دخل علينا في مدرج قسم الفلسفة في آداب عين شمس في الأيام الأولي من بداية أقول عام دراسي لنا في الجامعة وكنا متشبعين بأسلوب الدراسة الثانوية. شاب في بداية الثلاثينيات من عمره, وبمجرد دخوله دار همس بيننا إنه أنيس منصور… هذا أنيس منصور الذي سيحاضرنا في الفلسفة المعاصرة, وكان اسمه بدأ يلمع في أخبار اليوم.
وكانت البداية بأسلوبه المتفرد ليخرجنا من عالم الثانوي ويحولنا إلي باحثين ومفكرين… قال: لن أطبع محاضراتي في ملازم أو كتاب ومن يريد أن يحتفظ بها عليه كتابتها وعليه البحث عن مراجع… ومن لا يملك مالا لشراء كتاب فعليه أن يسرقه فهذا حق مشروع, كرسوا حياتكم ببقراء فهذا هو الفرق بين الإنسان المثقف والإنسان الجاهل حتي لو كان في أعلي المناصب.
بدأ أنيس منصور من أول محاضرة يرتفع بأفكارنا وتقاليدنا إلي السماء السابعة ثم يلقي بنا في حفرة بلا قرار. فعل ذلك عمدا لينفض عن عقولنا الغبار.
وبدأت المحاضرة وكلنا يكتب ما يقول غير أنه كان سريعا جدا والأفكار والكلمات تطاوعه وكان المستحيل أن نلاحقه, فكنا نجتمع بعد المحاضرة لنملأ الفراغات التي تركناها من بعضنا… كلمة هنا وكلمة هناك وسطرا هنا وسطورا هناك, وتحولنا منذ أول محاضرة من مجرد طلبة إلي عشاق.
مع مرور السنين التقينا علي فترات متفاوتة إلي أن نقله عبد الناصر هو ومصطفي وعلي أمين من دار أخبار اليوم إلي دار الهلال التي كنت أعمل بها في مجلة المصور, وأصبح لقاؤنا شبه يومي, وكثيرا ما كان يصحبني للغداء معه في نادي المراسلين الأجانب في جاردن سيتي وكنت أستمتع بحديثه الذي لا يتوقف, وكانت سعادتي مضاعفة لأنني لم أكن مضطرا لكتابة أقواله السريعة كما كنت في محاضراته.
وكان معنا في دار الهلال كمال النجمي, كان عميق الثقافة عذب الأسلوب والأهم من ذلك أنه شديد التمسك بالقيم الرفيعة والاعتداد بنفسه, وأحببت أن أقيم جسورا بينه وبين أنيس منصور, وفي إحدي جلساتي مع أنيس تعمدت الحديث عن النجمي فقال أنيس كلاما فيه مديح عنه, فنقلت رأي أنيس إلي النجمي فقهقه سعيدا… وصارت بينهما مودة عميقة, وعاد أنيس إلي أخبار اليوم مع حكم أنور السادات وتولي النجمي رئاسة مجلة الكواكب… ولأن النجمي رجل جاء وعلي مستوي رفيع من الخلق قام بعض نجوم الفن بالدس له في مجلس الإدارة فتم إيقافه عن العمل, اتصلت بأنيس ورويت له ما جري, وعلي الفور اتصل أنيس بأنور السادات… وعاد النجمي إلي موقعه بأمر رئاسي… رحم الله الاثنين.
لقد ظل شابا منطلقا ومتمردا في أفكاره وكتاباته حتي في شيخوخته.