لازلنا نتأمل في المزمور السابع والثلاثين, وقد سمعنا المرنم يقدم سبعة أسباب تساعد المؤمن أن لا يحسد الشرير. وفي آيات (16-40) من هذا المزمور يقدم المرنم سبع مفارقات بين الأبرار والأشرار, نتأمل أربع مفارقات منها في هذا الحديث, ونتابع التأمل في المفارقات الثلاث الباقية يوم الأحد القادم إن تأني الرب وعشنا.
5- مفارقة في السلوك: حد عن الشر وافعل الخير, واسكن إلي الأبد, لأن الرب يحب الحق, ولا يتخلي عن أتقيائه. إلي الأبد يحفظون. أما نسل الأشرار فينقطع. الصديقون يرثون الأرض, ويسكنونها إلي الأبد (آيات 27-29). ينصح المرنم مستمعيه أن يحيدوا عن الشر وأن يفعلوا الخير, كما قال: حد عن الشر واصنع الخير. اطلب السلامة واسع وراءها (مز 34:14) والنتيجة الطبيعية لهذا السلوك السليم أن الرب لا يتخلي عن المؤمن الذي يخافه ويتقيه, ولا يتخلي عن نسله, بل يمتعهم بالاستقرار, فيحيا المؤمن إلي الأبد في هذا النسل الذي يباركه الرب, وإلي الأبد يحفظون. ويرث الصديقون الأرض ويسكنونها إلي الأبد, لأن الرب يبيد الشرير ويمنح بركته للمؤمن, لأنه يحب الحق ويحقق القول الحكيم: لأن المستقيمين يسكنون الأرض, والكاملين يبقون فيها (أم 2:21).
لم يتخل الرب أبدا عن خائفيه, لذلك يصلي المرنم قائلا: يارب رحمتك إلي الأبد. عن أعمال يديك لا تتخل (مز 138:8) أما الشرير فلابد أن يبيد, وينقطع نسله, كما يقول المرنم عنه: لتنقرض ذريته. في الجيل لقادم ليمحي اسمه (مز 109:13).
6- مفارقة في الحكمة: فم الصديق يلهج بالحكمة, ولسانه ينطق بالحق. شريعة إلهه في قلبه. لا تتقلقل خطواته (آيتا 30و31). من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور (مت 12:34, 35). والصديق هو صاحب الموقف السليم من الله, وهو صاحب القلب الصالح, ولذلك يلهج قلبه بالحكمة الممنوحة له من الله, والمسطرة في الوحي المقدس الذي يملأ قلبه, لأن شعاره: خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك (مز 119:11). ولأن معه يتحقق قول المسيح: أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به (يو 15:3). إنه يتمم الوصية الموسوية: لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم علي قلبك. وقصها علي أولادك. وتكلم بها حين تجلس في بيتك, وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم (تث 6:6-8). والإنسان الصديق البار يعرف الحق لأنه يعرف شريعة إلهه, فينطق لسانه بالحق, ولا تتقلقل خطواته. إنه مثل القائد العسكري يشوع الذي قال الله له: لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك, بل تلهج فيه نهارا وليلا, لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه, لأنك حينئذ تصلح طريقك, وحينئذ تفلح (يش 1:8).
وما أعظم الفرق بين حكمة المؤمن المستمدة من كلمة الله وبين جهالة الشرير المبنية علي ضلاله. قال الحكيم: فم الصديق ينبت الحكمة, أما لسان الأكاذيب فيقطع. شفتا الصديق تعرفان المرضي, وفم الأشرار أكاذيب (أم 10:31, 32).
7- مفارقة في العاقبة: (آيات 32-40).
في هذه الآيات التسع يقدم لنا المرنم أربع حقائق عن عاقبة الصديق وعاقبة الشرير:
أ) الشرير يكيد للصديق, ولكن الرب ينجيه: الشرير يراقب الصديق محاولا أن يميته. الرب لا يتركه في يده, ولا يحكم عليه عند محاكمته. انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض. إلي انقراض الأشرار تنظر (آيات 32-34). أعطي الله الصديق شرف أن يكون نور العالم. ولما كان الشرير مريض العين فإن النور يؤذيه, ولهذا يقاوم الصديق, توبخ أعمال الصديق الصالحة أعمال الشرير الرديئة, فيتحرك ضمير الشرير عليه, كما توبخ قايين من هابيل (تك 4:6).
