ارتبط العرب والأتراك بتاريخ امتد ستة قرون في وضح النهار, ساد العرب فيه ثقافيا وحضاريا, وساد فيه الأتراك العثمانيون عسكريا واستراتيجيا. وكانت السيادة العربية, حيث تبنت القبائل الطورانية الوافدة من أواسط آسيا, الإسلام دينا وثقافة وحضارة. أما السيادة التركية فقد كانت من خلال آل عثمان الذين قادوا القبائل الرعوية في مغامرة عسكرية اتجهت غربا صوب الأناضول, ثم أوربا إلي أن وصلوا إلي أسوار فيينا, ثم اتجهت جنوبا صوب بغداد ودمشق والقاهرة والمغرب العربي. وكانت مسيرة الأتراك العثمانيين هذه من القرن الرابع عشر إلي القرن الثامن عشر أشبه في جوانبها العسكرية ـ الاستراتيجية بمسيرة العرب المسلمين الأوائل من القرن السابع إلي القرن العاشر.
وبعيدا عن التفاصيل, دخلت أوربا علي خط العلاقة التاريخية بين العرب والأتراك في القرنين الأخيرين, بهدف وراثة الإمبراطورية العثمانية, التي كانت قد شاخت وضعفت, وأصبحت تسمي برجل أوربا المريض. وضمن ذلك إثارة العرب علي الأتراك, في الجزيرة العربية وبلاد الشام, في بداية الحرب العالمية الأولي (1914-1916), من خلال ضابط المخابرات البريطاني الشهير ##لورانس##, مع وعود بريطانية غامضة للشريف حسين بن علي الهاشمي, أمير مكة, بمنح الغرب استقلالهم وتحقيق وحدتهم, بعد قرون من السيطرة علي بلدانهم وتجزئتها. وانتفض عرب المشرق والجزيرة, فعلا علي العثمانيين, فيما يعرف مشرقيا باسم ##الثورة العربية الكبري## وخرج العثمانيون بعد أربعة قرون من السيطرة. ولكن عرب المشرق سرعان ما اكتشفوا زيف الوعود البريطانية, التي كانت غطاء تمويهيا لوعود أخري, أعطتها بريطانيا للحركة الصهيونية, فيما يعرف بوعد ##بلفور##, ولفرنسا فيما يعرف باتفاق ##سايكس-بيكو##. والتي كانت نتائجها العلمية مزيدا من تجزئة المشرق العربي والجزيرة وزرع إسرائيل. وهو ما يزال العرب يدفعون ثمنه إلي الوقت الحاضر.
وجرت مياه كثيرة تحت جسور العلاقات والمشاعر بين العرب والأتراك خلال القرن الأخير. وتعلمت ثلاثة أجيال من الأتراك أن إخوانهم من العرب المسلمين, قد خانوهم وطعنوهم في الظهر لحساب الدخلاء الغربيين, الذين اقتسموا بلادهم واحتلوها. وكذلك تعلمت أجيال عربية ثلاثة أن الأتراك كانوا سبب البلاء. فقد غزوا, وطغوا, واستبدوا, ونكلوا بالعرب, حتي تخلفوا وضعفوا, وأصبحوا لقمة سائغة لقوي الهيمنة الغربية الصاعدة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ورغم أن هناك بعض الصحة في كل من الراوية التركية والرواية العربية, إلا أن المحصلة إلي وقت قريب, كانت لوما متبادلا, واحتقارا متبادلا, وجفوة متبادلة. ولكن كما كان العرب قد انتفضوا وثاروا علي الهيمنة العثمانية, فإن الأتراك أنفسهم انتفضوا وثاروا علي حكامهم من سلاطين آل عثمان. ولم يكتفوا باقتلاعهم من السلطة, بل وحاول زعماء ثورتهم بقيادة مصطفي كمال (أتاتورك) أن يمحوا التأثير العربي الإسلامي الثقافي المتغلغل في النسيج الاجتماعي التركي. ومن ذلك استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني في كتابة اللغة التركية, وتنقيتها من الكلمات العربية, وتقليص التأثير الديني الإسلامي في شئون الدولة والمجتمع والتعليم. وولت الجمهورية التركية الوليدة (1923) وجهها شطرا أوربا, التي أصبحت تريد أن تكون جزءا منها. ولكن أوربا لم تبادل تركيا حبا بحب, ولم تفتح لها أبوابها بالسرعة التي كان يحلم بها مصطفي كمال أتاتورك وزملاءه, وخلفاؤه من الأتراك. وبعد ثلاثة أجيال, بدأ الأتراك يعيدون التنقيب في تاريخهم وثقافتهم, ويقيمون جيرانهم, لا فقط غربا في أوربا, ولكن أيضا شرقا من حيث جاءوا قبل سبعة قرون, وجنوبا حيث العرب المسلمين. ولأن الجيران شرقا وجنوبا كانوا أنفسهم قد تغيروا خلال نفس عقود الجفوة والتباعد, فإن معادلة نفسية ـ وجدانيةـ ثقافية جديدة بدأت تتشكل في العقدين الأخيرين. ثم دعمت من صياغة هذه المعادلة الجديدة بين الأتراك وجيرانهم شرقا وجنوبا, مصالح اقتصادية نفطية وتجارية متنامية. وفي نفس الأثناء, بدأت حرارة الشوق والاندفاع غربا تفتر تدريجيا, وإن لم تبرد تماما. فما يزال الانضمام إلي الاتحاد الأوربي, يمثل هدفا استراتيجيا تركيا.
