نتابع تأملنا في المزمور الخامس والثلاثين الذي يشكو المرنم فيه من سوء معاملة الأشرار له,وكيف جازوه عن خيره بالشر.وختم مزموره بصلاة (آيات17-28).ونري في هذه الصلاة:
1-صلاة واثق: ”يارب إلي متي تنتظر؟استرد نفسي من تهلكاتهم,وحيدتي من الأشبال.أحمدك في الجماعة الكثيرة,في شعب عظيم أسبحك” (آيتا17, 18).صام داود وصلي لأجل أعدائه,ولكنهم ردوا الخير شرا.وبقي الرب وحده موضوع ثقته,لأنه دائما أمين,لذلك عاتب ربه في محبة وأمل علي تأخيره,وطالبه أن يسترد نفسه التي كادت تضيع منه,وأن يحفظ حياته وحيدته من فم الأشبال المتوحشة المفترسة.ثم أعلن مقدما أنه سيعلن تسبيحه وسط المؤمنين علي عظمة أمانة الرب.
2-صلاة مستغيث:(آيات 19-21)
(أ)يستغيث من مبغضيه: ”لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلا,ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب” (آية 19).لو أن داود قاسي لأنه أخطأ لوجب أن يكون مزمورنا مزمور اعتراف,لكنه لم يخطئ في حق هؤلاء,فطلب من الله أن ينصفه لكي لا يشمتوا به,ولا يتغامزوا عليه لأن ”من يغمز بالعين يسبب حزنا” (أم10:10).
(ب)يستغيث من كلامهم الماكر: ”لأنهم لا يتكلمون بالسلام,وعلي الهادئين في الأرض يتفكرون بكلام مكر.فغروا علي أفواههم.قالوا:هه!هه!قد رأت أعيننا” (آيتا 20, 21).
إنهم يبغضون السلام,فكيف يتكلمون به؟إنهم يسخرون منه ويقولون إنهم رأوا سقوطه!فعلهم شرير وكلامهم مكير,وسخريتهم مريرة.ويبقي الرب وحده ملجأ المرنم من هذا كله.
3-صلاة مظلوم: (آيات22-26)
(أ) يظن المظلوم أن الله صامت: ”قد رأيت يارب.لا تسكت يا سيد.لا تبتعد عني” (آية22).يخيل إلي المظلوم أن الله يراقب المظالم في صمت.ينظر وكأنه يري.لكن المرنم يعلم أنه حي وموجود,فلابد أن يسمع ويعمل ويقترب لينجي المظلوم,وليدين الظالم.
(ب)لكنه يعلم أنه قاض عادل: ”استيقظ وانتبه إلي حكمي يا إلهي,وسيدي إلي دعواي.أقض لي حسب عدلك يارب إلهي فلا يشمتوا بي” (آيتا23, 24).لابد أن الله العادل يكره الظلم,ما قال له حبقوق: ”لم تريني إثما وتبصر (أنت) جورا؟…جمدت الشريعة,لا يخرج الحكم بتة,لأن الشرير يحيط بالصديق,فلذلك يخرج الحكم معوجا” (حب1:3, 4).فلابد أن الله يستيقظ وينتبه ليقوم بالدفاع عن المظلوم,لأنه القاضي العادل.
(ج) يعلم أنه لابد سينجيه: ”لا يقولوا في قلوبهم:هه!شهوتنا.لا يقولوا:قد ابتلعناه.ليخز وليخجل معا الفرحون بمصيبتي.ليلبس الخزي والخجل المتعظمون علي” (آيتا25, 26).لن يترك الله المرنم في فم الأشرار لينفذوا فيه شهواتهم الشريرة,ولن يسمح لهم أن يبتلعوه من أرض الأحياء فيبيدون ذكره,ولن يسمح لهم أن يصيبوه بسوء ثم يفرحون في مصيبته,ولابد سيرد خزيهم وخجلهم عليهم لأنهم متكبرون!هذا نصيبهم في الأرض,ونصيبهم في الأبدية.
