جاءنا سؤال من الأخ وهيب حنا سليمان بالقاهرة يقول:
كيف أكتشف مواهبي ووزناتي التي أعطاها لي الرب,وكيف أنمو وأربح بها؟
الجواب:
اكتشاف المواهب والوزنات يجيء نتيجة لفضيلة مهمة لا غني للإنسان عنها في كل مراحل حياته الصاعدة في سلم الفضائل وهي فضيلةمعرفة النفسهذه الفضيلة التي لخصتها الحكمة القديمة التي وجدها سقراط الفيلسوف اليوناني منقوشة علي معبددلففي بلاد اليونان,فاهتم بها واتخذها مدخلا وعمادا لكل فلسفته,هذه الحكمة تقول:اعرف نفسك بنفسك.
والذي يقرأ الإنجيل المقدس بإ معان يجد أن مخلصنا كان يفترض هذه الفضيلة مدخلا أساسيا لكل معرفة روحية.وقد كان دائما يوجه لتلاميذه ولسائر الناس أسئلة فاحصة تثير الإنسان علي أن يجد الجواب عليها في أعماق نفسه,كما كان-له المجد-يجيب علي سؤال يوجه إليه بأن يوجه هو إلي السائل سؤالا فاحصا مثيرا للنفس حتي تفتش عن الجواب في أعماقها.ولقد قال المعلم الصالح مرة للجموعولماذا لاتحكمون بالعدل من تلقاء أنفسكم(لوقا12:57)وهكذا كان رسل المسيح يبشرون,قال ماربولس الرسول:ليمتحن الإنسان نفسه(كورنثوس الأولي 11:28)وقال أيضا:جربوا أنفسكم…امتحنوا أنفسكم(كورنثوس الثانية13:5)وقال كذلك: ليمتحن كل واحد عملهغلاطية 6:4 وقال ماريوحنا الرسول:فانظروا إلي أنفسكم…(يوحنا الثانية:8)وعلي ذلك فأول ما يجب عمله لاكتشاف الإنسان مواهبه ووزناته هو أن يتأمل ذاته ويراقب نفسه ويفحص داخله ,وبذلك يتجنب خداع النفس للنفس وعليه أن يكون صادقا مع نفسه,فيحكم لها أو عليها حكما عادلا كما يقول مخلصنا,حسب الحق الذي يجده في نفسه,من دون محالة لتبرير الذات.
هذه أول خطوة أن يكتشف الإنسان نفسه قبل أن يكتشف مواهبه والخطوة التالية أن يتأمل ميوله واستعدادته في الحياة العملية يراقب النجاح والفشل في وجوه نشاطه المختلفة.فإذا به يكتشف أنه ينجح في بعض هذه الوجوه نجاحا كبيرا وبأقل جهد بينما لايتيسر له مثل هذا النجاح في وجوه أخري,فيعرف أن له مواهب طبيعية,لافضل له فيها,من بعض الوجوه وأنه يجب عليه أن يستغلها استغلالا حسنا لينتفع بها وينفع بها غيره وعليه أن يكتفي بحكمه علي نفسه فقد لايكون قد بلغ من فهمه لنفسه هذه الدرجة التي تجعله يحكم في الأمور حكما صائبا وأمينا.فعليه أن يسمع حكم الناس فيه.,مخلصنا نفسه علمنا ذلك إذ سأل تلاميذه :من تقول الناس أني أنا(متي16:15,13),(مرقس8:27-29)(لوقا9:18-20)وأنتم من تقولون أني أنا ومع أن حكم الناس ليس صوابا دائما لكنه إذا كان ثابتا فلا يمكن تجاهله,وإلا ضاعت كل القيم,ولم يعد الإنسان قادرا علي أن يحيا في مجتمع الناس حياة موفقة سليمة.
وللإيضاح أقول:إن المواهب يمكن أن نوزعها علي نوعين أساسيين:مواهب طبيعية,ومواهب عالية علي الطبيعة.
مواهب عالية علي الطبيعة:
أما المواهب العالية علي الطبيعة فهي مواهب من قبل الروح القدس ينالها الروحانيون من الناس نتيجة نمو قواهم الروحية وذلك بالمجاهدات والرياضات الروحية,وينالونها حسب احتياجاتهم من جهة وحسب احتياجات الكنيسة والبشرية كلها من جهة أخري.
