ترجمة عبد المنعم حسن
هدأت العاصفة التي هبت في تلك الأمسية الصيفية وساد سكون عميق لم يعكره إلا صوت بعض القنابر وهي تحف بالأشجار الندية بقطرات المطر.وكأنما راعني سحر الطبيعة.فوقفت قليلا خلف الكنيسة اتأمل هذا السحر وفي هذه اللحظة مر بي طفل يسرق الخطي وقد علت وجهه ابتسامة خجله فقلت له:صباح الخيروأجابني بصوت كئيب:طاب مساؤكوأحسست بالحرج لذلك إذا كان الطفل أكثر مني دقة في تمييز الوقت,فما هي إلا ساعة,ويقبل الشفق,وأحسست من نبرات صوته أن الحزن قد قزح قلبه,وأن الكمد قد أجمد عينه,فهو يهيم علي وجهه هربا من عذاب نفسي اليم.
ومضيت في طريقي إلي الحظيرة,لأتي بلبن طازج,وكانت الأبقار تلمق جدرانها الخارجية والفراخ من حولها تلعب,وتنبش الأرض,وما كدت أهم بالرجوع حتي عادت قطرات المطر تتساقط,ولم أكترث لانبلال ثيابي فقد كان المطر ضرويا لتلك الأمسية,علي أنني عرجت علي الكنيسة لاعتصم بها بعض الوقت,وهناك لمحت الصبي جالسا في صحن الكنيسة وقد جمد عن الحركة..وكنت أحس دائما بنوع من الحنان نحو الأطفال ,مع كثير من الحذر ولكني شعرت بأن هذا الصبي الذي لم يتعد الثالثة عشرة من عمره ,وقد استأثر بكل عطفي واهتمامي ,إلي حد أنني كنت لا أجرؤ علي التقدم خطوة واحدة حتي لا أزعجه.
ولما أحسن بمقدمي جفل كالطير,واتجهت إلي الباب,وتغلبت علي الانفعال الذي غمرني وهتفت به بصوت طبيعي:أتخرج في مثل هذا الطقس؟أذاهب أنت إلي بعيد؟فتطلع الطفل إلي وقال.كمن أجبر علي البوح بسر:لا أدري
- تعال إلي بيتي قليلا,حتي ينقطع المطر ثم أضفت ضاحكة:وستري أن عندي حلوي جيدة النوع
وتردد الصبي وجذب جيب بنطلونه المرقع فسمعت رنين شيء يشبه المطواة أو الصدف وقال دون أن ينظر إلي:إنني متعبثم تبعني ولكن بحذر واضح,متجنبا السير إلي جانبي ,ولم يعرض علي بأدب أن يحمل أبريق اللبن كما هي عادة أبناء القرية,ولم يكن بيتي بعيدا عن هذا الموقع,فدفعت باب الحديقة,وأشرت له إلي أوراق العنب الأسود,فاقتطف عنقودا وأكله بنهم,فهو جائع..ولكن من أين أتي هذا الصبي؟.وما أن دخل إلي ردهة البيت حتي ارتمي بعنف علي مقعد وأقفل عينيه,دون أن ينظر حوله.وراعني هذا التعبير للتعب الذي يحسه الكبار,علي وجه الصبي الصغير ..وعندما فتح مقلتيه ,حبست الأسئلة التي كانت تتردد علي شفتي,ولزم هو السكون برهة,وعندما قررت أن أقطع حبل هذا الصمت ,قال هو بصوت خافت خجول هل لي أن أتناول شيئا من الحساء؟وما أن جلسنا لتناول العشاء,حتي ظهر الصبي علي طبيعته,فأشرق وجهه بالابتسام والثقة,والفضول,وراح يسأل وهو يلتهم الطعام:هل استطيع إجلاس القط علي ركبتي؟في ماذا يستعمل هذا السكين الكبير,وخطر لي أن أبقي هذا الصبي الليلة علي الأقل,فكيف أدعه يخرج إلي الطرقات في مثل هذه الساعة؟ولكن من أين أتي!وأين يسكن؟أما قلق أهله عليه؟..قلت له:
إنك لاتستطيع الخروج وحدك في مثل هذه الساعة..فإذا كنت قد ضللت طريقك أمكن إخطار أهلك وفي الغد…ولكن الصبي وقف شاحبا,وقاطعني قائلا:كلا,سأخرج حالا..ليس بيتي بعيدا وسأصل في وقت مناسب.وضم يديه واتسعت عيناه ,مثل الصبي عند سماعه لقصة المتشرد الذي قبض عليه البوليس.وعدت أسأله:وأين تسكن؟فلم يجب ,ولكنه زم شفتيه,كمن يبحث عن جواب ينقذه من هذه الأسئلة ولم استطع مقاومة العطف علي هذا الصبي,فانصرفت عنه بحجة ترتيب الأطباق.ما عتمت أن عدت إليه عندما سمعت زفراته..كان يبكي بتشنج,وقد أخفي رأسه بين زراعية وادلاه علي ركبتيه. ولم تنجح مداعبتي في رفعه,فقد استرسل الصبي في بكائه.
