شارع محمد علي من أشهر وأهم شوارع القاهرة علي مر العصور فهو تاريخ طويل له قصص متعددة سجل الكثير منها في الأدب المصري.
الشارع غير مخطط هندسيا وبرغم شهرته لم يعلن رسميا كأثر لكنه لدي المؤرخين يمثل موسوعة عملاقة من الأحداث فهو شارع للموسيقي وللمقاهي الثقافية وتاريخ الأفلام السينمائية الغنائية ومسقط رأس الكثير من الفنانين وبالرغم من مرور الزمان عليه إلا أنه لم يفقد شهرته لكنه أخذ يزداد زحاما بالشكل الذي يهدد ما بقي من تاريخه.
شارع عريق.. ولكن؟!!
قال تمرات حافظ مدير عام إدارة التسجيل الإسلامي بقطاع الآثار الإسلامية والقبطية بالمجلس الأعلي للآثار: إن شارع محمد علي غير مسجل أثرا ضمن المجلس الأعلي للآثار ولكن ذلك لا يمنع كونه تاريخ عريق ومشوار طويل للموسيقي المصرية تناولته العديد من الأفلام السينمائية كمركز مهم للفنانين فهو شارع الفن وصناعة العود والطبلة حتي الآن.
اتفق معه الدكتور محمد الكحلاوي أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة وأمين عام اتحاد الأثريين العرب وقال: شارع محمد علي له مكانة خاصة وطابع خاص لدي المصريين فهو شارع الفن الأصيل ومسقط رأس كل فنان مصري أو موسيقي ولكن مع الأسف لم يبق الآن من هذا التاريخ الحافل إلا بعض المحلات التي تبيع الآلات الموسيقية المصنعة بطريقة يدوية. كما أن الشارع أصبح مليئ بالسيارات والمشاة نظرا لضيقه. لذا أطالب المسئولين والأثريين بالحفاظ عليه من الإندثار والعمل علي تطويره مثلما حدث في حي الأزهر وباب الفتوح ومنطقة باب النصر وأماكن أخري لإزالة ما يشوه ماضيه التاريخي بجانب ضمه كأثر وتسجيله بالمجلس الأعلي للآثار.
تاريخ
قال الدكتور عبدالسميع حسن أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة: ترجع فكرة إنشاء شارع محمد علي إلي محمد علي باشا عام 1846 وتم تنفيذه وافتتاحه عام 1972 في عهد الخديوي إسماعيل حيث هدم 400 دار كبيرة و300 دار صغيرة فضلا عن الحمامات والقصور والمساجد والمقابر ويبلغ طوله نحو الميلين ويبدأ من ميدان العتبة الخضراء وينتهي عند جامع ومدرسة السلطان حسن بالمنشية وكان بأوله المقابر المعروفة بترب الأزبكية والمناصرة وهو يمر بعدة أحياء للمدينة القديمة منها العتبة وباب الخلق والمماليك…. إلخ. وأقيمت واجهات المنازل التي تشرف عليه فوق بوائك تظلل المارة وتقيهم حرارة الشمس والمياه والأمطار ومازالت بعضها باقية إلي الآن.
والشارع مملوء بالذكريات وحافل بها فقد كان به دار المؤيد بالقرب من ميدان أحمد ماهر التي أسسها الشيخ علي يوسف وجلب لها أحدث المعدات وآلات الطباعة وذلك في مستهل القرن العشرين وكان علي بابها لوحة رخامية كتب عليها دار المؤيد 1321هـ وهدمت عام 1965 كما ترجع شهرة الشارع إلي أنه كان ومازال مقر للفنانين والراقصات ومتعاقدي الأفراح والحفلات بالإضافة إلي أن شهرة الشارع بدأت في ألمانيا حينما قررت إحدي الفرق الألمانية لعروض السيرك زيارة القاهرة فعرضت أعمالها وألعابها في أحياء القاهرة المختلفة ومن بينهما شارع محمد علي حيث انضم لذلك السيرك 3 شبان مصريين من بينهم إسماعيل عاكف جد الفنانة نعيمة عاكف.
زمان يا فن!
