يدور حوار دائم بين مدارس التنمية المختلفة حول سؤال محوري: أيهما أكثر أهمية بين العوامل الأساسية الدافعة إلي النمو والتقدم, هل هي الموارد الطبيعية مثل الأرض والماء والثروات المعدنية .. إلخ أم الموارد البشرية بما تحوزه من معارف وما تختزنه من خبرات وما تمتلكه من قدرات ومواهب؟!
وربما كانت تقارير التنمية البشرية التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنويا منذ عام 1990 , تمثل أوفي وأدق ملخص لحالات النمو والتقدم أو في المقابل التردي والتخلف لدي مختلف دول العالم, حيث يتم في النهاية استخلاص مؤشر واحد للتنمية وعليه يتم ترتيب دول العالم تنازليا ابتداء من أول دولة وهي التي تحتل قمة التنمية والرخاء والديمقراطية والشفافية, حتي آخر دولة وهي التي تحتل القاع الذي يمثل أقصي درجات التردي والتخلف والفقر والفساد.
وفي محاولة جادة لتحليل ومناقشة مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية وما يتم اقتراحه من حلول لها, قام عالم السياسة الأمريكي ثيموثي ميتشل في عام 1991 بتحرير كتاب أظن أنه كتاب مهم للغاية بعنوان شديد الدلالة هو ”مصر الأمريكية Americ Egypt وقد صدر الكتاب بالإنجليزية وقرأت أنه ترجم إلي العربية, ولكن للأسف بحثت عنه ولم أعثر علي أي نسخة. المهم أنه في الفصل الذي كتبه ميتشل بنفس عنوان الكتاب يلخص وجهة نظره فيقارن بين منهجين في تناول مشاكل التخلف والتنمية في مصر: المنهج السائد, علي الأقل في الدوائر الأكاديمية والرسمية, ينظر إلي مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها مشكلة ندرة موارد في مقابل عدد كبير من السكان يتزايدون بسرعة (وبالتالي فإن جهود التنمية تتآكل بفعل النمو السكاني المستمر), ومثل هذا التحليل والتفسير تجده تقريبا في كل الكتب المدرسية والتقارير الحكومية, ولدي منظري النظام الحاكم .
وفي المقابل يقدم ميتشل وجهة نظر أخري معارضة ترفض تفسير مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية بمقابلة الجغرافيا (نقص الموارد) مع الديموجرافيا (زيادة السكان) وتضع تفسيرا بديلا يتلخص في إرجاع مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية إلي تهميش وإفقار فئات واسعة من السكان وإلي عدم العدالة في تحمل أعباء التنمية وفي توزيع العائد منها.
والفرق بين المدرستين فرق هائل, وهو ليس مجرد اختلاف أكاديمي ولكنه يرتب اختلافات ضخمة في استراتيجيات وسياسات التنمية المتبعة, حيث إن رؤية كل من المدرستين تملي الحلول المقترحة لمواجهة المشاكل, فالمدرسة التي تفسر كل مشاكل مصر بنقص الموارد وزيادة السكان من الطبيعي أن تتلخص الحلول التي تقترحها في زيادة كفاءة استعمال الموارد وتخفيض أعداد السكان أو ضبط النسل. أما المدرسة الثانية التي ترجع المشاكل إلي تهميش أغلبية السكان وانعدام عدالة التوزيع فإن الحلول التي تقترحها تتلخص في تمكين فئات المجتمع المهمشة واشتراك كل أفراد وفئات المجتمع في جهود وثمار التنمية.
وقد أعجبت بتحليل ميتشل, ثم تعرفت عليه فيما بعد فأعجبت به أكثر وخاصة في نظرته الموضوعية للمساعدات الأمريكية المقدمة لمصر حيث يري _ وهو الأمريكي _ أن كل دولار قدمته أمريكا لمصر قد عاد لأمريكا مرة أخري مع الأرباح والفوائد بالإضافة إلي ما تسبب فيه من إفساد وإضرار لمصر والمصريين. وأنا لا أتبني وجهة نظر ميتشل لمجرد إعجابي به وحبي له علي المستوي الشخصي ولكني أتبناها وأعتنقها لأسباب موضوعية وأدلة تجريبية مستمدة من قراءاتي لمؤشرات التنمية البشرية لكل دول العالم وهي التي تصدر سنويا فيما يسمي ”تقرير التنمية البشرية في العالم” برعاية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة, كما أن بعض دول العالم تصدر تقارير مشابهة علي المستوي القومي للدولة, مثل ”تقرير التنمية البشرية في مصر” الذي يصدره معهد التخطيط القومي سنويا.
