حتي في معقل عماد مغنية, في الضاحية الجنوبية لبيروت, لم يكن زملاؤه يجرؤون علي لفظ اسمه. عندما كانوا يريدون تنظيم لقاء, كانوا يتصلون بمعارفهم في حزب الله ويطلبون بهدوء رؤية ”الأخ الكبير” أو ”الثعلب”. مغنية, الذي كان بحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي, ملاحقا من قبل أقوي وكالات الاستخبارات في العالم بسبب دوره في سلسلة من التفجيرات وعمليات الخطف, كان يختار منزلا آمنا مختلفا ــ وتنكرا مختلفا ــ لكل لقاء. أحيانا كان يحضر ببدلة رجل أعمال علي الطراز الغربي, وفي أحيان أخري مرتديا بنطال جينز عاديا, لكنه لم يلبس قط بزة تظهره علي أنه أحد أهم الخبراء التكتيكيين في حزب الله. يقول محمد ياسين, وهو أحد القادة الفلسطينيين في لبنان الذي التقي مغنية مرارا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي: ”لم يقتصر الأمر علي العمليات الجراحية التجميلية. كان يضع أقنعة وشاربين وشعرا مستعارا”. في بعض الأحيان, كان المقاتل يقرص خده بشكل مازح ليتأكد من أنه لايزال الشخص نفسه. استمرت هذه اللقاءات بشكل متقطع طوال 20 عاما تقريبا. ثم ذات يوم في أواخر تسعينيات القرن الماضي, ”اختفي نهائيا”, علي حد قول ياسين.
أحدهم وجد مغنية ليلة الثلاثاء الماضي, فيما كان يفتح باب سيارته السوداء من طراز ميتسوبيشي باجيرو في إحدي ضواحي دمشق الميسورة. قوة انفجار السيارة المفخخة رمت بجثته إلي مدخل أحد المجمعات السكنية القريبة, فبترت أطرافه وتطاير الزجاج في أنحاء الشارع. وقد أفادت محطة المنار التليفزيونية التي يديرها حزب الله صباح يوم الأربعاء: ”الأخ القيادي الحاج عماد مغنية استشهد علي أيدي الإسرائيليي الصهاينة”. وأصدر المسئولون الإسرائيليون نفيا غير مقنع, فقد جاء في بيان لمكتب رئيس الوزراء إيهود أولمرت: ”ترفض إسرائيل محاولة المجموعات الإرهابية اتهامها بالتورط في هذا الحادث. ليس لدينا ما نضيفه”. الحقيقة هي أننا قد لا نعرف أبدا من قام بالتفجير فعندما قتل, كان لمغنية أعداء كثيرون. كان اسمه مدرجا علي لائحة أهم المطلوبين الـ25 من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) بعد عملية خطف طائرة تي دبليو أيه خلال الرحلة الجوية رقم 847 عام 1985, وعرض المكتب جائزة بقيمة خمسة ملايين دولار لمن يساعد علي القبض عليه. يقول يوسي ألفر, وهو مسئول سابق في الموساد: ”هناك الكثير من وكالات الاستخبارات التي كانت تسعي إلي النيل من هذا الرجل, بما فيها الوكالات الأمريكية. هذا الرجل كان ملاحقا باستمرار”.