قال جورج جميل 85 سنة صاحب محلات جميل جورج لصناعة الآلات الخشبية الموسيقية: تاريخ المحل يعود إلي عام 1906 حينما نزح أبي إلي القاهرة قادما من سوريا من مدينة حلب تحديدا حيث تعلم أصول الصناعة منذ صغره هناك ليبدأ فتح محله الأول في القلعة إلي أن استقر هنا منذ 1906 بشارع محمد علي لشهرته بالآلات الموسيقية والمطربين فالشارع كله به محلات كثيرة جدا للآلات النحاسية الخاص بالأفراح البلدي في المناطق الشعبية, كما أن محل أبي كان لا يعمل في العود فقط وإنما كان يعمل في صناعة الكمان والقانون وتصليحهما بجانب جميع الآلات الأخري. كما أن أم كلثوم عام 1926 أتت إلي هنا مع أبويها ليصنع أبي لها عود حريمي علي مقاس يديها الصغيرتين وأيضا ملوك العود فريد الأطرش والسنباطي وغيرهم كانوا يأتون هنا ويصنع أبي العود والكمان والقانون لهم فأبي شيخ الصناعة للآلات الخشبية ولكن مع الأسف اقتصرت أعمالنا الآن علي صناعة العود فقط فالحال لم يعد هو الحال فمع ظهور الراديو والتليفزيون والدش ماتت الآلات الخشبية والنحاسية وحلت محلهم مع التقدم الأورج الكهربائي وصولا إلي الـ D.J المستورد من الخارج ولا يتردد علينا الآن إلا بعض العازفين من فرقة الموسيقي العربية أو طلبة كلية الموسيقي لشراء العود خاصة بعد رحيل الفنانين وهجرة أصحاب بعض المحلات أو موتهم أو بهدف الربح فتم تأجير العديد من المحال لتتحول إما لمكتبات أو سوق لبيع التليفون المحمول مما أصبح معه الزحام أكثر وانعدم الهدوء.
دوام الحال من المحال!
أوضح حسين محمد مدير شركة لتجارة الأقمشة بالشارع أن الشارع في السابق قبل 50 عاما كان يسير به ترام يبدأ من منطقة القلعة ويمر علي العتبة لينتهي به المطاف في شبرا. ومن أهم مشكلات الشارع الآن الزحام الشديد وزحف سوق الموبايلات والأجهزة الكهربائية بشارع عبدالعزيز وأرض شريف مما أدي إلي تكدس مروري بجانب سوق الموبليات بالمناصرة وسوق خضار العتبة الذي كان في السابق جنينة عند تصميم الشارع وإنشائه. وقال: بعد بناء دار الكتب تم تنظيم الشارع من المحافظة علي قدر المستطاع وفرضت علينا دهانات المحلات علي حسابنا الشخصي بالرغم من أنه شارع أثري يجب أن تتحمل هي نفقاته.
أضاف محمد: أن الشارع انقلب حاله فمحلات الموبايل أصبحت مكان الأفران والمقاهي مثلما حدث في الفرن الأفرنجي بشارع العطار ومقهي حلوتهم وكانت قهوة التجارة وقهوة حلوتهم مكان لكثير من الفنانين كشفيق جلال وعدوية وكارم محمود, كما أن فرقة حسب الله النحاسية كانت موجودة هنا وإلي الآن يوجد بعض الفنانين الذين يسمون بالصف الثالث لإحياء الأفراح أو العمل ككمبارس في المسلسلات التاريخية أو الأفلام.
أشار سعيد علي 80 عاما صاحب محل لصناعة الطبول إلي أنه شيخ صناعة الطبول منذ القدم وكان الفنانون يأتون إليه خصيصا من كل مكان لكي يصنع لهم طبلة من جلد الماعز أو جلد الأرانب علي حسب النقود المتوفرة معهم ويستغرق صناعة الطبلة الواحدة 3 أشهر إلا أن الصناعة تدهورت بعد استيراد الطبول الصناعية من الصين بالإضافة إلي ارتفاع ثمن الخامات في جميع الآلات سواء النحاسية أو الخشبية أو الإيقاعية لذا انقرضت تلك المهن.
