منذ نحو شهر أو أكثر ذهبت مع صديقي المخرج الشاب “زياد سعودي” لشراء ملابس جديدة من منطقة وسط البلد الشهيرة، ولسوء الحظ، نسي ” سعودي” “بنطلونه”الجديد في سيارتي المتواضعة، الموقف اصابني بفزع “خزعبلي”، فجزء غير قليل من المجتمع بعد ثورة 25 يناير، لم يتغير موقفه الرافض لوجود الآخر سواء كان دينيا أو عرقيا أو سياسيا أوحتى كرويا.
بكل بساطة من سيمنع من يطلقون على أنفسهم السلفيين من المطالبة بـ”سروال /بنطلون” أخيهم زياد، كما طالبوا ومازلوا يطالبون بأختهم “كاميليا” وكذا أختهم “عبير” ومن تستجد من الأخوات، فلا يصح – طبقا لرؤيتهم- أن يستولي “ذمي” مثلي على بنطلون مسلم، خاصة وأن البنطلون المتنازع عليه مختلف فهو “بزراير” وليس بسوستة كبقية البنطلونات، وربما أستغل الموقف ” كذمي” وأرتدي البنطلون وأذهب به للكنيسة.
لم تخرج هذه الفكرة من دماغي، قلت لسعودي تعالي نرجع نأخذ البنطلون، حتى لا تحدث فتنة على
“اللباس”، فكل ما يلبس هو لباس.

ولكن سعودي خفف من هواجسي، وجلسنا على مقهي لمشاهدة مباراة كرة قدم للترويح قليلا على النفس. وياريتنا ما جلسنا، فالوضع لم يختلف كثيرا بعد 25 يناير وظل اللعب، وأكرر اللعب، على الطائفية بدءا من حرق كنيسة صول حتى أحداث امبابة. وكذلك الفتنة الكروية عادت بوجهها القبيح، فمعظم أفراد الشعب طوال الموسم الكروي الذي عاد بعد الثورة غرق في الصراع “الزمهلاوي” حتى أذنيه والكل ينتظر الانتصار فالشعوب المقهورة تظل تحلم بأي انتصار حتى لو كان وهميا لكي تزهو به.

نظرت لسعودي، وقلت له: “يا عم تعالي نروح نجيب البنطلون أحسن”. فقال لماذا “الإصرار على جلب البنطلون يا ماجد”. وهنا التبستني حالة من الجدية الشديدة غير المعروفة عني، ورحت أقول له:” أنظر إلى حالنا منتهى الهزل والعبث أن يتم شرخ الوطن بأسلوب الآخر، والذي هو الجحيم، والأمر الهزلي لم يقف عند الإختلاف الديني، فربما الهوس الكروي يستدعي من بعض العقلاء اقناع بعض مشجعي الأهلي أن اطلاق مصطلح الثورة البيضاء على ثورة 25 يناير لا علاقة له بلون قميص الزمالك منافس الأهلي اللدود لأنها أبدا لم ولن تكن ثورة بيضاء “بخطين حمر”. الحقيقة أننا عشنا لفترة طويلة محاصرين بالفتنتين الطائفية والكروية تربينا على رفض وكره الآخر، فالأمم التي ظلت أسيرة لعقود متتالية لنتجية انتخابات واحدة 99.9 % التنوع والإختلاف قد يكون غير وراد أصلا في عقلها الجمعي، وأتسق مع النتيجة الإنتخابية التي وصل عمرها لنحو 55 عاما تقريبا برنامج أذاعته قناة الجزيرة مباشر مصر – شديدة التأثير في الشارع المصري – برنامج يتحدث عن فكرة الإجماع، رغم أنه في حد ذاته كان بداية التدهور الثقافي والمجتمعي الذي نعاني منه حتى الآن، فثورة 25 يناير نجحت عندما خرج معظم المصريين بكل فئاتهم وطوائفهم وعرقهم صحيح من أجل هدف واحد ولكن دون إلغاء تنوعهم وإختلافهم”.
وجدت سعودي منتبها لي، فقلت في سري سوف أجهز عليه ببعض الكلمات الأكثر جدية وتشاؤما من الكلام سالف الذكر، فقلت له:”المؤسف أن الوطن يتجهه بسرعة نحو رفضه فكرة التنوع وسيقسم الوطن مع أو ضد وغير مستبعد على سبيل المثال أن يتم التشويش على صورة الرئيس المخلوع في أفلام ماقبل 25 يناير تماما كما اختفت صور الملك فاروق من أفلام مابعد يوليو 1952 المباركة ولا علاقة هنا بينها وبين “مبارك” مجرد تشابه أسماء.
ومنذ الإستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية عادت ريما مرة أخرى بعد فاصل قصير إلى اللعب بكارت الدين، بهدف المزيد من السيطرة والتغييب للأغلبية العامة من الشعب شديدة البساطة، وقيل لهم أن اللون الاخضر الخاص بكلمة نعم دليل دخول الجنة واللون الاسود الخاص بلا دليل دخول النار، رغم أنه يجوز أن نقول إن الأخضر، طبقا للثقافة المصرية يشير إلى أن الثمرة نيئة، وربما كان الأفضل وضع الإستفتاء في “الرضة” حتى يكتمل النضوج.