وطبيعي أن اكتشاف هذه المواهب ميسور,لأن ثمر هذه المواهب يظهر بين الناس في ممارسة أعمال غير عادية يلمسها الناس بأنفسهم فيتحققون أنها مواهب عالية علي الطبيعة,مثل شفاء الأمراض المستعصية شفاء تاما وعاجلا وإخراج الشياطين,والتنبؤ بالمستقبل,والتكلم بلغات معروفة مثلما فعل الرسل,وما إليها من المعجزات.وهناك مواهب أخري روحانية وعالية علي الطبيعة منها الإيمان الذي ينقل الجبال,ومحبة الأعداء,والصبر العجيب علي الشدائد والضيقات الذي يبدو عند كبار القديسين وهذا الطراز الأخير يمكن أن يتأمله الإنسان نفسه,ويمكن أن يلاحظه الناس فيه.
المواهب الطبيعية:
وأما المواهب الطبيعية فهي تتوزع أيضا علي أنواع منها المواهب البدنية ومنها المواهب العقلية,ومنها المواهب العملية.
والمواهب البدنية كقوة البنية وحدة البصر,ودقة السمع,وجمال الوجه والجسم,وجمال الصوت وما إلي ذلك.
والمواهب الذهنية والعقلية كالذكاء,وخصوبة الخيال وقوة الذاكرة والحافظة,وسعة الحيلة والقدرة علي الابتكار والتفكير المبدع وما إلي ذلك.
والمواهب العملية وهي هذا النوع من المواهب الذي يظهر عمليا عند كبار الفنانين والممتازين من أصحاب المهن الدقيقة.كالرسامين والنحاتين,والموسيقيين والممثلين وأعمال الخياطة والنجارة وما إليها من مهارات يدوية عملية. كذلك أيضا المواهب العملية عند قادة الجيوش وأبطال الحروب وكبار الإداريين وساسة الدول..
ليس عسيرا بعد ذلك أن نري إمكانية اكتشاف الإنسان لمواهبه إذا لاحظ أولا ميوله الطبيعية ورغباته واتجاهاته الذهنية واستعدادته البدنية ,وراقب نفسه ونجاحه فيها نجاحا عمليا ملحوظا ,ولاحظ الأثر المباشر لهذه الاستعدادات والميول علي الناس الذين يتعامل معهم,والنتائج الحسنة الملموسة منه ومن مجتمع البشر الذين يحيا بينهم ويعمل معهم ومن أجلهم.
ليس معني هذا أنه إذا فشل الإنسان في أمر,أو اعترضته صعوبات أن يعتقد في نفسه العجز ويعدل عن اتجاهه إلي طريق آخر فقد تكون له موهبة كامنة تحتاج أن يكشف عنها وأن يخلي بينها وبين الحياة.وليست الصعوبات المبدئية إلا امتحانا لصلابته وقوة مراسه,فكم من أشخاص فشلوا في مبدأ الأمر ثم صمدوا وبصبرهم نجحوا وصاروا من النوابغ المعدودين في نفس الاتجاه الذي اعترضهم فيه طريق النجاح.
إنما المقصود أن يصحو الإنسان لنفسه ويمتحن ذاته ويخطو ثم يراقب خطواته,ويتبين طريقه ببصيرة من يعرف ذاته جيدا,ويميز بين نجاح حقيقي ونجاح عارض,وبين فشل حقيقي وفشل عارض.ولئن كنا لانؤمن بأن هناك فشلا حقيقيا,فكل شيء مستطاع للمؤمن(مرقس9:23),(متي17:20).كما يقول رب المجد يسوع المسيح.مع ذلك فلا ننكر المواهب فالنحاس إذا صقل صار لامعا وجميلا ولكنه لايصير ذهبا.وقد يمكن لطالب أن يدرس الحقوق أو الهندسة أو الطب أو اللاهوت ويحصل علي إجازة فيها لكن ما أقل الذين نبغوا في الحقوق أو الهندسة أو الطب أو اللاهوت وما أكثر الذين حملوا شهاداتها العملية أن النبوغ في فن أو في علم يتوقف أولا علي الموهبة ثم علي صقلها بالعمل المتواصل,واكتشاف الموهبة فن يعتمد أولا علي معرفة النفس للنفس ومراقبتها بكل أمانة ودقة وفهم سليم وبصيرة مستنيرة.
ولمن يفهم نفسه جيدا أن يستعين بغيره من المرشدين والموجهين,أصحاب البصيرة والعلم وذوي الخبرة والتجربة ولكل علم وفن ,علماء وآباء وشيوخ يجب علي المبتدئين أن يفتحوا أنوفهم وأفواههم ليتلقوا من أنفاسهم.وعلي المبتدئين والمتقدمين,أولا وقبل كل شيء أن يصلوا ليفتح الله ذهنهم وقلبهم(لوقا24:45)ويهبهم بصيرة ليعرفوا الحق(يوحنا الأولي5:20)ويعرفوا أنفسهم,ويعبروا بنجاح الهوة القائمة بين الحق وبين أنفسهم.