عدت من زيارة خاطفة للوطن الأم؛ مصر. أم الدنيا، وأم الغلابة، وأم العيال. باختصار، أم المصريين، مع الاعتذار للسيدة “صفية” رحمها الله. وخلال رحلتي المكوكية تلك، مع الاعتذار هذه المرة “لصديقي هنري”، انغمست لشوشتي في لجة البشر التي انبعج من تكدسهم الوطن العزيز. وتبدلت خلال الأيام التسع التي قضيتها بمصر القبعات التي أحملها فوق رأسي، فتحولت من استشاري يحاضر في أحدث دراسات علاج الألم بين أخوة أعزاء يحتفلون بمرور خمس وعشرين عاماً على إنشاء الجمعية المصرية لعلاج الألم، إلى مهاجر مصري يعود لأرض الوطن ليرتمي في أحضان أصدقائه ورفقاء شبابه الدافئة، وإلى كاتب وروائي يحتفل بصدور الطبعة الثانية من روايته “زهور بلاستيك” في إحتفالية رقيقة أعدها الناشر “إلهامي بولس” في إحدى جنبات مكتبة “ديوان” الحضارية، القابعة بهدوء فوق خضم مروري عرمرم يكتظ به شارع 26 يوليو بالزمالك، ويستعد لإصدار روايته الجديدة “خاتم سليمان” في القريب العاجل إن شاء الله. هكذا ازدحمت أيامي وأمسياتي حتى فاتني وابل من الإنجازات التي لم أستطع أن أحققها، بدأت تطل برؤوسها نحوي منذ أن أقلعت بي الطائرة من مطار القاهرة وإلى الآن.
أود أن أسجل هنا انطباعًا قد أنفرد به بين إخواني من أفراد الجالية المصرية اللذين يزورون الوطن بين الحين والآخر، فنلتف من حولهم عند عودتهم لنسأل “كيف حال مصر؟”. لا أخفي مقدار توجسي خلال هذه الزيارة بالذات مما تصورته ينتظرني من تدهور للمنظومة الإجتماعية الفريدة التي تعيشها مصر لقرون طويلة، والتي وصمت بالتدني لأسفل السافلين في الآونة الأخرين بشهادة كل من زار مصر أخيرًا بل و معظم ما يكتب عن حال المجتمع المصري في ظل التيار الديني المتفشي الذي انزلق إليه المصريون. قالوا لي قبل أن أجيء بأن الحال لم يعد يطاق، وبأن التضييق على الأقباط قد وصل إلى ذروته، وبأن الحالة الاقتصادية المتدنية وتزايد السكان السرطاني قد انتزع من قلوب المصريين كل نزعة للتعايش السلمي بين عنصري الأمة، كما غنى الشيخ سيد درويش قبل نحو قرن من الزمان ـ إلا قليلاً ـ “أنا المصري كريم العنصرين/ بنيت المجد بين الإهرمين”. وأعترف هنا بأنني لم أجد مدينة أفلاطون الفاضلة، ولكن ومع ذلك، أقر بأنني لم أجد الأمر بمثل هذا السوء، بل وأزعم أنه بالمقارنة مع ظروف زيارتي السابقة في يونيو 2006، فإن الحالة تعد أقل سخونة، ومظاهر التأزم قد تكون أقل وطأة. ولكني أؤكد ههنا بأن الأمر لا يعَد إلا مجرد انطباع، وهو مبني على شعور عام استنبطته في خلال زيارة قصيرة، ولا يمكن أن يؤخذ بمأخذ علمي صارم مدعوم باحصاءات وأرقام تدعم نتائجها أو تفندها. المهم أنني شعرت بارتياح بوجه عام إذ وجدت أن الحال ليس بالسوء الذي توقعته، بل ووصل بي الأمر أن لمحت بارقة من الأمل في مستقبل قد يعد أفضل من الواقع الأليم الذي تعيشه مصر مؤخرًا. فماذا رأيت إذن؟ أود أن اطرح أمامكم ثلاث مشاهد لنتأملها معًا لعلها توضح الفكرة أكثر.
