يواصل باراك حكايته في هذا الجزء من كتابه.
كانت أم باراك تتمتع بشخصية قوية قادرة علي احتمال المتاعب ومستعدة أيضا لمواجهة الأمراض مثل الدوسنتاريا والحميات, كانت تريد أن تساعد زوجها في بناء وطن في مكان ممتليء بالتحديات بعيدا عن موطن والديها . لكنها لم تكن مستعدة لحياة الوحدة . فقد أحبها لولو وقدم لها كل مايمكن أن يقدمه المرء, حتي عائلته استقبلتها بحفاوة ومودة واعتبرت ابنها ابنا لهم . لكن حدث شيء ما في العام الذي قضاه لولو بعيدا عنها .
ففي هاواي كان لولو شابا ممتلئا بالحياة والأمل متشوقا لتنفيذ خططه التي أعدها لتقدم بلده. وكان يحدث زوجته عن تاريخ عائلته بإعجاب ويحكي عن بطولاتهم في مقاومة الهولنديين لكنه لم يعد يفعل شيئا من ذلك الآن, بل سقط في بئر عميقة لايكاد يتكلم معها في حين كانت تسمعه بعد أن ينام الجميع يتجول في البيت وفي يده زجاجة الويسكي . لقد فقد الثقة بالكلمات وأصيب بالاكتئاب , ولم تعرف سبب ذلك إلا فيما بعد عندما تقابلت مع ابن عمه الذي كشف لها سر التغير الذي طرأ علي زوجها . ونصحها بألا تقسو علي لولو لأنه ضحية للتعذيب والقهر الذي يمارسه نظام سوهارتو . وأخبرها أن وصولهم إلي جاكارتا حدث بعد شهور من وقوع أبشع مذبحة وحشية راح ضحيتها مئات الآلاف . ففي فترة التطهير التي أعقبت الانقلاب تم استدعاء جميع الطلاب في الخارج, ولم يكن في خطط لولو أن يعود في ذلك الوقت. وعند وصوله أخذه رجال الأمن وحققوا معه وتم تجنيده للعمل بعيدا في جيانا الجديدة لمدة عام وأخبروه بأنه محظوظ لأن كل الطلبة المبعوثين إلي الكتلة الشرقية كان مصيرهم أسوأ فأكثرهم اختفي والباقون مازالوا في المعتقلات والسجون.
لكن لولو لايجرؤ علي أن يشرح أسباب صمته أو يرد علي أسئلتها عما يدور حولهم من أحداث. وأشار ذات مرة إلي أنها أجنبية ولديها حماية قوية , في حين أن سيف الاتهام مسلط فوق رقاب الإندونيسيين.
وما أسهل أن يتفوه المرء بكلمة حتي يجد رأسه يتدحرج من المقصلة. حين وصلت هي وابنها إلي جاكارتا كان لولو يعمل في وظيفة جيولوجي بالجيش ,وكان مرتبه ضئيلا لايكفي هذه العائلة فقررت أن تعمل في وظيفة مدرسة للغة الإنجليزية في مدرسة تابعة للسفارة الأمريكية حتي تساهم معه وتوفر لابنها احتياجاته .لقد ظنت في البداية أن التغير الذي طرأ علي شخصيته يرجع إلي هذه المشاكل المالية.لكن المسافة بينهما ازدادت اتساعا حتي بعد أن تصالح مع الواقع ومع الفساد.
عاد باراك إلي هاواي بعد ثلاث أوأربع سنوات وبقيت أمه هناك تمارس عملها , لم ير باراك, لولو إلا بعد عشر سنوات حين سافر لولو بمساعدة أمه إلي لوس أنجلوس للعلاج من مرض الكبد الذي قضي عليه في سن الواحدة والخمسين .
اهتمت أمه بتعليمه وركزت في دروسها علي أن تغرس فيه القيم الأخلاقية. قالت له : إذا أردت أن تتطور إلي مستوي الإنسان,فإنه يلزمك بعض القيم مثل الأمانة , والنزاهة , واستقلال الرأي”. وتذكره بأن أباه شب فقيرا في بلد فقيرة, عرف من المشقات أكثر مماعرفه لولو لكنه لم ينحرف أويتنازل,وحافظ علي اجتهاده وأمانته مهما كلفه ذلك. وعاش حياته طبقا لمباديء تتطلب نوعا من الصلابة , مباديء تقود صاحبها إلي أرقي أشكال القوة. وطالبتني أمي أن أحذو حذوه . فليس لدي اختيار . إنها صفات وراثية في الجينات. ثم أضافت” يجب أن تشكرني علي حواجبك, كانت حواجب أبيك خفيفة جدا وهذه مسألة لا قيمة لها. لكنك ورثت عنه مخك وشخصيتك”.