ب) كما أن الصديق أحيانا يقاوم أعمال الشرير ويخطئ أفكاره ويعرقل خططه ومؤامراته الأثيمة, ولذلك يراقب الشرير الصديق محاولا أن يميته. قد يجره إلي محاكمة ظالمة باتهامات كاذبة. لكن الله لا يسمح لمكايده أن تقتنص الصديق, ولا يترك الصديق في يد المحاكمة الكيدية. صحيح أن الشرير ينجح أحيانا في الكيد للصديق, فتصدر الأحكام الظالمة ضده, لكن الرب لابد ينصف مختاريه الصارخين إليه نهارا وليلا, حتي لو بدا أنه متمهل عليهم (لو 18:7).
وينصح المرنم المؤمن المفتري عليه أن ينتظر الرب. وتتكرر فكرة انتظار الرب كثيرا في الوحي المقدس, لأن الإنسان عادة متعجل, كما أن المتضايق أكثر تعجلا, لا يقوي علي الصبر حتي يجئ التوقيت الإلهي المناسب. ولكن لكل شئ تحت السماوات وقت (جا 3:1). فليصرخ المؤمن المفتري عليه: خاصم يا رب مخاصمي (مز 35:1) بمعني: تبن يارب قضيتي ودافع عني. وينصح المرنم المؤمن أن يحفظ طريق الرب فيرفعه الرب ويورثه الأرض, وينصره علي مكايد الشرير الذي لابد أن ينقرض!
ج) الشرير يزول: قد رأيت الشرير عاتيا وارفا مثل شجرة شارقة ناضرة. عبر, فإذا هو ليس بموجود. والتمسته فلم يوجد (آيتا 35, 36). الشجرة الشارقة الناضرة هي المزروعة في تربتها الطبيعية. ويظهر الشرير كأنه العاتي الزاهي, ولكن نهايته أكيدة. وفي هاتين الآيتين دعوة واضحة للتوبة, فإن الله يعطي النجاح للشرير ليعرفه بمحبته وإحسانه, فإن اعترف بفضل الله عليه وتاب غفر الله له. أما إن استمر في شره فإن الشر يميت الشرير. لقد عرف المرنم شريرا عاتيا مستبدا, زها كشجرة مورقة في أرضها, ولكنه قطع فجأة ولم يعد له وجود, لأن كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقي في النار (مت 3:10).
د) مصيران: لاحظ الكامل وانظر المستقيم, فإن العقب لإنسان السلامة. أما الأشرار فيبادون جميعا. عقب الأشرار ينقطع (آيتا 37, 38). هناك مستقبل متميز ورجاء عظيم للصديق المستقيم صاحب الموقف السليم من الله. الصديق يدخل السلام. يستريحون في مضاجعهم. السالك بالاستقامة (إش 57:2). قال الحكيم: لا يحسدن قلبك الخاطئين, بل كن في مخافة الرب اليوم كله, لأنه لابد من ثواب, ورجاؤك لا يخيب (أم 23:17, 18). أما الأشرار فيبادون لأنه لا يكون ثواب للأشرار. سراج الأثمة ينطفئ (أم 24:20). صوت رعوب في أذنيه. في ساعة سلام يأتيه المخرب.. قبليومه موته يتوفي, وسعفه لا يخضر (أي 15:21, 32).
هـ) خلاص الصديق أكيد: أما خلاص الصديقين فمن قبل الرب, حصنهم في زمان الضيق, ويعينهم الرب وينجيهم. ينقذهم من الأشرار ويخلصهم لأنهم احتموا به (آيتا 39, 40). تلخص هاتان الآيتان المزمور كله, وتقدمان التشجيع للمؤمن المجرب المتعب المتضايق, وتؤكدان له العون الإلهي والحماية الخاصة. ليست نهاية المؤمن حزنا, بل فرحا في الرب المنقذ والمخلص. لقد كانت شريعة الرب بهجة للمؤمن, فاتكل علي أمانة الرب واحتمي به, فكان الرب حصانا له في زمان الضيق, سواء جاء الضيق من العدو, أو من المرض, أو من الخطية.
من هو الإنسان الذي يتمتع بكل البركات السماوية والحماية الإلهية؟ إنه الصديق البار, صاحب الموقف السليم من الله. هو الذي برره المسيح وستره بكفارته الكريمة. فدعونا نلجأ إلي الرب الفادي, نحتمي بفدائه الكريم الذي جهزه لنا علي الصليب, فتقول: إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رو 5:1).