أول هذه المشاهد مجلس جمعني بمجموعة من الأصدقاء القدامى والجدد، طرح فيه أحدهم مقولة أن المسيحيين المصريين هم أصحاب البلد الأصليين، لذا فهو يتعجب من ـ بل ويستنكر بشدة ـ إعلان جماعة الإخوان المسلمين بعدم أحقية الأقباط ـ والمرأة ـ في أن يحكموا مصر. ولكون صاحب هذه الأطروحة من الأصدقاء المسلمين المتدينين المواظبين على أداء الفروض، ققد تعجبت للجرأة التي ناقش من خلالها أطروحته. ولما كنا مجموعة لا بأس بعددها نجلس حول طاولة واحدة نتبادل الآراء في تلك الأمسية الخريفية اللطيفة، فلقد توقعت ردود فعل متباينة بصدد أطروحته، وخاصة أن الغالبية العددية كانت لأصدقاء مسلمين. ولكنني فوجئت بإجماع الحاضرين بالموافقة على رأيه. ولكن بما أنني شخصيًا لم أكن مقتعًا أصلاً بفكرة أن مسيحيي مصر هم أكثر مصرية من أقرانهم المسلمين، حيث أؤمن بأن عدد أفراد جيش عمرو بن العاص الذي غزا مصر قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان لا يمكن أن يكون أصل المسلمين المصريين وذلك لإستحالة هذه الفرضية من الناحية الإحصائية العلمية، حيث أن بضعة آلاف من العرب عندما تختلط بملايين من المصريين فإنها تذوب فيهم وتختفي وسطهم، ولا تغير عنصرهم أو تبدله فيختلفوا عندها عن هؤلاء اللذين لم يعتنقوا الدين الجديد، بدليل أنك لا تستطيع أن تمشي بين الناس اليوم في أي من شوارع مصر وتتبين من أشكالهم المسيحي من المسلم، ولكنك ستفرز من بينهم السعودي أوالكويتي على الفور في حال إن وجد في وسطهم. إذن فالمصريون اللذين عبدوا “رع” و”آمون” هم نفس المصريين الذين آمنوا برسالة “مار مرقس الرسول” فتبعوا تعاليم “يسوع المسيح” فصاروا به مسيحيين، وهم نفسهم اللذين اعتنقوا الإسلام من بعدها لما حط بأرض مصر “عمرو بن العاص” وجيشه. بل وذهبت لأبعد من ذلك فقلت أن لفظ “القبطي” أطلقه اليونانيون على أهل مصر قاطبة وذلك قبل ميلاد المسيح بأكثر من ثلاثمئة عام عندما غزاها الإسكندر الأكبر بجيوشه، أي أن لفظ “قبطي” يعني أهل مصر أو شعبها من قبل أن يعتنقوا المسيحية التي لم تكن موجودة أصلاً. فالأقباط إذن لم يكونوا مسيحيون، بل ولم يصيروا مسيحيين إلا بعدها بنحو أربعمائة عام! .
المشهد الثاني جمعني بصديق طبيب يعمل بالسعودية لسنيين طويلة، وكنا نجلس بكافيتيريا بأحد الحياء الراقية بالقاهرة نتبادل أطراف الحديث في حين جلست امرأتان منقبتان حول منضدة بقربنا، وكانت إحداهما تدخن النارجيلة ولكن بصعوبة بالغة، إذ كانت تدفع بمقدمة الأنبوبة المتصلة بالوعاء الزجاجي عن طريق “الليّ” أو الخرطوم المطاط من تحت عباءتها السوداء التي غطت وجهها فتستنشق “النفـَس” ثم تزفر الدخان من تحت ملابسها فيتصاعد من بين طياتها وكأنها تحترق بداخل هدمتها، وما كان مني، حيال ذلك المشهد الكوميدي للمرأة المستعرة بجانبنا، إلا أن تشجعت وسألت صديقي هل تصلي بانتظام؟ فقال لي “طبعًا!” وفعلا عهدته مواظبًا على صلاته، فسألته ولكن لماذا لا أرى “الزبيبة” فوق جبهتك، علامة الصلاة تلك التي أضحت ماركة مسجلة لغالبية المسلمين في مصر اليوم؟ فضحك وقال لأنني لا أحك رأسي في الأرض كما علمهم الوهابيون! وسألته أيضًا عن والدته ـ رحمها الله ـ وكنت أزورهم دائمًا في منزله فتستقبلني بوجهها البشوش وبابتسامتها المرحة مرحبة، ولم أتذكر أنها غطت يوما رأسها اللهم إلا لأداء الصلاة وحسب، ولم أعهدها تدخن النارجيلة بين جدران بيتها فما بالك في الشارع وفي الأماكن العامة هكذا. وما كان منه إلا أن بدأ يقص على كيف أن أمه وكانت قد ذهبت لتزوره بالسعودية قد اضطرت لتغطية رأسها بمنديل إلا أنه لسبب الحر المميت في الطريق، يبدو أنه كان قد انزلق فانحسر قليلا عن شعرها، وإذا برجل يحمل خيرزانة يريد أن يضربها بها عقابًا لها عن استهتارها، فما كان من السيدة المسنة أن وقفت في عرض الطريق وانتهرته بشدة، بلغة مصرية أصيلة آثر حيالها الرجل أن يبتعد عنها ويتركها وشأنها. وكيف أن شيخًا قد جاءه يوما في العيادة الطبية ينتهره ويوبخه لأنه ارتضى أن يجلس بها بصحبة ممرضتين تساعدانه في استقبال مرضاه، مدعيا بأن تلك تعتبر خلوة محرمة، وكيف أنه طرده من غرفته بل واستصدر أمرًا من مدير المستشفى ـ السعودي الذي كان يكن له المودة والاحترام ـ يمنعه من معاودته في المستشفى من جديد. وكيف أنه لولا حسن علاقته بالمدير السعودي لما ارتضى أن يبقى هناك ولو ليوم واحد.