أختام وأكليشيهات للبيع
قال عبدالرحمن طلبة صاحب محل للأختام والأكليشيهات النحاسية: إن هذه الصناعات وراثة في عائلته منذ الصغر وأن هناك إقبال كبير من الناس علي الأختام والأكليشيهات أما اللافتات النحاسية فللأسف أصبحت موضة قديمة فلا يستخدمها إلا الأطباء والمحامين خاصة في الأرياف أو الصعيد لأن اللافتة الخشبية أصبحت أرخص بكثير من اللافتة النحاسية.
بجانب أن الشارع الآن أصبح مملوء بالوافدين من المحافظات الأخري للعمل به كباعة جائلين لكل شئ وزي شئ لذا فالشارع يحتاج إلي نقطة نظام عاجلة بسبب امتلاء الأرصفة بالباعة وتجارتهم المخالفة.
حكاية اسمها حسب الله
أشارت المخرجة نبيهة لطفي إلي أن حكاية شارع محمد علي الموسيقية والفنية بدأت في القرن الـ 20 حينما جاء إلي القاهرة سيرك ألماني ليعرض أعماله وألعابه في الأحياء المصرية المختلفة وانضم إلي السيرك 3 شباب منهم إسماعيل عاكف ليعمل معه ويطوف أوربا لمدة 3 شهور ليعود محمل بكل الأفكار الغربية من ملاهي وعمل سيرك لينفصل عنه بعد ذلك لتكوين فرقة موسيقية بفضل خبرة إسماعيل في أوربا بجانب حسب الله جاويش الذي كان يعمل في فرقة سواري الخديوي عباس وهي أول فرقة كان لها زي موحد بعد سواري القصر الملكي ومع الوقت أصبحت أكثر تنوعا بين الأوساط الشعبية متخذة موسيقي القرب نوعا لها ولكن تلك الأحوال تبدلت الآن فتحولت محلات الموسيقي من الصنع إلي البيع فقط ودخلت الآلات الحديثة والأوربية المستوردة ولم يتبق إلا محلات قليلة جدا وكان من أشهر خريجي شارع محمد علي في الطرب الشعبي الفنان أحمد عدوية, كما لا ننسي نعيمة عاكف ولوسي وصابرين ممن مثل الشارع لهم نقطة انطلاق نحو العمل السينمائي ثم التليفزيوني.
أضافت نبيهة كما لا ننسي أكثر الظواهر انتشارا بشارع محمد علي وهي المقاهي الثقافية التنويرية في ذلك الوقت حيث كان لها دورا مهما في إثراء الحياة الثقافية حيث لعبت دورا أثناء الثورة العرابية حينما كان الناس يلتفون حول عبدالله النديم ثم محمد عبده وجمال الأفغاني ومن أشهر تلك المقاهي مقهي متايتا وأنديانا والسنترا والقزاز والمضحكانة الذي كان يشترط لدخوله وضع رسالة في التنكيت والقفشة ومن أبرز روادها الشيخ حسن الآلاتي الذي لقب بنفس لقب المقهي نظرا لنوادره الضاحكة ولكن مع الأسف تحول المقهي إلي مقهي عادي كغيره. بالإضافة إلي أقدم مقهي بالقاهرة وهو مقهي التجارة الذي نشأ علي يد رجل عجوز يوناني ثم تركه أثناء الحرب ليعود لليونان لرجل اسمه علي السيد أحد العاملين لديه والذي طوره علي مدار الأعوام ليصبح من أهم المقاهي ومن أبرز رواده الكاتب المسرحي سعدالدين وهبة وأحمد رامي وحافظ إبراهيم بجانب قهوة عرابي المقر الأساسي للراحل نجيب محفوظ. كما كانت للفنانات أيضا مقهي يسمي بقهوة الفن وكانت تجلس فيها زينات صدقي ودولت أبيض وأمينة رزق وعزيزة عيد وفاطمة رشدي وبما أن دوام الحال من المحال, ولي العصر الذهبي وأصبح كل شئ في الشارع كان يا مكان فالمقاهي أصبحت مجرد مقاهي للباعة الجائلين وأصحاب الحرف لا يرتادها إلا عدد قليل من المثقفين والكتاب ومحلات الموسيقي تعد علي أصابع اليد الواحدة والزحام أصبح سمة أساسية للشارع بعدما هجره الفنانون ليصبح سوق للخضار والفاكهة وللتليفونات المحمولة ومع الوقت سيختفي عبق التاريخ ويضيع تاريخ الشارع العريق.