تحدد يوم الأحد التالي لعيد الميلاد المجيد موعدا لزفاف الآنسة ماري أسعد إلي عريسها الدكتور مجدي حنا بكنيسة السيدة العذراء-السابعة مساء…
كان هذا الموعد هو ما اتفقت عليه أسرتا العروسين..
وفي الصباح الباكر من ذلك اليوم المشهود,قامت الأم دميانة من فراشها وراحت ترتب حاجيات ابنتها…ثوب الزفاف,علب الملبس,راجعت أسماء المدعوين حتي تتأكد أنها لم تنس أحدا من الأحبة فهي تعلم أن الكثيرين من أهل بلدتنا الصغيرة ينتظرون عرس ماري ابنتها الوحيدة التي يحبونها حبا شديدا,مقدرين أخلاقها الحميدة وأدبها الجم وحسن سيرتها.
وحين تأكدت الأم أن كل شئ معد تماما رأت أنه لم يتبق إلا أن تقوم ماري من فراشها لتجلس معها وتتحدث إليها بما ينبغي أن تفعله في ليلة عرسها السعيد…
وراحت الأم تشكر الرب,وسالت دموعها وهي تتذكر والد ماري الذي رقد علي رجاء القيامة منذ عشر سنوات,كانت ماري وقتها في الثالثة عشرة من عمرها فتاة في ربيع العمر زهرة تفتحت أكمامها وتضوع عبيرها…تنير أي مكان تجلس فيه بجمالها ورقتها وتجعله محببا بوداعتها وخلقها الطيب…
وتذكرت الأم دميانة وهي تعبر نهر الحزن بعد فراق زوجها,أن هدفها في الحياة قد تحدد في إسعاد ماري ابنتها,فلابد أن تتم تعليمها,ولابد أن تحتضنها وتعوضها عن حنان الأب,ولابد أن تكمل رسالة زوجها في تمهيد طريق الحياة أمام ابنتهما الوحيدة كما كان يتمني!.
فاضت عيناها بالدمع,ثم تبسمت وهي تعود لأجمل ذكري لها في حياتها…يوم زفافها هي منذ خمسة وعشرين عاما مضت…وقامت فنظرت إلي وجهها في المرآة وقالت لنفسها وهي تطالع وجهها…مازلت يادميانة جميلة,مازال بريق العينين يتألق بعد أن تكحلت,ومازال بالخدين حمرة باقية من أيام الشباب,لا بأس ثمة شعيرات بيضاء متناثرة في شعرك الناعم الأسود…وارتفعت عيناها إلي صورة زوجها المعلقة بالصالون,كان فيها يبتسم ابتسامته الحبيبة…تمنت أن تسأله:
أما زلت جميلة يا أسعد يا حبيبي؟
زفاف ماري الليلة يا أسعد…حققت لك كل ما أردت…ابنتنا كانت بين رموش عيني في غيبتك…وعادت عيناها تفيض بالدمع وهي تقول:
أعلم إنك هناك…أنت مع المسيح ذلك أفضل كثيرا…وترامي إلي سمعها صوت ماري…
صباح الخير يا ماما
مسحت دموعها وهي تقول:
-صباح الخير يا حبيبتي,انفضي الكسل وتعالي..
-أنا مستيقظة مبكرا يا ماما…
أقبلت ماري واحتضنت أمها وقبلتها وقالت:
-ماذا تريد ست الحبايب,أريدك ألا تكوني قلقة ولا تحملي هما!
-فقط يا ابنتي ذكريني إن كنت قد نسيت شيئا؟
-لم تنس شيئا يا ماما!
-هل كلمت عم أحمد في معرض الزهور؟
-كلمته يا ماما…وقال إنه جهز ما طلبت من الورود والأزهار والزينات,وسيكون مع العمال بقاعة الكنيسة ليشرف بنفسه علي تجهيز القاعة,وكل ما طلبت من زينة….وقال لي: ”والدك كان أخي…وأنت ابنتي يا ماري!أعني أنني لا أحتاج أن يوصيني أحد علي عرس ابنتي”
-أيريحك هذا يا ماما؟
-لن أرتاح إلا وأنت في الكنيسة بجانب عريسك مجدي والأب متي يتولي مراسم الزواج!