وكما تعلم الأمريكيون في أعقاب هجمات 11 سبتمبر, فإن الإرهاب سلاح وليس عدوا موحدا. والمجموعات التي تمارس الإرهاب متعددة ويصعب تصنيفها وهي مقسمة بحسب المصالح والجنسيات والطوائف الدينية. لكن مغنية كان حقا أحد رواد الإرهاب العصري. المسئولون في وكالات الاستخبارات ووكالات مكافحة الإرهاب الأمريكية الذين اتصلت بهم نيوزويك رفضوا حتي التكهن بهوية الجهة المسئولة عن قتله فالقيام بذلك سيدفع حزب الله بشكل شبه محتم إلي الانتقام. لكنهم بدوا مغتبطين عند مناقشتهم موت هذا المقاتل. فمغنية, في النهاية, متهم بالمساعدة علي تنظيم بعض الهجمات الأكثر فتكا علي الأمريكيين, بما فيها تفجير ثكنة سلاح البحرية الأمريكية في بيروت التي قتل فيها 241 جنديا, واختطاف ويليام باكلي, مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) في بيروت عام .1984
قد يكون لهذا الاغتيال عواقب وخيمة علي الاستقرار في المنطقة. بغض النظر عن الجهة المسئولة, من شبه المؤكد أن حزب الله سيقوم بمهاجمة إسرائيل أو مصالح إسرائيل في العالم. فبعدما هاجمت مروحيات إسرائيلية موكب قائد حزب الله عباس الموسوي في جنوب لبنان عام 1992, فجر انتحاري نفسه في شاحنة محملة بالمتفجرات مستهدفا السفارة الإسرائيلية في بوينوس آيرس, مما أدي إلي مقتل 29 شخصا وجرح أكثر من .200 (اتهمت الأرجنتين مغنية وأصدرت مذكرة لتوقيفه بعد تفجير آخر استهدف مركزا ثقافيا يهوديا). خلال مأتم مغنية في بيروت الخميس الماضي, ظهر قائد حزب الله المختبئ حسن نصر الله في شريط مصور وأعلن: ”أيها الصهاينة, إن أردتموها حربا مفتوحة فلتكن حربا مفتوحة في أي مكان”. لقد وضعت إسرائيل سلاحيها الجوي والبحري في حالة تأهب وحذرت دبلوماسييها في الخارج. ويقول مصدر إسرائيلي مطلع -لم يشأ الكشف عن هويته لتحدثه عن الاغتيال-: ”الثأر محتم, وسيكون وقعه كبيرا”.
عند مقتله, كان مغنية أحد أقدم أعضاء حزب الله. لقد ولد في عائلة من المزارعين الفقراء وسط بساتين الزيتون والليمون في قلب جنوب لبنان الشيعي, وكان فتي محبوبا ويتمتع بجاذبية رياضية. يقول أبو خالد الشامل, وهو صديق لمغنية عرفه عندما كان مراهقا: ”كان مازحا بالفطرة”, مضيفا:أنه رأي ذات مرة المقاتل المستقبلي يلقي خطابا في زفاف عائلي مطلقا الدعابات ومتفاعلا مع الحاضرين بثقة غير معهودة لمن في سنه. بحلول منتصف سبعينيات القرن الماضي, كان مغنية قد لفت انتباه المقاتلين الفلسطينيين في المخيمات قرب مدينة صور في جنوب لبنان. عندما كان لايزال في سن المراهقة, شكل مغنية مجموعة من 100 شاب أطلق عليها اسم ”السرية الطلابية”, وقد ألحقت لاحقا بـ”القوة 17” النخبوية التابعة لياسر عرفات. وأصبح الشاب المرح عضوا مفضلا لدي القائد الفلسطيني. يقول الشامل:إنه سمع عرفات ذات مرة يتباهي علنا بذكاء الفتي وبراعته, وأن مغنية انضم بعد أسبوع من ذلك إلي مجموعة الحراس الشخصيين لعرفات, مرافقا القائد في أنحاء ضاحية بيروت الجنوبية حاملا بندقية كلاشينكوف علي كتفه.
بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982, انضم مغنية إلي مجموعة محلية من المقاتلين, نمت لتصبح حزب الله, الذي بات من أكثر التنظيمات المسلحة تطورا في العالم. بحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي, بدأ يلفت انتباه مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) في بيروت, التي كانت تشتبه في أن مغنية يساعد علي تنظيم عمليات خطف الغربيين في لبنان. توماس ساذرلاند, وهو عميد سابق في الجامعة الأمريكية في بيروت, اختطفه مقاتلو حزب الله عام 1985, قال لنيوزويك إنه شبه متأكد من أنه التقي مرارا بمغنية خلال فترة احتجازه التي دامت ست سنوات. بعد وفاة رئيس مكتب وكالات الاستخبارات المركزية ويليام باكلي خلال فترة احتجازه, بدأ خاطفو حزب الله يقلقون بشأن صحة سجنائهم, كما يتذكر ساذرلاند. كان رجل يناديه الرهائن بـ”الحاج” يأتي ويقف عند الباب, سائلا المخطوفين عن صحتهم الجسدية والنفسية. يقول ساذرلاند: ”كان الحراس يكنون إعجابا كبيرا لهذا الرجل. لا شك في أنه كان الرجل المسئول”. عندما شاهد صورة مغنية علي شاشة التليفزيون بعد عملية الاغتيال, تعرف إليه فورا. يقول ساذرلاند: ”إنه أكبر سنا ووجهه أصبح ممتلئا, لكنه ”الحاج” بالتأكيد.