جاءت رسالة أمي البيضاء لتحتضن السود بصفة عامة. وكانت تعود إلي البيت محملة بكتب عن الحقوق المدنية وخطب وتسجيلات الدكتور لوثر كنج .وحين كان باراك يذكرها باستعراضات قوات الكشافة أمام الرئيس الإندونيسي ,كانت تذكره بمواكب الأطفال ومسيرتهم من أجل الحرية لكل امرأة سوداء, هي فاني لوهامرأو لينا هورن . أن تكون أسودا يعني أنك صاحب ميراث عظيم ,و مصير خاص وأعباء مجيدة لا يقدر علي حملها إلا الأقوياء مثلنا .
في هذا السياق وقعت عيني علي غلاف مجلة ”لايف” علي صورة الرجل الأسود الذي حاول أن يقشر جلده الأسود ويستبدله ليحل محله بجلد أبيض هروبا من الاضطهاد . إنني أتصور أطفالا آخرين مثلي من السود , قد مروا بمثل هذه اللحظات من الشفافية والتنوير. يقول باراك أعرف ان هذه المقالة كانت عنيفة, أشبه بهجوم شن علي من كمين.لقد حذرتني أمي من المتعصبين وهي تقول إنهم جهلاء وغير متعلمين وينبغي علي أن أتجنبهم .
لقد عاد باراك إلي هاواي وبشره جده بأنه سوف يذهب إلي مدرسة أمريكية . وعرفت مدرسته مس هيفتي أن أباه من كينيا, وقالت إنها عاشت هناك مدة من الزمن تعمل كمدرسة أطفال وأن كينيا بلد جميلة ومدهشة. وقد خفف كلامها عن باراك هموم اليوم الأول بالمدرسة وجعله يوما لطيفا وبعد أيام أخبره جده أن أباه أرسل برقية وأنه قادم لرؤيته قريبا .وأخبرته أمه أنها كانت تراسل أباه من إندونيسيا وتعرف أنه تزوج للمرة الثانية أيضا وخلف خمسة أولاد وبنتا.
احتضن أوباما ابنه باراك بشوق وأعرب عن سعادته برؤيته وبتفوقه في الدراسة , وبدا الابن خجولا فقال له أبوه” إن أخوتك في كينيا متفوقون أيضا فلا تخجل من التفوق . إنها صفة وراثية في الجينات”. نظر باراك إلي أبيه ولاحظ أنه يبدو مختلفا عن صوره, فهو يبدو نحيفا ,وفي عينيه اصفرار نتيجة إصابته بالملاريا عدة مرات .لقد أعد له مكانا مريحا في البيت الذي أصبح يجمعهم جميعا; الجد والجدة وباراك وأمه وأباه . قضي أوباما شهرا في صحبتهم عاد بعده إلي كينيا وكان باراك سعيدا بصحبة أبيه وزيارة الأماكن المهمة في هونولولو . وزاد فخره عندما زارأبوه المدرسة وتحدث مع زملائه في الفصل ورأي سعادتهم بكلامه وإعجابهم به.
مرت خمس سنوات منذ زيارة أبيه .كانت سنوات هادئة ليس فيها ما يعكر الصفو وهو يمارس الشعائر والطقوس التي تنتظرها أمريكا من أطفالها.تقارير هامشية واستدعاءات لمكتب المدير, والعمل بعض الوقت في محلات الهامبورجر. كان يحس بالمعاناة وضيق ذات اليد لكنه كان يجد راحة في معرفة أن وضعه يتحسن ويقول إنه قلما رأي أطفالا أفقر منه يتظاهرون بالسعادة .وكانت أمه تذكره بأنها انفصلت عن زوجها لولو وعادت بعده بفترة قصيرة إلي هاواي للحصول علي ماجستير في علم الإنثروبولوجيا .وعاش هو وهي ومايا لمدة ثلاث سنوات في شقة بأحد البلوكات السكنية معتمدين علي المنحة التي تتقاضاها أمه.
كان باراك يحس بالامتنان لجده وجدته ويقول إنهما ضحيا كثيرا من أجله, وقد أقبل علي الدراسة في البداية بهمة ونشاط في محاولة للحفاظ علي تفوقه في وسط جديد شجعه علي مزيد من الاختلاط والعمل , أذ وجد أن نصف الفصل تقريبا من السود . وقد شجعه هذا علي ممارسة الرياضة وكرة السلة وشارك بفرقته في كثير من المباريات لكن مشكلة الانتماء ظلت هي الهاجس الذي يؤرقه وزملاءه السود . كانت موضوع حديثهم المتصل وكان البعض يري أنهم يعيشون في مجتمع من صنع غيرهم أي من صنع البيض الأقوياء وهم ضعفاء لا يستطيعون تغييره . وقد أثر هذا التفكير فيهم ففترت همتهم وبدأوا يفكرون في هجر الدراسة والبحث عن عمل. في هذا الوقت توقفت رسائل أبيه التي كانت تغذي فيه روح الجد وتشجعه علي التقدم, و عادت أمه إلي هاواي بعد أن أكملت بحثها الميداني الخاص برسالة الماجستير. ولاحظت تدهور مستواه العلمي وانخفاض تقديراته الدراسية علي مدي العامين السابقين نتيجة مسايرته لأصدقاء السوء فقد عرفت أن أحد زملائه قبض عليه وهو يحمل كمية من المخدرات.