مثل هذه التقارير تشتمل علي بيانات كثيرة جدا (بصرف النظر عن مدي دقتها) ومفيدة جدا للمقارنة بين الدول والأقاليم والقارات أو أي مستوي آخر تريده للمقارنة.
وتحليل البيانات والمعلومات الواردة في تقارير التنمية البشرية في العالم تدعم التفسير الذي قدمه ميتشل لأسباب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في مصر وهو القائل بإن هذه المشاكل لا ترجع إلي ندرة الموارد وزيادة السكان بل هي راجعة في الأساس إلي تهميش غالبية السكان وعدم العدالة في توزيع جهود وعوائد التنمية. ومثل هذا التفسير لا ينطبق فقط علي الحالة المصرية ولكنه يصلح للتطبيق علي كل دول العالم تقريبا.
وفي الواقع فإن ميتشل لم يبتكر هذه النظرية (يرجع فضله فقط في أنه طبقها علي الحالة المصرية تطبيقا جيدا يوضح كثيرا من جوانب هذه الحالة) وقد أبدع جمال حمدان في توضيح ما يسمي أحيانا ”خرافة الندرة” والمقصود هنا ندرة الموارد. يقول جمال حمدان – نقلا عن غيره من العلماء أهمهم ساور -”ليس ثمة موارد طبيعية… ثمة أساسا مواهب إنسانية”. وقد أصبح مستقرا الآن أن الموارد لا قيمة لها إلا إذا تحولت إلي ثروة وهي لا تتحول إلي ثروة إلا بالفكر والعمل البشري. مثلا لو وجدت في منطقة ما أو بلد بعينه مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة وكانت هناك مياه وفيرة تضمن نجاحها في إنتاج كثير من الحاصلات الزراعية ولم يوجد في هذه المنطقة أو هذا البلد بشر راغبين وقادرين علي استعمال هذه الموارد ( الأرض والماء) فإن هذه الموارد رغم وفرتها لن تصنع أي ثروة ولن تكون لها قيمة علي الإطلاق. وحتي البترول أو الثروات المعدنية المدفونة في باطن الأرض, لو أنها ظلت مدفونة فلن تكون لها أي قيمة, ولو أردنا أن تكون لها قيمة أي تتحول إلي ثروة فلا بد من جهد بشري يبذل في استكشافها أولا ثم استخراجها وتصنيعها في منتجات يتم الانتفاع بها أو استعمالها علي وجه من الوجوه.
وحتي ما تسمي كوارث طبيعية لا تصبح كوارث بالمعني المفهوم إلا إذا كانت ”كوارث إنسانية”. فلو أن بركانا ثار في بقعة خالية من السكان أو زلزالا ضرب هذه البقعة أو غمرها فيضان جارف, فإن كل هذه الكوارث لن يحس بها أو يتضرر منها أحد, وبالتالي فإنها قد تسجل فقط باعتبارها أحداثا تاريخية وقد لا يتم تسجيلها بالمرة لأن أحدا لم يشعر بها.
وهذا يعطي دعما ”نظريا” لوجهة النظر القائلة بأن المشاكل تأتي بسبب تهميش البشر وعدم إشراكهم في اتخاذ القرارات التي تتعلق بأخص شئونهم وعدم حصولهم علي نصيب عادل من ثمار التنمية. ومن الناحية العملية أو التطبيقية هناك في مؤشرات التنمية العالمية كثيرا جدا من الحقائق التي تؤيد وجهة النظر هذه وتناقض في نفس الوقت النظرية التي تفسر المشاكل بنقص الموارد وزيادة السكان.