أما عن المشهد الثالث فهو أحبهم إلى قلبي على الإطلاق. كنت بصدد ابتياع بعض الهدايا والتذكارات في آخر أيام إجازتي حين انطلقت إبحث عن دكان لبيع التماثيل والمشغولات المصرية التقليدية حيث قابلت “الحاج محمود”. شيخ جالس عند مدخل دكانه بذقنه البيضاء الكثة وقد وضع القرآن فوق فخذيه وأخذ يقرأ. لما لمحني رفع رأسه وابتسم ثم هب واقفا وطوى كتابه بين يديه وسألني عن بغيتي، ثم أرشدني عن بعض بضاعته وإذا به ينسحب معلنا أنه سيجلس خارج الدكان ليتركني على راحتي أنقب في محتوياته، وإن كان على أتم الاستعداد لأن يجيبني عن أي استفسار في أية لحظة وانصرف. وفعلا جلت بين المعروضات أختار وأسأل عن أسعارها، فأجابني بأنه لا يحب المفاصلة لذا فقد وضع سعر البيع الحقيقي فوق كل قطعة، وفعلا وجدت أسعاره موازية لأسعار الهدايا التي كنت قد ابتعتها في العام السابق ولكن بعد جهد جهيد من الفصال في أسعارها. وبعد أن انتهيت من اختيار هداياي حملتها إليه حيث جلس، فإذا به يسألني إنت منين؟ فأجبته من أمريكا والبسمة الحانية تظللنا، وفوجئت به يقول لي على الفور”إوعى ترجع!”. وبدأنا حوارًا دافئا عن صعوبة الحياة بمصر، وعن تغير الأحوال وانتشار الجهل والنصب، وأشار إلى رجل واقفا أمام دكانه تبدو عليه مظاهر الثراء وقال”مامعاهوش غير دبلوم صنايع، وخرج بره كام سنة ورجع (باشا)، الناس كلها تقول الباشا راح والباشا جه، وأقول لهم باشا مين ده معاه دبلوم صنايع! يقولوا لأ.. إللي ف جيبه هو إللي خلاه بقى باشا! إوعى ترجع!!”.. واستمر الحوار وأنا مستمتع وكأنني أعرفه من سنين طوال. لف لي الهدايا بعناية، وهو يحدثني عن الفتاة في المحل المجاور وكيف تعمل في ثلاث أماكن لتساعد أسرتها. قال أنها ابتاعت قطة في يوم من الأيام ووضعتها فوق حجرها، وحينئذ أدركت أن الأمر قد حُسم؛ لن تتزوج المسكينة، إذ لابد لها أن تعمل وتعمل، ولا وقت للزواج، لذا أتت بالقطة لتؤنس أيامها الوحيدة القادمة. قام إلى داخل المحل وأتى بدفتر ثم جلس يستعرض صفحاته معي ـ صديقه القديم الجديد ـ مدونة به تفاصيل مصروفاته اليومية قائلا ً: “العيشة بقت صعبة هنا، إوعى ترجع!!” .
وتساءلت بيني وبين نفسي أين تكمن “العيشة السهلة” لأذهب إليها على الفور.