ذهبت أزوره في مرضه فقد امتدت صداقتنا منذ الطفولة.. كان راقدا علي السرير مجهدا منهكا قليل الحيلة بعد أن كان يملأ الدنيا مرحا من حوله رغم وطأة السنين.
بعد لحظات فتح باب الحجرة ودخل رجل في بداية الخمسينيات. قال صديقي معقول يا محمد تترك دكانك لتقودني!! ثم قدمه لي صديقي قائلا محمد المكوجي.. نحن نتعامل معه منذ عشرات السنين. تكلم محمد لأول مرة وفي عينيه نظرة حنان آسرة وقال إنني لا أعتبره مجرد زبون.. هو أب بالنسبة لي.. حدث موقف منذ أربعين عاما لا أنساه, ويطفو دائما من أعماق ذاكرتي. كنت طفلا في العاشرة وجئت لأسلمهم المكوة.. كان هو الذي فتح الباب وفي يده ملعقة تحمل قطعة من المانجو.. كان يطعم أولاده بنفسه حتي لا يوسخون أنفسهم. لم ينطق بكلمة واحدة ولكنه فجأة دس الملعقة في فمي وأخذ المكوة وعاد بالشماعات ومعها ثمرة مانجو. عندما وضع قطعة المانجو التي كان سيطعمها لأحد أبنائه في فمي.. أقسم لسيادتك أنه لحظتها داوي يتمي وعالج جراح فقري وحاجحتي.
انصرف محمد فقال صديقي هذه الحكاية لا أتذكرها علي الإطلاق.. ولكنها تذكرني بحكاية سيد الذي كان صبيا يساعد عامل حجرة الملابس في حمام السباحة بالنادي, وكنت أشجعه وأرعاه ليكمل تعليمه حتي حصل علي بكالوريوس كلية التجارة انتساب, وعندما حصل علي الشهادة وقفت أهنئه بحماس قائلا والله وعملتها يا بلية. قال بلية خجلا مطأطأ الرأس كل تشجيعك لم يلمس أغوار نفسي كما حدث في موقف عارض غالبا لن تتذكره لأنه حدث منذ 35 عاما. أنهيت فترة عملي بعد أن مسحت دورات المياه, واخترقت شوارع المهندسين بعد العشاء, وكانت أيامها هذه المنطقة هادئة لا تسمع فيها صوتا بعد مغيب الشمس.. وأحسست بيد علي كتفي, وعندما التفت بوجهي رأيتك. سرت معي تحادثني ببساطة وتشجعني علي المذاكرة حتي وصلنا إلي محطة الأوتوبيس الذي يقلني إلي بولاق الدكرور, وبقيت واقفا معي حتي ركبت. وعندما انطلق الأتوبيس نظرت ناحيتك من النافذة فرأيت ظهرك وأنت تترك المحطة… هذه اللقطة لن تضيع من ذاكرتي ماحييت.
رأيت علي وجه صديقي بعد أن أنهي حديثه ابتسامة مشرقة راضية.. ورأيت وميضا في عينيه.. وفجأة انطفأ الوميض وبقيت الابتسامة العذبة.