تكسب السينما كثيرا عندما تتعاون مع الأدب.. فالأفلام التي تقدم عن نصوص أدبية تصبح إبداعا, مما يتيح نوعا من التراكم الفني الذي يستفيد منه المتلقي. وفيلم عصافير النيل المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب المبدع إبراهيم أصلان خير دليل علي الثمرة الناجمة من تلقيح السينما بالأدب.
يدور الفيلم فى عالم المهمشين من خلال أضواء خافتة زرقاء سيطرت علي أغلب المشاهد وعبرت عن ظلال بشرية تسكن في منطقة فضل الله عثمان وذلك باستعراض أسرة السيد البهي محمود الجندي في واحد من أروع أدواره, وزوجته نرجس المتألقة دلال عبدالعزيز, هذه الأسرة البسيطة التي يعمل عائلها في مصلحة البريد وينجح في إيجاد فرصة عمل لشقيق زوجته عبدالرحيم فتحي عبدالوهاب -بالمصلحة- فيهجر الريف ويأتي ليقيم مع أخته حاملا الطبائع الريفية البسيطة والتي تصل إلي حد السذاجة بتلقائية مدهشة.
عبدالرحيم يذهب ليصطاد السمك من النيل بسنارة طويلة جدا فيتعلق بها عصفور!! في مشهد رمزي يعبر عن اصطياد الوهم أو ضياع الوسيلة وغياب الهدف.
وكعادة القاهرة منذ أن عبر عنها يوسف إدريس في روايته النداهة التي تأخذ بألباب الريفي, ينحدر عبدالرحيم إلي عالمها, وتجذبه بسيمة الموضة عبير صبري, ويقيم علاقة معها إلي أن تهجره لعدم قدرته علي الزواج منها بسبب كلام الناس عن سيرتها. وتتعدد علاقاته إلي أن تؤدي إحدي العلاقات إلي فصله من عمله. ويصطدم بواقع عودته إلي الريف.. ولكن بعد محاولات عديدة يقوم بها السيد البهي يعود إلي عمله بعد انقطاع لسنوات.. ويمر بتجربة خطوبة فاشلة ثم يتزوج زواجا تقليديا من فتاة ريفية. أحداث الفيلم تتداعي من خلال فلاش باك متقطع بعد لقاء عبدالرحيم وبسيمة في مستشفي حكومي وقد أصابها السرطان وسقط شعر رأسها الأسود الجميل, أما هو فيعاني من أمراض كثيرة بالكلي. ويحاولان وهما في هذه السن المتأخرة إتمام الزواج.. ويصمم عبدالرحيم علي أن يشتري لبسيمة باروكة بديلا عن شعرها في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها رومانسية وحزنا ودموعا وفرحا في وقت واحد. أما أقوي مشهد ساخر بالفيلم عبر عن قسوة الفقر ومرارته.. فعندما يأكل عبدالرحيم بنهم شديد نصف تفاحة ملوثة بالجاز.. الأمر الذي يستوقف أخته نرجس التي شاركته في النصف الآخر من التفاحة ولكنها تنفر منها من أول قطمة. وعندما تسأل عن كيفية أكلها بالجاز يقول بتلقائية هذه أول مرة آكل تفاحا في حياتي وظننت أن طعمه كده!.
الكثير من الحكايات تتشابك مع الخيط الدرامي لعبدالرحيم.. فالسيد البهي يخرج علي المعاش ويعاني من ظلم في صرف معاشه فيدمن كتابة الشكاوي إلي كل المسئولين وبلا فائدة.. وابنه الشاب ينضم إلي المظاهرات المعارضة للحكومة ويتعرض للاعتقال أكثر من مرة. وإن كان هذا الخيط الدرامي باهتا في الفيلم لتقديمه بضبابية شديدة لا تكشف عن هذه المعارضة وأساليبها وأهدافها ووسائلها.. الأمر الذي يعود بالأذهان إلي العصفور الذي علق بسنارة عبدالرحيم في بداية الأحداث بدون قصد. فهؤلاء الشباب هم بالفعل عصافير النيل الذين يعانون الفقر والعوز والبطالة ويعلقون في أي سنارة أو أي وهم لأن واقعهم المؤلم يجعلهم عاجزين عن الطيران والتحليق في أجواء المستقبل.
دلالات الفيلم عديدة والقراءة العميقة له تحتاج إلي صفحات, وإن كان يؤخذ عليه كثرة استخدام المشاهد الجنسية باعتبارها الحرية الوحيدة المتاحة.
ويبقي أن نقدم تحية للمخرج الرائع مجدي أحمد علي علي هذا العمل الثري.
e-m:[email protected]