بحلول عام 1985, كانت قد أصدرت مذكرة توقيف أمريكية بحق مغنية, وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد خططت لخطفه في بيروت. عام 1987, عرض رجل في بيروت يرتدي بنطال جينز وجزمة رعاة البقر علي عميل وكالة الاستخبارات المركزية بوب باير اغتيال مغنية لقاء 2000 دولار. فتردد باير, وطلب أن يلقي القبض علي مغنية حيا, كما جاء في مذكراته بعنوان See No Evil (ابتعد عن الشر). لكن باير يتذكر أنه وضع 10 أوراق نقدية من فئة 100 دولار في جيب المخبر, وطلب إليه البدء بجمع معلومات استخباراتية عن مغنية, من خلال استجواب جيرانه ومراقبة سياراته وتصوير منزله. لاحقا, كرر مخبر باير عرضه: وهو قتل مغنية بسيارتين مفخختين بأكثر من 2000 رطل من مادة السيمتيكس وتفجيرهما قرب مدرسة كان يفترض بمغنية أن يزورها. هذه المرة, كان الثمن المطلوب 12000 دولار. لكن باير رفض, مدركا أن الاغتيال مخالف للقوانين الأمريكية.
بحلول تسعينيات القرن الماضي, كان النزاع في لبنان قد هدأ, ومغنية قد تواري عن الأنظار. بعض المسئولين الاستخباراتيين الأمريكيين يعتقدون أنه ربما سافر أكثر من مرة إلي السودان للقاء أسامة بن لادن, الذي كان آنذاك يعيش في مزرعة كبيرة علي ضفة نهر النيل. في تسعينيات القرن الماضي, زعم علي محمد, وهو مسئول سابق عن أمن بن لادن كان أيضا أحد مخبري الحكومة الأمريكية, في شهادته في المحكمة أنه وفر الحماية الأمنية للقاء في السودان بين مغنية وبن لادن. يقول جاك كلونان, المسئول السابق عن مكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذي استجوب محمد, إن المخبر قال له:”إن بن لادن أمره شخصيا بالتقرب من مغنية, الذي كان آنذاك يختبئ في سهل البقاع في لبنان”.
يقول محمد إنه بعد اللقاء, درب حزب الله رجال بن لادن علي استعمال المتفجرات وزودوهم بزوارق زودياك من إيران ومتفجرات مموهة تشبه الصخور. يقول كلونان: ”لطالما قال الجميع إن هاتين المجموعتين لن تتضافرا أبدا. لكن إن كنت تعتبرنا الشيطان, فستضع كل الخلافات جانبا”. استمرت وكالات الاستخبارات الأمريكية في تلقي تقارير (معظمها بواسطة وسائل تجسس إلكترونية بالغة الحساسية) عن اجتماعات بين عملاء من حزب الله وإيران وتنظيم القاعدة. ويفيد تقرير لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر بأنه حينما سافر أربعة من المختطفين من السعودية إلي لبنان ـــ ومن ثم إلي إيران ـــ في نوفمبر عام 2000, كانت رحلاتهم الجوية مراقبة من قبل ”شخصيات مهمة” في حزب الله. كان إحدي تلك الشخصيات مغنية, وفقا لأحد العاملين السابقين في اللجنة الذي طلب عدم الكشف عن هويته لتحدثه عن أمور غير معلنة. (لم يجد التقرير أدلة علي أن مغنية كان علي علم مسبق بمخططات 11 سبتمبر, لكنه خلص إلي أن مسئولين إيرانيين سمحوا للمختطفين بالدخول والخروج من أفغانستان بجوازات سفر ”نظيفة”).