قضي باراك عاما في مانهاتن بنيويورك ينتقل من مكان إلي آخر كسائح, وهو يلاحظ قدرات الإنسان وإمكاناته ويتطلع الي مستقبله في حياة الناس, الذين يراهم باحثا عن ثغرة يمكنه أن يدخل من خلالها.
وهناك تقابل صدفة مع أخته مايا و أمه التي كانت تعمل لحساب بعض المنظات العالمية. وقضوا بضعة ليال قليلة معه ووجد باراك وظيفة كناس في إحدي البنايات أما أمه وأخته فكانتا تقضيان الوقت في الفرجة علي المدينة ومعالمها وحين يلتقون علي الغداء كانتا ترويان له مشاهداتهما وعندما ينتهي حديثهما يبدأ هو حديثه عن مشاكل المدينة وسياسة المعدمين .ويحاضر أمه عما تفعله المنظمات الدولية في تعويد دول العالم الثالث علي الاعتماد علي الغير.كان باراك في السادسة عشر وأخبرته أمه بقبوله في جامة كولومبيا وقال إنه قضي الصيف يعمل هناك وشعر لأول مرة بأنه رجل ناضج. وقبل أن يفترقا أخبرها عن خطته للسفر إلي كينيا لزيارة أبيه فشجعته علي هذه الخطوة لزيادة التفاهم والتعارف بينهما .
ثم جلست معه وأخذت تحكي له حكاية قديمة بصوت بعيد, إنها تكلم نفسها. لم تكن غلطة أبيك أنه سافر لأنني طلقته, عندما تزوجنا أنا وأبوك لم يكن جدك وجدتك سعداء بهذا الأمر. لم يستطيعا منعنا, وفي النهاية وافقا أن هذا كان أفضل شيء نفعله . لكن جدك حسين باراك أرسل لأبي خطابا طويلا ورديئا يقول فيه إنه لايوافق علي هذا الزواج. وهو لا يريد لعائلة أوباما أن تلوثه امرأة بيضاء. ويمكنك أن تتخيل رد فعل جدك هنا . كانت هناك مشكلة أخري مع زوجة أبيك الأولي . فقد أخبرني أنهما منفصلان. ولكنه زواج ريفي ولا يوجد له وثائق قانونية تؤكد هذا الطلاق. في ذلك الوقت تمت ولادتك. واتفقنا علي أن نعود نحن الثلاثة الي كينيا عندما ينتهي من دراسته. لكن جدك حسين استمر يكتب لأبيك ويهدده بإلغاء الفيزا. وأصيبت جدتك بالهستيريا فقد قرأت عن ثورة الماو ماو في كينيا الذين يذبحون الأجانب وتأكدت لها أنني سوف تقطع رقبتي وسوف تنزع أنت مني .
وعندما تخرج أبوك من جامعة هارفارد تلقي منحتين إحداهما من جامعة نيويورك تتكفل فيها الجامعة بالسكن وتكاليف المعيشة لنا نحن الثلاثة ولم يقبلها وفضل عليها منحة من هارفارد لاتتحمل فيها الجامعة سوي نفقات الدراسة .وقال كيف أرفض التعليم الأفضل . كان أوباما رجلا عنيدا لايفكر إلا في أن يكون هو الأفضل. كنا صغارا وكنت أنا أصغر منه بسنوات قليلة وعندما جاء لزيارتنا في هاواي كان يريد أن نأتي للحياة معه لأن زوجته الثالثة قد تركته. ولكنني كنت مازلت متزوجة بلولو ولم أفكر في هذا الأمر . وبعد عدة شهور اتصل باراك بأمه تليفونيا ليخبرها أن أباه قد مات, لتبكيه عن بعد. بعد ذلك اتصل بعمه في بوسطن وأخبره ثم كتب لعائلته في نيروبي خطاب تعزية .لم يشعر بأي ألم , شعر فقط بالفرصة التي ضاعت ولم يجد سببا للتظاهر بأي شيء آخر. وهكذا تم تأجيل زيارته إلي كينيا إلي أجل غير مسمي.. وبعد أيام رأي أباه في حلم وهو يقول له ” كنت أريد دائما أن أقول لك إنني أحبك”. فمشي باراك نحوه وعانقه وانخرط في البكاء ولم يستطع أن يمنع نفسه .