رحل عن عالمنا الحاضر فى أبريل عام 2009 الرائد صفوت كمال أستاذ الفولكلور بأكاديمية الفنون بالقاهرة ونائب رئيس تحرير مجلة الفنون الشعبية التى تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (ساهم فى تأسيسها منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً). وخبير دراسات الفولكلور والأساطير والتراث الشعبى، وإذا كان صفوت كمال قد فارقنا فى الحياة الحاضرة بعد صراع طويل مع المرض، إلا أن مشواره العلمى والعملى سيظل حياً مؤثراً فى الفن الشعبى على الدوام – هذا المشوار الذى توج بدائرة التفوق فى العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001.
كان صفوت كمال أول من قام بجمع الفولكلور ميدانياً فى مصر، فمنذ حصوله على الماجستير من هولندة فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، عاد إلى أرض الوطن ليضطلع بمسئولية جمع مواد التراث الشعبى من أفواه الرواة، ومن ثم تصنيفها ودراستها على أسس علمية.
ليس هذا فحسب، بل أنه كان أيضاً أول من قام بجمع ودراسة المأثورات الشعبية الكويتية، وصدرت له مؤلفات رائدة فى هذا المجال، كما شارك بعدد من الأبحاث منها:”عادات وتقاليد الزواج فى الكويت”، تصنيف مواد المأثورات الشعبية، لقد عمل حقاً بإخلاص نادر فى خدمة التراث الكويتى، وكان رائده الصدق والتفانى واحترام النفس.
بانوراما ثقافية
ولد صفوت كمال محمد فى سبتمبر عام 1931 بالقاهرة.
● حصل على ليسانس الآداب – قسم فلسفة بجامعة القاهرة، عمل مدرسة لمادة “فنون بيئية” بكلية الفنون التطبيقية، ومدرساً لمادة “الأساطير” بكليات الفنون الجميلة بالقاهرة والإسكندرية.
● كما كان أول معد لبرنامج “الفن الشعبى” بالتليفزيون المصرى، وعمل بمصلحة الفنون ورئيساً للسكرتارية الفنية.
● عمل أيضاً أستاذاً غير متفرغ لمادة “علم الفولكلور” ومناهج البحث بالمعهد العالى للفنون الشعبية وبعض معاهد أكاديمية الفنون.
● كان رحمه الله عضواً بكل من:
– مجمع الموسيقى العربى عام 1971.
– منظمة الفولكلور الدولية عام 1985.
– لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة ومقرراً لها.
– المجالس القومية المتخصصة بشعبة الفنون عام 1986.
– جمعية المأثورات الشعبية عام 1999.
● شارك فى العديد من المؤتمرات العربية والدولية منذ عام 1958 وحتى عام 1999 فى الدول العربية والأوربية والآسيوية.
● شارك أيضاً فى الإشراف على عدد من الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه).
عاشق الفولكلور
إن المتتبع لرحلة صفوت كمال العلمية يجد أنه عاشق للفولكلور منذ البداية، تجلى هذا العشق فى مؤلفاته العلمية العديدة والدراسات الشعبية المتفرقة التى نشرها داخل وخارج مصر، أيضاً مراجعته وتقديمه لبعض المؤلفات فى هذا الحقل (عربية أو مترجمة).
من مؤلفاته:
(1) من عادات وتقاليد الزواج بالكويت عام 1972.
(2) الأمثال الكويتية المقارنة، بالاشتراك مع أحمد البشر الروحى.
(3) الحكايات الشعبية الكويتية عام 1985.
(4) مدخل لدراسة الفولكلور الكويتى عام 1986.
(5) التراث الشعبى وثقافة الطفل عام 1995.
(6) المأثورات الشعبية علم وفن عام 2000.
(7) صدر له مؤخراً كتاب يضم عدداً من دراساته المنشورة بعنوان “المأثورات العشبية علم وفن”.
– نشر أيضاً عدداً كبيراً من الدراسات فى مجلة “الفنون الشعبية” فى مصر، ومجلة “عالم الفكر” فى الكويت، حيث شارك فى عدد خاص عن “الفولكلور والفنون المعاصرة” ببحث بعنوان “المأثورات الشعبية والإبداع الفنى الجمالى”.