وبعيدا عن موضوع “الرضه” وعدم النضوج خرج عقب الإستفتاء من يصرخ فرحا بالإنتصار الساحق الماحق في غزوة الصناديق، مطالبا من قالوا “لا” بترك مصر والهجرة لكندا وأمريكا وبلاد تركب التوك توك، وعزوة الصناديق المباركة استمرارلعصور طويلة عانت فيها مصر من أزهى عصور الديمقراطية، اخترل فيه مفهوم حكم الشعب للشعب في صندوق انتخابي زجاجي كان أو خشبي تزور فيه النتائج أو تشترى بمبلغ مالي و أحيانا بكيس أرز او سكر أو شنطة رمضان على أحسن الفروض.
و أزهى عصور الديمقراطية كما كان يحلو لصفوت الشريف رجل النظام السابق القوي ان يقول لم يكن إلا عصرا بيعت فيه النسخة “المضروبة” من الديمقراطية، النسخة التي لاتصلح إلا للعب لبعض ال GAMES”
وأدرك المثقفون خطورة الموقف وأن ديمقراطية الصندوق ستقود الوطن بعد 25 يناير إلى مصير مجهول فطالبوا بالديمقراطية الليبرالية التي تضمن على الاقل قبول الاختلاف مع الآخر وضمان حقوقه، فخرج صوت يؤكد أن الليبرالية حرام شرعا؛ لأنها تعني أن “أمك تسير بدون حجاب”
تكرار غير عادي لما حدث في عشرينيات القرن الماضي عندما نادي أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد بالديمقراطية، وقتها نجحت ريما باللعبة القديمة الحديثة، معتمدة على جهل المتلقي، مشيعة أن الديمقراطية ضد الدين وأنها تسمح للنساء بالزواج بأكثر من رجل، وسخر الشارع حينها قائلا: “ديمقراطي … يعني مراتك تبقى مراتي”.
وبين ديمقراطية أستاذ الجيل ولبيرالية مابعد 25 يناير أصر المثقفون على الانفصال عن المجتمع في برجهم العاجي ربما لأن تعبيراتهم ليست” شعبوية” ولا تلعب مثل “ريما” على العاطفة والدين ولا تمنح هبات وعطايا فضلا عن أن كلام المثقفين رغم أنه يحمل حلولا إلا أنه يصل للشارع على نهج “جنجل بوند” حرامي الغسيل في فيلم 30 يوم في السجن وهو الدور الذي أداه بمنتهى البراعة الراحل “محمد رضا” وكان ينطق نصف الكلمة، فتصبح كلمة ديمقراطية طبقا للمدرسة ” الجنجلاوية” ديمو ” تماما كما قال معمر القذافي: “ديمو….كراسي” أي ديمومة الكرسي للحاكم، وكذا كلمة لبيرالية ستختصر إلى “لب” فالموضوع لايعدو أكثر من مجرد تسالي، وعلمانية، نصفها المنطوق “عالمة” أي راقصة والعياذ بالله.

وكما لعبت حكومات العصر البائد على احتياج الأمان وخلق العدو ظلت حكومة ما بعد 25 ينايرعلى نفس النهج، نتحدث عن المؤمرات الخارجية واننا نحتاج للأمان وظهرت قضايا الجاسوسية ومن يصور المجرى الملاحي لقناة السويس وكأن القناة تمر في انفاق سرية، وزاد تحويل المدنين للمحاكم العسكرية.
قد يكون الأمر كما قدمته سوداويا لكنه ليس أكثر من تشخيص – من وجهة نظري- للداء حتى نصل للدواء.
وهنا لاحظت علامات الضيق الشديد على صديقي سعودي، فقلت له ملخص ما أريد قوله:” أحلم كباقي المصريين بوطن حر وحرية تامة في التعبير وبديمقراطية لبيرالية وتداول للسلطة، لكن تظهر تباعا معوقات تنسب فورا لفلول النظام السابق، رغم أننا مازلنا شعب سابق لم تتغير بعض قناعاته، قد يستغنى عن كل احلام التقدم والرقي وقبول الآخر بكل تنوعه الثقافي والمجتمعي من أجل شائعة” فتنة بنطلون
زياد”.
15-7-2011