تتمايز العصور التي مرت بالبشرية وتختلف التوجيهات والأفكار العامة التي حكمت الفكر الإنساني ,وبالتالي صارت موضوع فكر وفاعلية عقل الإنسان.
ففي العصور القديمة وقف الإنسان في دهشة أمام الوجود فكان الفكر الإنساني آنذاك فكرا وتعقلا وتفسيرا للوجود,ومن هنا نستطيع أن نقول إن الفلسفة القديمةالفلسفة اليونانيةنظرية في الوجود في حين أن الذي أصبح موضوعا للنشاط العقلي في العصور الوسطي هو الدين,الدين أصبح الظاهرة التي استقطبت النشاط الإنساني,فأصبحت الفلسفة محاولة لتنظير وتعقل الدين وتوفيق بين أوامر الدين من جهة وما انتهي إليه العقل من جهة أخري.
ترتب علي هذا أن أصبحت فاعلية الإنسان فاعلية ونشاط أخروي,بمعني إعداد الإنسان لملاقاة الرب بعد الموت. وهذا يعني إهمال شئون الحياة الدنيوية فانحطت المجتمعات البشرية وغاب العلم مما أفسح المجال لتفشي الخرافات.
وأصبح الحاكمالأمراء والملوكليسوا مجرد حكام دنيويين ولكن ظل الله علي الأرض ,فسلطة الملك مستمدة من كونه يمثل الله.
ومادام الأمر كذلك ,فالطاعة المطلقة هي مايميز المحكومين لأن طاعة الملك من طاعة الله والخروج عليه خروج علي الدين.وهذا يعني أن أوامر ورغبات الملكظل الله علي الأرضبمثابة قوانين واجبة النفاذ ومن ناحية أخري بالنظر إلي سيادة الدين سيادة تامة علي الحياة البشرية فقد تمتع رجال الدين بأهمية قصوي ومكانة عظيمة.
في هذا السياق لم يعد رجل الدين مجرد رجل دين ولكنه أصبح يتدخل ويحلل ويحرم ويجيز ويمنع ويدلي برأيه الواجب النفاذ في كل ما يتصل بحياة البشر من اجتماع واقتصاد وفكر.وأصبح وكيلا أو نائبا ينوب عن البشر في تفكيرهم أي أنه أصبح يفكر نيابة عنهم ومن ثم يشرع لهم طرائق حياتهم,مما يعني أن البشر أطفال قصر علي الوصي أو ولي الأمر إدارة حياتهم واتخاذ القرارات نيابة عنهم.
في هذا المناخ انحط الفكر واضمحل دور العقل وساد التواكل والإيمان بالقدرية وربط كل شيء بما فيه الأمراض والكوارث والنوازل بإرادة الله التي علي البشر الخضوع لها والتسليم بها.
يؤرخ تاريخيا بسقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 1453 في أيدي العثمانيين علي أنه نهاية العصور الوسطي وبداية العصر الحديث علي إثر حصار وسقوط المدينة فر عدد من العلماء المشتغلين بالتراث اليوناني القديم إلي جنوب إيطاليا طلبا للنجاة وهناك في الموطن الجديد عمد هؤلاء إلي مواصلة دراستهم ونشر الثقافة اليونانية القديمة فبدأ الاطلاع علي التراث اليوناني في الانتشار في الأوساط الثقافية في إيطاليا.
هذا البعث والإحياء للتراث اليوناني تولد عنه ماسمي آنذاك بالنزعة الإنسانية وهذه الحركة تعني أنه في إمكان العقل الإنساني إنتاج ثقافة رفيعة بمعزل عن الوحي فالثقافة اليونانية بكل روائعها ثقافة وثنية لا دخل للوحي الإلهي فيها.