من ناحية هناك بلاد كثيرة لا تملك موارد تذكر ولكنها استطاعت أن تحقق معدلات تنمية مذهلة وتقدمت اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وعلي كل الأصعدة لأنها تملك ثروة بشرية قادرة علي خلق الثروة وصنع التقدم. والمثل التقليدي لهذه البلاد هي اليابان, وربما نضيف إليها بلاد مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج وتايوان (ما يطلق عليها النمور الآسيوية).
وهناك أمثلة شديدة الوضوح لبلاد بها أعداد غفيرة من السكان (بالنسبة لمواردها) ومع ذلك لم تدع (أو تتمحك) في زيادة السكان لتفسير عجزها عن أن تنمو وتتقدم, وأهم مثلين يتم الاستعانة بهما لتوضيح ذلك هما الصين والهند ويضمان معا ما يقرب من 2.5 مليار نسمة أو أكثر من ثلث سكان العالم, ومع ذلك استطاعت كل من الصين والهند تحقيق معدلات مذهلة من النمو والتقدم.
ومن الناحية الأخري هناك دول عديدة تتركز أساسا في أفريقيا والشرق الأوسط وعدد قليل منها يقع في آسيا أو أمريكا اللاتينية, هذه الدول تقدم أمثلة حية شديدة الوضوح لفشل سياسات التنمية بها رغم أن مواردها كثيرة وعدد سكانها قليل نسبيا. خذ مثلا دولتين تحتلان قاع دليل التنمية البشرية (يرتب 173 دولة حسب مؤشر التنمية البشرية فالدولة الأكثر نموا تحتل المرتبة الأولي أي أن ترتيبها علي مؤشر التنمية البشرية بها =1 وأقل دول العالم نموا تحتل رقم 173) هاتان الدولتان هما النيجر وترتيبها حسب مؤشر التنمية البشرية 172 وعدد سكانها عام 2000 كان 10.8 مليون, والدولة الأخري هي سيراليون وترتيبها حسب دليل التنمية البشرية الأخيرة برقم 173 وعدد سكانها 4.4 مليون نسمة.
وهناك أرقام عالمية تؤكد ما ذهبنا إليه من أنه ليست هناك علاقة مباشرة بين عدد السكان ومعدل التنمية, حيث إن تقرير التنمية البشرية في العالم لعام 2003 يورد أرقاما تدحض الادعاء بأن كثرة عدد السكان تعطل التنمية, فمثلا جاء في التقرير المذكور أن إجمالي عدد سكان البلدان التي تصنف بأن بها تنمية بشرية عالية كان 1063 مليون نسمة في عام 2000, والبلدان التي تصنف بأن بها تنمية بشرية متوسطة كان سكانها في نفس العام عددهم 4048 مليون نسمة. أما البلدان التي بها تنمية بشرية منخفضة فبلغ عدد سكانها 839 مليون نسمة. أي أن عدد السكان القليل لم يشجع التنمية في كثير من الدول كما أن عدد السكان الهائل كما في الصين والهند لم يأكل ثمار التنمية ولم يعطلها بل سمح لهذه البلدان بأن تحقق معدلات نمو مرتفعة جدا, بل أن نقص الموارد الطبيعية يمكن أن يعوضه تفعيل وتنشيط طاقات ومواهب البشر وكما ذكرنا سابقا فإن هذه الحالة واضحة جدا في اليابان.
وهذا هو مربط الفرس في حديثنا كله .. وهو أن الأعداد الكبيرة من السكان لا يجب اعتبارها عالة علي المجتمع يأكلون كل جهود التنمية ويلقون من الأعباء علي كاهل الدولة ما يقعدها عن التقدم والنمو, فهم كما تدعي الحكومات الفاشلة ينتظرون من الدولة أن تلعب معهم دور ”بابا وماما” فتوفر لهم احتياجاتهم من الغذاء والكساء والمأوي, وذلك في الواقع تمحك ومحاولة لتعليق الأخطاء علي شماعات جاهزة أو هو محاولة لإلقاء اللوم علي الضحية. وهو فضلا عن أنه إدعاء كاذب وغير صحيح علميا فهو شديد الضرر من الناحية العملية, حيث إنه يشجع اتباع طرق وأساليب عديمة الجدوي في علاج مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو التنمية البشرية من أمثال المحاولات الفاشلة لزيادة كفاءة استعمال الموارد والمحاولات الأكثر فشلا لضبط الزيادة السكانية في البلاد أو الفئات الفقيرة.