إن معادلة التوازن الإقليمي لتركيا مع كل جيرانها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا (روسيا), تتزامن مع معادلة توازن نفسي وثقافي في الوجدان التركي نفسه, وتحديدا بين ثقافة إسلامية متعمقة الجذور, وخاصة في الأناضول والريف التركي, وثقافة غربية علمانية حاول مصطفي كمال أتاتورك إرساءها وتعميقها, ولكن المحاولة لم تنجح تماما إلا في المدن الكبري, ومع الطبقتين الوسطي والبرجوزاية الكبيرة. ويعتبر صعود حزب ##العدالة والتنمية## (AKP) الذي يقوده رجب الطيب أردوغان, تعبيرا عن رد الاعتبار للداخل التركي في الأناضول والأرياف وفقراء المدن, حيث الثقافة الإسلامية, التي ظلت مهمشة خلال نصف القرن, الذي أعقب الثورة الكمالية العلمانية.
إن أحد تداعيات معادلة التوازن داخل تركيا, هو المصالحة التاريخية مع جيرانهم العرب في الجنوب, وحيث الحدود المشتركة مع بلدين عربيين, هما العراق وسورية. ومع حكومة العدالة والتنمية ذات المرجعية الإسلامية الديموقراطية المعتدلة, عادت مآذن تركيا ذات الطراز العثماني الجميل تصدح بالآذان للصلاة خمس مرات يوميا, ولكن دون تحريم الخمور أو إغلاق الحانات أو الأندية الليلية, أو فرض الحجاب علي النساء, أو التضييق علي غير المسلمين من الأرمن المسيحيين ومن اليهود.
ولكن المثير حقا والجدير بالاهتمام العربي هو الإدارة السلمية الديموقراطية للتنافس والصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا. وحيث يلجأ كل طرف إلي الاحتكام إلي البرلمان, أو المحكمة العليا, أو الناخبين مباشرة.
والذي يقود العلمانيين ـ الكماليين في هذا الصراع السلمي الديموقراطي هو حزب الحركة الوطنية, تدعمه المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلي للتعليم, والبيروقراطية المدنية. بينما يقود الإسلاميين في نفس الصراع حزب العدالة والتنمية (AKP ) ذو الأكثرية البرلمانية (47%), يدعمه معظم الرأي العام, والاتحاد الأوربي. وربما الغريب في هذا الصدد هو تأييد الاتحاد الأوربي. فهذا الأخير قد لا يوافق علي توجيهات حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي, وقد لا يكون مستعدا لقبول تركيا في عضويته فورا. ولكنه يبدو معجبا بإدارة حزب العدالة والتنمية للصراع. وضمن ذلك إدارته لمعركة ##غطاء رأس## الطالبات الجامعيات, والإناث عموما في الأماكن الرسمية التركية العامة. فقد لجأ حزب العدالة إلي البرلمان, حيث استصدر تعديلا دستوريا وقانونا, لا يفرضان غطاء الرأس, ولكن فقط منع الحظر عليه, أي إعطاء التركيات حق ارتداء غطاء الرأس من عدمه, دون أن يترتب علي ذلك عقاب أو حرمان من خدمات الدولة, كما كان الحال بين عامي 1989 و.2005
فالاتحاد الأوربي مع مبدأ حرية الاختيار للمواطنات التركيات. كذلك فإن الاتحاد لم يخف موقفه من قرار المحكمة الدستورية الذي ألغي التعديل الدستوري والقانوني اللذين صدرا منذ عدة شهور. كذلك فإن الاتحاد علي لسان أحد متحدثيه الرسميين استغرب محاولة النائب العام التركي استصدار قرار من المحكمة الدستورية العليا بحل حزب العدالة والتنمية الذي فاز بالأكثرية في آخر انتخابين برلمانيين (عام 1992 و1997) بدعوي أنه يقوض مبادئ ##العلمانية##! فرغم أن الاتحاد الأوربي هو لدول كلها علمانية, إلا أنها لم تفرض هذه العلمانية بقوة الدولة أو القانون, وإنما تبنت العلمانية بالإرادة الحرة لأغلبية مواطنيها. كما أن العلمانية الأوربية لم تمنع قيام أحزاب ذات توجهات دينية, مثل الأحزاب المسيحية الديموقراطية, والتي وصل بعضها للحكم فعلا من خلال صناديق الانتخابات, في بلدان مثل إيطاليا وألمانيا وهولندة والنرويج.
إن هذه الإدارة الديموقراطية للصراع السياسي والثقافي في تركيا هو دليل نضجها السياسي, والقبول العالمي لها. لذلك يعد مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت, ومركز الدراسات العولمية بجامعة استانبول لحوار عربي ـ تركي في الربيع القادم. توطئة لمصالحة تاريخية بين العرب والأتراك. وهي مبادرة جديرة بالمتابعة والاهتمام والتأييد.