-ابتسمت ماري وقالت:سترتاحين يا ماما!
-لكن الأم هتفت فجأة:
-تذكرت شيئا مهما…لقد أخطأت ونقلت كل حقائبك إلي شقتك,ناسية أن في إحدي هذه الحقائب علبة حليك وشبكة عرسك…والمفروض أن تخرجي من بيت والدك وأنت بكامل زينتك وحليك!
-لا عليك يا ماما…الحقيبة الزرقاء هي التي بها علبة الحلي,نذهب معا ونحضرها!
-لا أنت عروس الليلة,ولن تخرجي إلا إلي الكنيسة…وبعد الزفاف والاحتفال بكما تتجهين مع عريسك إلي بيتك…هذا هو ما تعودنا عليه!!
-فكرت ماري…ثم قالت:
-ماذا ترين يا ماما؟
-سأذهب أنا,مادامت العلبة في الحقيبة الزرقاء كما قلت فلن أضيع وقتا…سأحضرها حالا…
-قبل أن تتناولي إفطارك؟
-لن أتناول شيئا قبل أن أحس بأنك جاهزة وأن كل شئ مكتمل,أريد أن أراك بكامل زينتك!
احتضنتها ماري وقبلتها وهي تغمغم…لا تتأخري يا ماما!
ذهبت الأم…كان الوقت مازال مبكرا,وكان حارس البيت نائما,صعدت السلم,فتحت باب الشقة في هدوء…اجتازت البهو…اتجهت إلي حجرة النوم…فوجئت بشخص يجلس علي أرض الحجرة…ظهره إليها…كانت أمامه الحقائب مفتوحة…ورأت يده وهي تفتش في بطن حقيبة بينما يده الأخري تمسك علبة الحلي…زعقت:من أنت؟
التفت مذعورا…كان هو…ذلك الصبي الصغير الذي كلفته هي بحمل الحقائب إلي الشقة والذي يدعي كامل يسكن مع أمه الفقيرة في كوخ عشوائي خلف شارعهم…قالت:
-ما الذي أتي بك إلي هنا يا كامل..؟عن أي شئ تبحث…؟ولماذا تمسك علبة الحلي…؟
-خالتي…سامحيني…أستريني…أنا محتاج لنقود…جئت أبحث عنها من أجل أمي المريضة الجائعة!
كان ممتقع الوجه..فزعا يرتعش!وارتمي تحت أقدامها وهو يردد:
”خالتي دميانة…سامحيني…أنت طيبة”
وقفت حزينة…ووضعت في حسبانها أن الليلة ليلة زفاف ابنتها الوحيدة..
نظرت إلي الولد الصغير وأحست نحوه بعطف وقالت:
-لا تخف يا ابني…هات علبة الحلي…تعال معي..
في الطريق قالت الأم دميانة…سوف أغفر لك يا كامل…لن أحكي لأحد عما فعلت…لكني أريدك أن تأتي معي…سأعطيك شيئا…هذه فرصة لن تتكرر…وإن احتجت لشئ تعال إلي..
كانت ليلة عرس جميلة,حضرها أهل بلدتنا…صدق العم أحمد في تجهيز قاعة كنيسة السيدة العذراء فبدت مزدانة بالأزهار والزينات وصور القديسين,وسلطت الأضواء علي صور للسيدة العذراء وهي تحمل السيد المسيح,وكانت الأم دميانة راضية…هادئة…مطمئنة…تتملي صور العذراء وتبتسم في وداعة وهي تتلقي تهاني وتحايا الأحباب…وكان الصبي كامل يلبس حلة جديدة وهو يحمل علبة حلوي,ويقف غير بعيد من الأم دميانة…ولما وجدها واقفة,أسرع وأحضر لها مقعدا وقال:
-أستريحي يا أماه!
كان يبتسم,ثم انهمرت دموعه وهو ينظر إلي صورة السيدة العذراء تارة وإلي الأم دميانة تارة أخري!…