وقلت له بحنان: هل لك أن تثق بي بعض الثقة ؟هل لك أخت كبيرة ؟هل تريدني أن أكون أختا لك؟
وتضاعف بكاء الصبي,ولكنه رفع جبهته ببطء وتركني أقبلها وهمست في أذنهقص علي ماحدث..
- لقد هربت
- من أهلك؟
-كلا-ليس لي أهل
- ثم أردف قائلا بعد تردد وهو يرفع رأسه بزهو.
- هربت من أسرة قروية احتضنتني عندما كنت صغيرا.
وجفت دموعه بالتدريج,وأخذ يسرد قصته بصوت هاديء.
فقال إنه قدم من جهة نائية,وذكر اسم قرية لم أسمع بها من قبل..حيث تقيم تلك الأسرة الفالحة للأرض,وكان يعمل عندهم كرجل!فكانت تحرمه من الطعام وكان أفرادها يضربونه..وأخيرا هرب,وهام علي وجهه يومين لم يذق خلالهما أي طعام ورأي خنزيرا وحشيا فاعتراه الخوف وعاد إلي البكاء والتشنج,وجمدت عيناه كالسجين المطارد.
وحدثت نفسي أسألها:مانصيب هذه القصة من الصحة.وخطر لي أن أبلغ البوليس,ولكن ما الفائدة من تمريضه لقسوة جديدة فإن الطهر الذي كان يلمع في عينيه ثم القلق الذي كان يستبد به..كل ذلك جعلني في حيرة من أمره فقررت أن أعيد إليه الطمأنينة أولا,فقلت له:لاتخشي أن أسلمك إلي أيد شريرة ستستريح هنا بضعة أيام,فاطمئن بالا..وكان يجيب باءيماءة من رأسه,دلالة علي القبول,ومال رأسه جانبا إذ نام بين ذراعي.
وكنت اعتقد أن دخول الأطفال والأحداث إلي بيتي هو بركة,وبخاصة هذا الصبي السليم الطوية,المحاط بالأسرار كما نتخيل الملائكة ومن يدري فقد ابقيه,وعكفت اتودد إليه حتي استجلب حبه فأنقذه من هؤلاء الذين لايحبونه,وحملت جسمه الخفيف إلي سرير قريب دون أن أقطع عليه نومه.وقضيت الليلة ساهرة,أفكر في كل هذه الاحتمالات العجيبة وسمعت وسط الليل حركة خفيفة,ففتحت باب غرفتي بهدوء ورأيت الصبي وقد غادر فراشه ووقف جامدا أمام النافذة,يتطلع إلي النجوم وكأنه يستوحي الليل حلا لمشكلته الخفية التي يضيق بها..وخشيت أن يقطن لمراقبتي له فأقفلت باب غرفتي.
ونمت قبيل الفجر,علي أنني بكرت في اليقظة لأعد له فطورا ساخنا أكسب به ثقة الصبي ولكنني رأيت سريره خاليا وقد بعثر أدواته في العبث المألوف من الصبية ولم أحاول حتي البحث في الحديقة فقد ذهب الصبي بعد أن أقطع لنفسه قطعة كبيرة من الحلوي.
وفي نفس هذا الصباح قرأت في صحيفة أقليمية أن البوليس يبحث عن ابن أسرة قروية من الأحياء المجاورة في سن الثانية عشرة اختفي بعد أن ألقي في بحيرة عميقة أعز صديق له,علي أثر عرك بينهما واختفي صبي آخر شهد الحادث من الفزع الذي استولي عليه وهو يري القاتل الصغير جامدا كالصخر أمام الدائرة التي كانت تتسع في الماء,وظللت طويلا أتمثل الصبي واقفا عند مفرق الطريق المظلم,وذلك الصبي الذي نسيت أن أسأله اسمه.
لـ عبد المنعم حسن
وطني يناير 1959