إن الخبرات المتراكمة من تجارب التنمية في مختلف بلاد العالم توصلت أخيرا إلي أن التنمية الصحيحة هي التنمية البشرية في إشارة واضحة إلي أن البشر هم أكثر الموارد قيمة. وأحدث تعريف للتنمية هو اعتبارها توسيعا لخيارات الناس أي زيادة قدراتهم وتنمية مواهبهم وإتاحة أكبر فرص لهم للمشاركة في اتخاذ القرارات التي تخصهم, وتدعيم شعورهم بأنهم يسيطرون علي حاضرهم ومستقبلهم.
ويترتب علي ذلك من الناحية العملية ضرورة توجيه استثمارات كافية لتشجيع التنمية البشرية والإيمان بأن الاستثمار في إتاحة تعليم جيد وخدمات صحية ذات نوعية عالية لكل السكان هو الأكثر جدوي بين كل الاستثمارات, ومؤشر التنمية البشرية نفسه الذي يتم به الحكم علي مكانة الدولة أو الإقليم علي سلم التنمية, هو مؤشر مركب مشتق من ثلاثة مؤشرات تدل علي حالة التعليم والصحة والدخل أو مستوي المعيشة, والمؤشرات الثلاثة في الواقع شديدة الارتباط ببعضها.
كما أن تقرير التنمية البشرية في العالم المشار إليه آنفا يبين أن الدول التي تحتل المراتب الأولي في التنمية البشرية من 1 إلي 20 مثلا (وهي في عام 2002 مرتبة تنازليا كانت علي النحو التالي: النرويج, السويد, كندا, بلجيكا, أستراليا, الولايات المتحدة, أيسلندا, هولندا, اليابان, فنلندا, سويسرا, فرنسا, المملكة المتحدة, الدنمرك, النمسا, لكسمبرج, ألمانيا, أيرلندا, نيوزيلندا, إيطاليا) هذه الدول ومعظمها دول أوربية, تستثمر أموالا طائلة في كل من التعليم والصحة. فالنرويج مثلا كانت تنفق 7.7% من الناتج القومي الإجمالي علي التعليم في الفترة من 1995 إلي 1997, وكانت تنفق 7% علي الصحة. ولأن الناتج القومي الإجمالي لهذه البلدان المتقدمة ناتج ضخم للغاية فإن القيمة المطلقة للإنفاق علي كل من التعليم والصحة سوف تكون كافية جدا لتقديم خدمات علي مستوي عال من الجودة, فمثلا كان نصيب الفرد من الإنفاق علي الخدمات الصحية في النرويج في الفترة المذكورة يبلغ 3182 دولارا. في حين أن دولة في قاع التنمية البشرية مثل النيجر كان نصيب الفرد من الإنفاق علي الصحة خمسة دولارات فقط.
لعله قد يكون قد اتضح الآن أن التنمية والتقدم لا يعتمدان علي الموارد الطبيعية بل يعتمدان أساسا علي تنمية قدرات ومواهب البشر. وهذا في الواقع يجعل مهمتنا في التنمية أسهل, حيث إن الموارد الطبيعية لا يمكن أن نصنعها حيث إنها هبة من الطبيعة, ولكنها في الواقع هبة عديمة القيمة ما لم يتدخل البشر للاستفادة منها وتخليق ثروة تنفع الناس. ولحسن الحظ فإن البشر يمكن أن نغيرهم ونطورهم وننمي معارفهم ومهاراتهم وقدراتهم ونشجع ابتكاراتهم ونحفز مواهبهم. ولنا في ذلك أن نختار بين أن نحيل البشر إلي عالة يلتهمون ثمار أي تنمية إذا كانت هناك تنمية, وبين أن نجعلهم فاعلين ونشطاء في صنع التنمية والتقدم والرخاء من موارد يمتلكونها ويتحكمون فيها ولا يغتصبها منهم أحد.