ترتب علي هذا بعث الثقة في العقل الإنساني وفي قدرته علي المعرفة والإنتاج دون اعتماد علي الوحي الديني .فبدأ الإنسان علي استحياء يعود إلي الأرض وإلي التفكير في واقعه ,وبدأ المشتغلون بالعلم في تطبيق المفاهيم الرياضية علي الطبيعة فنشأ علم الطبيعة الجديد علي أسس رياضية ,مما مكن جاليليو من إثبات كروية الأرض وأن يبرهن كوبرنيكوس علي الفرضية القائلة بإن الأرض لا الشمس هي التي تدور علي عكس الاعتقاد التقليدي والذي يقول بثبات الأرض ودوران الشمس ,مما أعطي دفعة قوية للبحث العلمي واستكشاف العلم والكون الذي نعيش فيه.
وراء هذا عودة الثقة والإيمان بالعقل من جديد كأثر مترتب علي النزعة الإنسانية وليدة بعث وإحياء التراث اليوناني القديم.
هذا الإيمان الجديد بالعقل ودوره الحاسم في الحياة كان وراء الإصلاح الديني في القرن السادس عشر في أوربا فقد أقرت الكنيسة الكاثوليكية سلطان رجال الدينالكهنةكوسيط بين الله والناس وكمفسر وحيد للكتاب المقدس.
فجاء الإصلاح الديني وقال بإن الكتاب المقدس خاضع للفحص الحر وهذا يعني طرح سلطان الكهنوت جانبا.هذه الخطوة الجريئة أعادت للمؤمن عقله الذي سلب بسلطان رجال الدين,وأصبح من حق المؤمن أن يقرأ ويفسر لنفسه دون حاجة لسلطة خارجية تحدد معاني الكتاب المقدس.
هذا المناخ الجديد مناخ الإيمان بالعقل انعكس وتبلور بكثافة في الفلسفة ,حينما ذهب أبو الفلسفة الحديثة ديكارتإلي القول أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود الجديدهنا أن وجود الإنسان أصبح مؤسسا علي فكر الإنسان(الفكرالعقليعني الوجود)الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الميلادي أدي إلي تحرير الإنسان من ربقة السلطة الدينية وسمح للإنسان بإعمال عقله في النص الديني فكانت هذه الخطوة الجريئة بمثابة تنوير ديني. فالمعني الأول للتنوير حرية استخدام العقل كما هو واضح في الإصلاح الديني,ومع مقدم القرن الثامن عشر الميلادي رفع مفكرو ذلك القرن لواء التنوير بوصفه حرية العقل في كافة مجالات الحياة لتأسيس الحياة الإنسانية بكافة جوانبها علي العقل في وبالتالي طرح ما يتنافي مع العقل جانبا.
وكان شعار التنوير كما ذهب الفيلسوف الألماني كانطكن جريئا في إعمال عقلك بهذا الإعمال للعقل دك الفلاسفة قلاع المجتمع القديم اللاعقلية ومهدوا وحرثوا الأرض لبناء مجتمع جديد علي أسس عقلية في الاقتصاد والاجتماع والسياسة,فكان تيار التنوير هو المقدمة التي تمخض عنها ميلاد الثورة الصناعية عماد الحداثة والجدة في المجتمع الإنساني.وفي سعي فلاسفة ومفكري القرن الثامن عشر الميلادي لتسليط أنوار العقل الإنساني علي واقع المجتمع البشري بهدف طرح ماهو مظلم جانبا,نحوا جانبا كل سلطان سواء كان دينيا أم تقليديا,وبالتالي تحقق المعني الثاني للتنوير القائل بإن لا سلطان علي العقل إلا للعقل نفسه.
في ضوء نور حرية إعمال العقل والإعلاء من سلطان العقل,برزت قيم التسامح في مقابل التعصب لأن التسامح قيمة عقلية, في حين أن التعصب عاطفة هو جاء. ومن ثم الإخاء والمساواة في مقابل التفرقة بين الناس علي أسس لاعقلية .تلك التي كانت شعارات الثورة الفرنسية ,الوليد الشرعي لحركة التنوير في أوربا.
*باحث في الفلسفة