هذا هو التأمل الثاني في المزمور السابع والخمسين,وهو(كما قلنا في الأسبوع الماضي)إنه سادسمزامير الطريدوعددها سبعة مزامير أطلق عليها القديس أغسطينوس هذا الاسم في تفسيره لسفر المزامير,وهي مزامير7, 34, 52, 54, 56, 57, 142كتبها داود أثناء هروبه من مطاردات الملك شاول له,متنقلا من بلد إلي بلد,ومن كهف إلي كهف,ويبدأ مزمور57كما بدأ مزمور 56 بالقولارحمني يا الله.لذلك اعتبرت الكنيسة مزمور57مناسبا لصباح القيامة,وانتصار المسيح علي قوي الموت والجحيم(1كو15:24-28),كما تقول الآية الأخيرة منه:ارتفع اللهم علي السموات.ليرتفع علي كل الأرض مجدك.
ونجد في مزمور57 فكرتين رئيسيتين,أولاهما أن الله هو الحماية في المصائب(آيات1-6),وهو ما تأملناه في الأسبوع الماضي.وفي آيات7-11نتأمل تسبيح المرنم لهذا الإله الذي ينجي من المصائب.نلاحظ أولا روح التسبيح:ثابت قلبي يا الله,ثابت قلبي.أغني وأرنم(آية7).كنا نتوقع أنه بسبب كل المخاوف التي وصفها في الآيات السابقة يقول:خائف قلبي.ولو أنه قالها لكان له كل الحق بحسب المقاييس البشرية.ولكنه ثبت قلبه في الله بالرغم من كل المصائب.لقد وعده وعودا صادقة,وتعامل معه معاملات عظيمة.ولا يمكن أن ينسي يوم زيارة صموئيل النبي لبيت أبيه يسي ليمسح للرب ملكا.وجاء يسي بأبنائه الستة,ولكن صموئيل سأل:هل كملوا الغلمان؟.فأجاب يسي:بقي بعد الصغير وهوذا يرعم الغنم.قال:لا نجلس حتي يأتي إلي ههنا.وانتظر صموئيل حتي جاء داود,فمسحه ملكا بناء علي تكليف الله,فحل روح الرب علي داود(1صم16:1-13).وبسبب ثبات داود في الرب لم يتوقف عن التسبيح.لم يوقفه إبليس,ولا مطاردة شاول,ولا غدر الفلسطينيين.لقد جعل داود حوائط مغارة عدلام تردد صدي ترتيله,وشعاره:أسبح الرب في حياتي,وأرنم لإلهي ما دمت موجودا(مز146:2).الرب نوري وخلاصي,ممن أخاف؟الرب حصن حياتي,ممن أرتعب؟(مز27:1).لا يخشي من خبر سوء.قلبه ثابت متكلا علي الرب(مز112:7).ثبتم علي الإيمان,متأسسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل(كو1:23).
ويسبح المرنم الرب بكل حماس فيقول:استيقظ يا مجدي.استيقظي يا رباب ويا عود.أنا استيقظ سحرا(آية8).يدعو داود أمجد ما فيه ليسبح الرب,فيدعو عقله الذي يفكر,وقلبه الذي يحب,ولسانه الذي ينطق,وخياله الشعري الذي يكتب المزامير,وقدراته الفنية ليضع اللحن المناسب لتمجيد الرب.ويدعو كل آلاته الموسيقية من رباب وعود لتستيقط معه في الفجر.جاء في التلمود اليهودي أنه كان من عادة داود أنه يعلق عودا فوق رأسه.وبعد منتصف الليل كانت ريح الشمال تضرب أوتار العود فتنبعث الأنغام,فينهض علي صوتها يقرأ الشريعة إلي أن يحين الفجر.واقتبسوا عن داود قوله:يوقظ الفجر الملوك,أما أنا فأوقظ الفجر!.
وما أجمل قول الشاعر:
قم في الدجي يا أيها المتعبد حتي متي فوق الأسرة ترقد؟!
ثم يقول:أحمدك بين الشعوب يارب,أرنم لك بين الأمم(آية9).سبح داود الرب بين الشعوب فهذه روح كرازية,تتخطي حواجز الأمم والجنس,ليشهد لإلهه أمام من لا يعرفونه.وتحققت رغبته,فإن العابدين في كل الكنائس ينشدون مزاميره,وكأنه قائد فرق الترنيم فيها كلها!
ويشرح داود دوافع التسبيح:لأن رحمتك قد عظمت إلي السموات,وإلي الغمام حقك(آية10).دفعت الرحمة والحق داود للتسبيح.لقد طلب الرحمة من الله في أول المزمور,وفي آخره يؤكد أنها ارتفعت إلي السموات,فوق ظلم شاول وجميع مقاوميه,فإنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته علي خائفيه(مز103:11).رأي داود الله من داخل المغارة,وعندما خرج منها رأي الغيوم العالية وفيها قوس قزح,علامة عهد الله مع جده الأكبر نوح,فتأكد من أمانة الله.ولما هطل المطر الذي يروي الإنسان والزرع أدرك رحمة الله.صحيح أن الحق يحتجب أحيانا وراء غيوم الباطل,لكن احتجاب أشعة الشمس خلف الغيوم لا يعني عدم وجودها,فهي خلف الغيمة.والله موجود وراء كل تجارب الحياة,ولن يعطل وصول رحمته إلينا أي شئ.
وفي تواضع يطلب المرنم مجد الله فيقول:ارتفع اللهم علي السموات.ليرتفع علي كل الأرض مجدك(آية11).يري داود أن ترنيمه وتمجيده لله ليس كافيا,فيدعو الملائكة وأرواح الأبرار المكملين,أن يكملوا ترتيله المحدود بترتيلهم العظيم.ويدعو البشر جميعا أن يعلوا اسم الرب في كل الأرض,فتكون مشيئته كما في السماء كذلك علي الأرضوليتبارك اسم جلالك المتعالي علي كل بركة وتسبيح(نح9:5).
فليعطنا الرب أن نختبر دوما مراحمه التي لا تنتهي,ليرتفع علي كل الأرض مجده!وسمعت كصوت جمع كثير,وكصوت مياه كثيرة,وكصوت رعود شديدة,قائلة:هللويا,فإنه قد ملك الرب الإله القادر علي كل شئ(رؤ19:6).