لكن مسئولين استخباراتيين حاليين وسابقين آخرين لا يزالون يستبعدون وجود روابط عملية مهمة بين الجهاديين السنة التابعين لبن لادن ومقاتلي حزب الله الشيعة في معظمهم. يقول بروس ريدل, وهو مسئول تقاعد حديثا من وكالة الاستخبارات المركزية: ”عندما كان أسامة بن لادن في السودان, كانت الخرطوم ممتلئة بكل أنواع المطلوبين في الشرق الأوسط. أظن أنه من الممكن أن يكونا التقيا لكنني أعتقد أن الأدلة حاسمة وتشير إلي عدم وجود تعاون فعلي”. من الناحية الاستراتيجية, ما من قواسم مشتركة كثيرة بين حزب الله والقاعدة. لقد كانت أهداف حزب الله أكثر براجماتية وقومية من أهداف بن لادن, وأقل تدميرية.
خلال تسعينيات القرن الماضي, ظن عملاء أمريكيون أكثر من مرة أنهم علي وشك إلقاء القبض علي مغنية. عام 1995, حصل مسئولون أمريكيون علي معلومات مفادها أن مغنية سيكون علي متن طائرة من المتوقع أن تتوقف في السعودية. لكن الحكومة السعودية رفضت السماح للطائرة بالهبوط لتفادي حادث دبلوماسي بغيض.
عاد اسم مغنية للبروز في التقارير الاستخباراتية في أوائل عام .2006 في يناير, تلقت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقارير يقال الآن إنها كانت صادقة مفادها أن مغنية سافر برفقة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلي دمشق للقاء مهم مع الرئيس السوري بشار الأسد وقائد حماس خالد مشعل وغيرهما من القادة في المنطقة. ثم في يونية من تلك السنة, اختطف رجال من حزب الله جنديين إسرائيليين علي الحدود الجنوبية اللبنانية, وكانت النتيجة حربا دامت 34 يوما اعتبرت إلي حد كبير انتصارا للإسلاميين. في أغسطس عام 2006, قال لنيوزويك مسئولان استخباراتيان رفيعا المستوي -طلبا عدم الكشف عن اسميهما لمناقشتهما معلومات سرية- إنهما كانا قلقين بشأن مجموعة نخبوية من مقاتلي حزب الله معروفة باسم الوحدة 1800 تحت قيادة مغنية. يقول رايدل: ”إنه حتي أواخر العام الماضي, كان المسئولون الإسرائيليون يتذمرون له من أن المتشدد هو صلة الوصل الأساسية لتدفق الأسلحة من إيران إلي حزب الله”.
الأمر شبه المؤكد الوحيد الآن هو أنه سيتم الثأر لموت مغنية. في ضاحية بيروت الجنوبية, تجمع آلاف اللبنانيين يوم الخميس الماضي في مسجد الشهداء الضخم لرثاء قائدهم الشهيد. ثمة اعتقاد سائد بأن حزب الله لديه علي الأقل بعض العملاء داخل الولايات المتحدة ويفترض مسئولون أمنيون أن الإسلاميين لم يقوموا بعمليات داخل أمريكا بسبب حسابات سياسية شديدة الدقة. مع ذلك, فإن المشهد في بيروت كان كافيا لإثارة قلق أكثر العملاء الفيدراليين قساوة. في رسالته المصورة التي بثت علي شاشات تليفزيونية ضخمة, توعد نصر الله باستئناف الهجمات خارج لبنان وحتي في إسرائيل. داخل المسجد, هتف الحشد بصخب: ”لبيك”.
بمشاركة مايكل إيسيكوف ومارك هوزنبول في واشنطن وكريستوفر ديكي في باريس وميتشل بروثيرو في بيروت ومازيار بهاري في طهران
نيوزوييك