عن نشأة وافول الليبرالية المصرية قبل يوليو 1952 صدر للكاتب طلعت رضوان كتاب ( الليبرالية المصرية قبل يوليو 1952) التى يحتفلون المصريون هذه الأيام بمرور 59 سنة على تلك الثورة التى غيرت شكل الحياة فى مصر، وأنهت الحقبة الليبرالية التى يقول عنها رضوان فى كتابه إنها تنقسم إلى فرعين، فرع الليبرالية السياسية التى تعنى وضع إطار لمنظومة اجتماعية تحدد نظام الحكم ونظام الحكم الليبرالى يعتمد بدوره على مجموعة من الآليات منها مجلس نيابى منتخب انتخابا حرا حكومة مسئولة أمام البرلمان، رقابة صارمة على المال العام، حق تكوين الأحزاب وجمعيات المجتمع المدنى، أما الفرع الثانى فهو الليبرالية الفكرية التى تعنى إطلاق حرية الفكر والتعبير عنه دون أى معوقات ( مثل القول بثوابت الأمة )، وهذه الحرية تتطلب وجود إعلام حر له حق انتقاد مؤسسة الحكم وكشف كل صور الفساد وحرية البحث العلمى دون أى سقف، وتكريس أهم حقين، حق الخطأ وحق الاختلاف، وهما يتأسسان على قانون النسبية، أى أنه لا يوجد حق مطلق، فالصواب اليوم قد يكون خطئا غدا، ويؤكد رضوان أن الليبرالية لم تتحقق إلا بعد أن مهد المفكرون والعلماء لمعنى (العلمانية)، بمعنى الاهتمام بشئون العالم الدنيوى الذى يضع البشر قوانينه.
ويؤكد الكاتب أن بداية مخاض الليبرالية فى مصر بدء مع محاولة على بك الكبير استقلال مصر عن الخلافة الإسلامية ثم الحملة الفرنسية، بينما يرى آخرون أن بداية كانت على يد محمد على الذى أرسى دعائم الدولة المصرية مثل وجود دستور وبرلمان ورقابة على المال، ومن أمثلة ذلك الخطاب الذى ألقاه شريف باشا يوم 2 يناير 1882 أمام مجلس النواب، حيث قال لهم:” قد اعطت لكم الحكومة الحرية التامة فى إبداء آرائكم وحق المراقبة على أفعال مأمورى الحكومة، ونصرح لكم بنظر الموازنة العمومية، وإبداء رأيكم فيها ونظر كافة القوانين واللوائح “.
وفى بانوراما ممتعة يقدم طلعت رضوان سياحة عن نشأة الفكر الليبرالى من خلال التعليم والإعلام فعن التعليم يستشهد بقول الكاتب محمد لطفى جمعة، الذى قال إنه أتقن اللغة الإنجليزية منذ كان فى السنة الرابعة الابتدائية، وأشهد أن مجموعة الأستاذة فى مدرسة ابتدائية ريفية فى أواخر القرن التاسع عشر كانت أرقى من مجموعة أستاذة مدرسة عليا أو جامعة فى أوسط القرن العشرين، وكان هناك جو من الاستنارة والعلمانية فى مقرارات التعليم، لدرجة أن لويس عوض قال إن الكتب المقررة على الطلبة فى الفترة من 1926 – 1930 منها كتب مثل التربية الاستقلالية لجان جاك روسو وقادة الفكر لطه حسين، وذكر الدكتور أحمد عبد الجواد أن إنشاء مطبعة بولاق عام 1821 ساهم فى ترجمة وطباعة الكتب العلمية مثل كتاب كلود بك (أصول الفلسفة الطبيعية )عام 1827 وكتاب الجواهر السنية فى الأعمال الكيماوية ترجم فى ثلاثة أجزاء عام 1840 وغيرها الكثير.
ويعتبر عام 1908 محطة مهمة فى تاريخ مصر الحديث، حيث تم افتتاح الجامعة الأهلية وتبدو أهمية دور الليبراليين فى النهضة وفى وضع أسس الدولة العصرية، إذا وضعنا فى الاعتبار أن التعليم فى مصر كان يعتمد على الكتاتيب، وكان صراعهم كبير وشاق فى محاربىة الفكر الغيبى المسيطر فى المجتمع من خلال انتشار الخرافات وولم يكن طريق النهضة سلسا أو ممهدا لخلق مناخ ليبرالى فى تلك الحقبة، فالتيار الأصولى كان يجاهد كى تظل سلاسل العصور الوسطى فى أقدام المصريين وقاد الهجمة الأصوالية الأولى جمال الدين الإيرانى الشهير بالأفغانى الذى وصف العلوم الطبيعية بأنها جرثومة الفساد وخراب البلاد وبها هلاك العباد، كما طالب بأن تكون الرابطة الدينية هى البديل للانتماء الوطنى، وبعد الأفغانى جاء رشيد رضا وعبد العزيز جاويش حتى نصل لمحطة الإخوان المسلمين أى أن الأصولية الإسلامية كانت تشكل خطرا حقيقيا على مشروع النهضة المصرية، وهذه الثنائية والصراع ما بين النهضة الحديثة والتيار الأصولى هو ما يعانى منه المصريون الآن بعد ثورة 25 يناير، وقبل يوليو كان المفكرون المصريون يسعون لتشييد قواعد دولة عصرية، وكانت مصر مؤهلة بالفعل لتكون أعظم دولة فى الشرق الأوسط إلى أن تم إجهاض هذه الدولة على يد ضباط يوليو، والذين انتصروا بوعى أو بدون وعى للتيار الأصولى.
الكتاب قدم على مدار 140 صفحة نماذج من مصر الليبرالية الجميلة فخصص طلعت رضوان فصل عن المرأة المصرية قبل يوليو وقدم نماذج منهن، مثل الروائية زينب فواز والتى صدرت لها رواية “حسن العواقب” عام 1899 ، وهى الرواية العربية الأولى، وهدى شعراوى ونبوية موسى، كما تحدث عن دور المجلات الثقافية قبل يوليو مثل مجلات العصور والهلال والكاتب المصرى، ومن نماذج الكتب قبل يوليو تحدث رضوان عن كتاب من هنا نبدأ لخالد محمد خالد الذىكان مضمونه التحذير من الأصولية الإسلامية، وكتاب من بعيد لطه حسين وكتاب من أهدفنا الوطنية لشهدى عطية ومحمد الجبيلى، كما تحدث عن حركة الفن التشكيلى قبل يوليو وتيار القومية المصرية التى رفعت شعار مصر أولا لا الرابطة الدينية .
بعد قراءة هذا الكتاب يترحم المرء كثيرا على مصر الليبرالية، ويتأكد من تشويه ثورة يوليو للثقافة المصرية، الأمر الذى أوصلنا إلى انتصار وتغلغل كل هذه التيارات والأحزاب الدينية، التى تريد العودة بنا إلى الخلافة، فقد انتصر الأفغانى ورشيد رضا والإخوان وتفرعاتها الكثيرة، وأصبحنا فى زمن المسخ، فهل يستطيع أبناء طه حسين وسلامة موسى ولويس عوض من الليبراليين أن يعودوا ليبنوا مصر من جديد. إنه سؤال الحياة أو الموت.
—
م.م
24 يوليو 2011