4-صلاة فرحان: ”ليهتف ويفرح المبتغون حقي,وليقولوا دائما:ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده.ولساني يلهج بعدلك.اليوم كله بحمدك” (آيتا27, 28).في هاتين الآيتين يذكر المرنم ثلاثة يفرحون بنجاته واستجابة صلاته:أصحاب الحق الذين تبنوا قضيته بتكليف من الله,ثم الرب المسرور بسلامة عبده,ثم داود نفسه.طلب المرنم من الله أن يفرح مؤيديه ومحبيه معه بالعدالة والنجاة,حتي لو كانت مشاعرهم نحوه مجرد أمنيات بغير أفعال.وكل من يرفع صلاته واثقا لابد أن ينتهي به الحال فرحا.لجأ داود إلي الله لأنه مظلوم,فتدخل الله لإنقاذه.
بدأ مزمورنا بالشكوي ”خاصم مخاصمي…إلي متي تنظر؟” وانتهي بالهتاف: ”لساني يلهج بعدلك!”. ليعطينا الرب أن نرفع عيوننا له في كل ضيق فنختبر عدالته العظيمة.
++++++++
ونبدأ تأملنا في المزمور السادس والثلاثين,وعنوانه ”لإمام المغنين.لعبد الرب داود” وموضوعه ”شر الإنسان وصلاح الله”.ويقدم لنا مزمورنا صورتين متناقضتين,أولاهما للأشرار ذوي المبادئ والأعمال الفاسدة,الذين رفضوا الله ومخافته,وثانيتهما لمحبة الله التي بلا حدود.ويري المرنم نفسه بين هاتين القوتين الكبيرتين,فيخاف أن يقع فريسة الشر والشرير,فيدعو: ”لا تأتني رجل الكبرياء,ويد الأشرار لا تزحزحني” (آية11) ويطلب من الله المحب رحمته وخلاصه,لأنه ”عبد الرب” (وهو لقب المرنم في مزمور18,كما أنه لقبه في هذا المزمور).ويمكن تلخيص أفكار المزمور في المثل القائل: ”أما يضل مخترعو الشر؟أما الرحمة والحق فيهديان مخترعي الخير” (أم22:14).
يبدأ المرنم مزموره السادس والثلاثين بالحديث عن مبادئ الشرير وأعماله (آيات 1-4) فيقول:
(أ)إن الشرير لا يخاف الله: ”نأمة (أنين داخلي) معصية الشرير في داخل قلبي:إن ليس خوف الله أمام عينيه” (آية1).قد تعني هذه الآية أن قلب المرنم يئن وهو يري شر الأشرار وثورتهم ضد الله وارتدادهم عنه,كما بكي المسيح علي أورشليم لأنها لم تعرف ما هو لسلامها (لو19:41, 42).كما أن هذه الآية قد تعني أن قلب الشرير يئن وهو يعلن ثورته ضد الله ويبتعد عنه.ويمكن أن تترجم هذه الآية: ”توسوس المعصية للشرير في صميم قلبه” (بحسب ما جاء في إحدي الترجمات).
”ليس خوف الله أمام عينيه” لأنه يظن أن الله لا يحسن ولا يسئ (صف1:12) وأنه لا دينونة علي الشر,ولا ضرورة للتعبد.إن عينيه مفتوحتان تريان كيف يكسب رزقا أكثر,وهو لا يهم إن كان الطريق إليه حلالا أو حراما,وهو يعرف الكثير عن اللذة الحسية,والكراهية,والانتقام,والكذب,والغش,لكنه مظلم الفكر في الأمور الروحية,لأن إبليس ”إله هذا الدهر قد أعمي أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح,الذي هو صورة الله” (2كو4:4).ينقاد المؤمن بكلمة الله التي هي سراج لرجله ونور لسبيله (مز119:105) وينقاد الشرير بأفكاره المظلمة ”لأن من القلب تخرج أفكار شريرة:قتل,زني,فسق,سرقة,شهادة زور,تجديف.هذه هي التي تنجس الإنسان” (مت15:19).
(ب)الشرير يمدح نفسه: ”لأنه ملق نفسه لنفسه من جهة وجدان إثمه وبغضه” (آية2).توغل الشرير في الشر والبغض وهو يقنع نفسه أن إثمه وبغضه لن يكتشفا,وأنه علي حق.مسكين هذا الشرير,لأن خداع النفس أكثر الأمور خطرا علي صاحبها,فإن خدع إنسان غيره فهو يدرك في أعماق نفسه أنه مخادع.لكن إن ملق نفسه لنفسه,وصدق كذبه,فمن يقنعه أنه خاطئ يحتاج للتوبة؟.
في تأملنا القادم لمزمور 36 نسمع المرنم يحدثنا عن تصرفات الشرير.