الفولكلور والبحر
هذا هو عنوان كتاب صدر مؤخراً للمؤلف الأمريكى “هوراس بيل” وترجمة أحمد محمود، وقام الأستاذ صفوت كمال بمراجعته وتقديمه. وكتاب “الفولكلور والبحر” الذى يقع فى “650” صفحة من القطع الكبير يضم مقدمة وأربعة عشر فصلاً تدور حول السفن والأسماء البحرية ولغة الحوار، ومأثورات الطقس والملاحة والأنغام والفنون البحرية، ونماذج من البشر البحرى ورجال الخوارق وعرائس البحر والوحوش وحيات البحر والجزر المسحورة، والخرافات والعادات والمعتقدات، والقراصنة وقادة السفن، والتهريب من البحر للبر والأساطير والحكايات البحرية وروايات اللامعقول عن السفن والأشباح.
يقول صفوت كمال فى تقديمه لهذا الكتاب: “كتاب له خصوصية العلمية فى دراسات الفولكلور بما يضم من مواد غزيرة متنوعة من عادات وتقاليد ومعتقدات شعبية وأساطير وحكايات الخوارق والكائنات البحرية العجيبة ومغامرات ربانية السفن والبحارة والقراصنة والمعارك البحرية بين رجال السلطة وقوات الأمن والمهريبن، وهى قصص لها واقع وإن كان للخيال فيها دور يجمع ما بين التراث الشفاهى والمأثور الشعبى وبين الحدث الواقعى والتصور الحالم، والأنغام والأغانى التى يترنم بها البحارة فرادى وجماعات، إضافة إلى المواقف الإنسانية والمواقف الساخرة، وتزاوج الحكايات بين عالم الجان وعالم الإنسان وهى غير العلاقات الخرافية التى يصنعها الإنسان من خلال الوهم أحياناً والخوف فى أحيان أخرى، لكى يبعث الإنسان الطمأنينة فى نفسه وسط المخاوف والأنوار وتوارث البحر أو المحيط…”.
يركز صفوت كمال فى تقديمه هذا إذن على مقولة المؤلف “هوراس بيل” من أن البحر عنيف، ولذا فإن مأثورات وفولكلور البحر كثيراً ما تتسم بالعنف، وحيث تشبه حياة الفولكلور البحرى حياة الموجة العارمة، فحياة البحر تتجمع وتعلو وتعلو ثم تبلغ أعلى ارتفاع لها وتندفع فى اتجاه الشاطئ وتتحطم ثم تعود وتشكل نفسها من جديد، وكذلك الفولكلور ينبع من أحداث صغيرة ومأثورات دقيقة وعناصر عديدة تتجمع عليها أحداث أخرى، كما يشير أيضاً إلى أن مادة الكتاب الغزيرة والثرية برغم ضخامتها هى جزء من كل لأن عالم البحر ملئ بالغرائب والعجائب…
مقتطفات إبداعية وآراء
أولاً: عن مشواره الطويل مع الفولكلور يقول صفوت كمال: “هناك أسماء كثيرة كانت صاحبة فضل وتأثير، بداية معرفتى المباشرة للأستاذ يحيى حقى الذى كان رئيسا فى مصلحة الفنون وقر رندبى للعمل فى المركز القومى للفنون الشعبية نظراً لاقتناعه بى، ومع بداية العمل فى هذا المجال تعرفت على الرائد الراحل أحمد رشدى صالح الذى شجعنى على مواصلة السير فى هذا الطريق وعلمنى إننا نخطئ كى نتأكد من الصواب، فالإجابة بـ”لا” تعادل الإجابة بـ”نعم”، ونحن فى الفولكلور لابد أن نجيب عن خمسة أسئلة: (ماذا ومتى ولماذا وأين ومن)، ومن الأساتذة الأجانب العالم الكبير “دينوفسكى”، ويضيف صفوت كمال: “عندما سافرت للعمل بالكويت تعرفت وتوثقت صلتى بالعديد من الأساتذة الكبار أمثال زكى نجيب محمود، وتوفيق الطويل، وأحمد أبو زيد أستاذ الأنثروبولوجى ومستشار تحرير مجلة “عالم الفكر” فى الكويت، حيث عملت معه فى الإشراف على المجلة، وتعلمت منه الرؤية الشمولية للعمل، ويأتى فى البداية والنهاية اسم أستاذنا الرائد عبدالحميد يونس الذى تشربت على يديه الاهتمام بتراثنا وهويتنا منذ أن كنت طالباً فى كلية الآداب.
ثانياً: وحول أهمية علم الفولكلور ووضعيته فى ظل العولمة: نجده يفرق علمياً بين ما هوم مأثور شعبى وما هو تراث، فلابد من مرور زمن مائة سنة على الأقل حتى تعتبر المادة مأصورات شعبية، وتقسم هذه المواد إلى ما يستخرج من دراسات تاريخية قديمة (تراث) أو ما يستخرج من الحياة نفسها من خلال الجمع الميدانى وهو الأساس.
