلوط هناك عالية
ويحني البنفسج الناعي رأسه بلطف
لقد كان حلما
أيام الغربة
نفي هايني إلي باريس عام 1831 ظل يكتب قصائده الغنائية في موضوعات شتي وعمل مراسلا لجريدة ألمانية تسميأوجسبرجر ألجمينن زيتونجوكانت له كتابات نثرية ناجحة أهمهاصور سفر هزلية في غربته كتب قصيدته العظيمةأفكار ليليةيقول في مطلعها:
إذا فكرت في ألمانيا
يطير النوم من عيني
وأظل ساهرا أرقا
أذرف الدمع ساخنا
واختتمها بقوله:حمدا لله أن ضوء نهار فرنسيا صافيا
يمرق عبر نافذتي
تأتي امرأتي جميلة مثل الصباح
تمحوا ابتسامتها عني فورا
كل الهموم الألمانية
وربما تكون زوجته الفرنسية ماتيلداهي هذا الشعاع الصافي أو ربما يكون سحر باريس واصدقاؤه الأدباء مثل فيكتور هوجو وهنري دو بلزاك لعل هؤلاء استطاعوا أن يخففوا عنه عذاب حرمانه من دفء الأسرة التي تركها في ألمانيا ويذكر أنه قام بزيارتين سريتين إلي ألمانيا لزيارة أمه وعمه المريضين في عامي 1843و1844 تمحضت عنهما رائعتاه ألمانيا حكاية شتويةوأتا نزولاللتين صب حنينه للوطن ورفضه للظلم والفساد وكان يدرك أنها رحلة الوداع وأنه لن يعود مرة أخري,وبالفعل أقعده المرض منذ عام 1845 حتي فارق الحياة.
وفي قصيدة حكاية شتوية يقول:
كانت تغني عن الحب وأحزان المحبين
عن التضحية حتي نلتقي في عالم أفضل
لايعرف الألم أو الأحزان
أحزان الخريف
لم يكن لها يني إ يمان ثابت بعقيدة واحدة ,وكان الدين مشكلة بالنسبة له فرغم أنه يهودي الأصل إلا أنه عرف بكراهيته لليهود ورغم أنه اعتنق البروتستانتية في مقتبل عمره إلا أنه مر بفترات فراغ واضطراب إيماني حيث كان متأثرا بالفلسفة الإلحادية ويقال إنه في نهاية عمره عاد حنينه إلي اليهودية وفي جميع الأحوال كانت تتغلب عليه الأحزان لحرمانه من وطنهألمانياوربما كانت همومه الثقيلة من أسباب إصابته بمرض دمر كل أعصاب جسده وجعله طريح الفراش علي مدي أكثر من ثماني سنوات متواصلة حتي وافته المنية .
ورغم أنه دفن في أرض غربته التي ارتضاها إلا أن الألمان ظلوا يدخروا له الحقد حتي جاءتهم الفرصة الأخيرة فعندما غزت جيوش هتلر فرنسا بعد 85 عاما من وفاة هايني..أمر أستاذ اللغة الألمانية د. جويلزبمحو اسم هاينريتش هايني من علي شاهد قبره في مدفن مونمارنز الباريسي ولكن المقاومة الفرنسية أعادت نقش اسمه فيما بعد, وذلك خلال عملية سرية ليلا.
كانت ألمانيا هي ليلاه التي هجرته وأذاقته طعم المرارة من لوعة الفراق ورغم أن حبيبته خانته مع غريمه الكبرياء..إلا أنه خلدها في كل قصائده الحلوة واللاذعة واستحقت حبيبته أن تكون بطلة رائعته حكاية شتوية.