وهنا يخشى صفوت كمال على مدى اهتمامنا بعلم الفولكلور، لأن الفولكلور عملية تناقل بين الأجيال بالأساس. الآن الغزو الثقافى المسنود بغزو اقتصادى أو قهر اقتصادى وتكنولوجيا الإعلام بما لها من سطوة وإبهار، كل هذا قد يؤثر سلباً إذا لم نحافظ على نقل إبداعات الأسلاف ونوظفها فى أعمال فنية محدثة لكى تتوافق مع الجيل الجديد وتقدم بلغة العصر، أى إنه إذا بقى هذا التراث فعلاً ولا يجد من يرعاه فإن مصادر الهدم من السهل أن تأتى من الخارج.
ثالثاً: حول إعداد أطلس فولكلور عربى، نجده يصرح بعد حصوله على جائزة التفوق من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001 قائلاً:
“كان هذا اقتراح بهذا وتم دعوة بعض المختصين. لكن للأسف لم يكن الإحساس بأهمية هذا المشروع على المستوى المطلوب، هناك بلدان عربية مثل المغرب وتونس والجزائر قطعت شوطاً جيداً فى تجميع تراثها الشعبى، وكذلك فى الكويت بدأ مركز الفنون الشعبية بجهود فردية منذ عام 1957 ومازال يواصل دوره حتى الآن. ولا شك أن هناك إمكانية لربط هذه الجهود خاصة أن الباحثين العرب فى هذا المجال يعرفون بعضهم البعض جيداً.
تحديات
أولاً: يرى الباحث الكبير صفوت كمال أن أهم الصعوبات التى تواجه الباحث فى مجال الفولكلور هى: التكلفة المادية، والاحتياج لأجهزة حديثة متطورة، وفى هذا نجده يقول:
“أذكر إننى فى بداية عملى الميدانى كنت أحمل جهاز تسجيل وزنه “12كجم” وفى وقت ما استعرنا من الإذاعة جهازاً آخر يزيد “8كجم”.
ثانياً: يدخل فى الصعوبات أيضاً اقتناء المتاحف لنماذج من فنوننا الشعبية أمر لا يحدث بسبب عقد الروتين.
ثالثاً: على مستوى الوكن العربى هناك ندرة فى عدد الباحثين الأكاديمين، علاوة على أن هؤلاء بمجرد أن ينتهوا من أطروحة الدكتوراه يتجهون إلى أعمالهم الخاصة ولقمة العيش، وهذه تعد خسارة للحياة البحثية، ولهذا السبب مثلاً نجد أن المركز القومى فى مصر وبعد مرور “44سنة” على إنشائه لم يستطع حتى الآن أن يتم المسح الشامل للقرى والبلاد المختلفة لمعرفة أنماط الإبداع والعناصر المكونة له.
رابعاً: يأتى فى إطار التحديات أيضاً ضرورة الحفاظ على تراثنا الشعبى وما يتردد الآن حول محاولات السطو عليه، حيث يرى صفوت كمال أن هذه مشكلة.
وهناك أيضاً مشكلة أخرى تتعلق بتزييف هذا التراث وبالتالى تزييف هويتنا… وبالإمكان الحفاظ على ذلك فى ظل تطور قوانين حماية الملكية الفكرية، وكذلك عمل تسجيلات موسعة لأنماط هذه الفنون، وأفريقيا على سبيل المثال يسرق إبداعها الفطرى بكل سهولة، فموسيقى الجاز أخذت من الإيقاعات الأفريقية، ومثلاً الثوت التلى الأسيوطى وصل إلى أحد بيوت الأزياء الأوربية المشهورة ليجعل منه فستان سهرة ناهيك عن الأزياء الفرعونية.
ويضيف صفوت كمال: إن هناك أشياء كثيرة تسرق وكما يقال: “المال السايب يعلم السرقة”. إن الحفاظ على هذا التراث وما يتعلق به من حقوق مادية وأدبية تحتاج إلى تضافر الجهد الإعلامى والإعلان عن منتجاتنا والتكيف القانونى للتعامل معها، وكذلك زيادة المراكز العلمية المنوط بها تجميع هذا التراث وتسجيله.
رحم الله الفنان والإنسان صفوت كمال… الغائب الحاضر.
==
س.س
أول أغسطس 2010