أسقف عام
الإنسان الأول آدم هو وحده الذي خلق من تراب الأرض,ثم نفخ الله فيه من عنده روحا حية عاقلة حرة مريدة.جاء في سفر التكوينوجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض,ونفخ في أنفه نسمة حياة ,فصار آدم نفسا حية التكوين2:7, 3:19,أيوب33:6, مزمور102:14, الجامعة12:7, .1كورنثوس15:47.
أما الإنسان الثاني وهو حواء فلم يخلق من تراب الأرض,ولكنه خلق من ضلع من أضلاع آدم,سلت منه وهو في سبات النوم,وبني الله من هذه الضلع امرأة وأتي بها إلي آدمالتكوين2:22,21ألم يكن الله قادرا علي أن يخلق حواء من تراب الأرض كما خلق آدم؟
نعم كان ذلك ممكنا,ولكنه لم يفعل,فلماذا؟
هب أن حواء أيضا خلقت من تراب الأرض,مثلها مثل آدم..أما كان آدم يري في هذا المخلوق الجديد منافسا له في الوجود,ينازعه سيادته علي الخليقة؟أما كان ينفر منه أو يخشاه أو يتوجس منه خيفة أو علي الأقل يتوقع منه الإيذاء أو الضرر أو تعارض المصالح؟!
أما أن الله خلق حواء من آدم ,فقد جعلها قطعة من كيانه وجزءا من لحمه ودمه فكان من الطبيعي أن يحبها ويحنو عليها ويأنس إليها ويرعاها ,لأنها منه ومن جسده فإنه لم يبغض أحد جسده قط,بل يغذيه ويربيهأفسس5:29وهو ما جعل آدم يفرح بحواء ويرحب بها ويهتف في سرور ورضي واعتزازها هذه الآن عظم من عظامي ,ولحم من لحمي.هذه تدعي أمرأة لإنها من امريء أخذتالتكوين2:23وعندما يكون إنسان من عظم ولحم الآخر تكون بينهما رابطة طبيعية وثيقة تجمع ولا تفرق ,تبني ولاتهدم,تلحم ولاتمزقالتكوين 29:14,القضاة9:2.2صموئيل5:19,1:13,12,4,1.وقد أدرك آدم حكمة الله العالية وأنشد بروح النبوءة عن مستقبل البشرية لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويرتبط بزوجته فيصير الاثنان جسدا واحدا التكوين2:24, أفسس5:31.. وقد ردد المسيح له المجد هذا التعبير توكيدا له وأضاف تعليمه السامي عن الرابطة الزوجية ووحدانية الزيجة,وعدم انحلالها فيصير الاثنان جسدا واحدا,فلا يكونان بعد اثنين إذن وإنما جسدا واحدا ومن ثم فما جمعه الله لاينبغي أن يفرقه الإنسانمتي19:6,5,مرقس10:7-9.
ومن بعد حواء جاء قايين وهابيل ثم شيث,وأخوات لهم,وكلهم ذكورا وإناثا لم يخلقوا من تراب الأرض كما خلق أبوهم آدم ولكنهم ولدوا من حواء وآدم بالتزاوج ,وهكذا بالزواج توالد جميع أولاد آدم وتزايدوا وتكاثروا حتي بلغوا العشرات فالمئات فالألوف فالملايين..
والمعني أن واحدا فقط وهو آدم الإنسان الأول هو الذي خلق من تراب الأرض أما ماعدا آدم فقد خلقوا جميعا من آدم وهنا حكمة الخالق في أن يجعل الإنسانية كلها من واحد ,أرومة واحدة وأصل واحد,وبهذا تصير البشرية كلها شجرة واحدة لها أصل واحدفقد خلق البشر جميعا من أصل واحد وأسكنهم علي وجه الأرض كلها أعمال الرسل 17:26, يوحنا1:13 ومن هنا كان الأبناء شركاء في اللحم والدم العبرانيين2:14 جميعهم يربط بينهم دم واحد يسري في عروقهم هو دم الأب الأول آدم,فلما تلوث دم آدم بالخطيئة انتقل الدم الملوث إلي كل جنس آدم وذريته,والخطيئة دخلت في العالم بإنسان واحد,وبالخطيئة دخل الموت فكذلك سري الموت إلي جميع الناس بالذي جميعهم أخطأوا فيهرومية5:12ففي آدم مات جميع الناس 1كورنثوس 15:22لأن الجميع سري إليهم بقانون الزواج والوراثة,الدم الملوث بوصمة الخطيئة,وهذا هو ما يعرف بانتقال الخطيئة الأصلية,خطيئة آدم,وسريانها إلي كل ذرية آدم لأن كل الذرية من دم واحد.
إن حكمة الخالق في أنه من دم واحد خلق الجميع هو هذا الترابط والتلاحم بين جميع البشر بني آدم.
وبهذا يكون الله لم يخلق الإنسان الأول آدم إنما هو الخالق للمجتمع أيضا ومن هنا فإن الكيان الإجتماعي هو من خلق الله,ومن تدبير حكمته ,وبالتالي فإن الله هو الخالق أيضا لنظام الأسرة بمعنييها المحدود والواسع. فالأسرة بمعناها المحدود هي العائلة المكونة من الأب والأم والأولاد,وأما الأسرة بمعناها الواسع فهي العائلة البشرية في نطاقها الشامل لكل الجنس البشري.وإذن فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته التي خلقه الله عليها ,وهو إذن كائن اجتماعي منذ بدء الخليقة أي أن كيانه الاجتماعي ليس دخيلا عليه ولا هو ظاهرة حادثة برزت معه في تاريخ متأخر ,وإنما كيانه الإجتماعي مخلوق به ومعه منذ بدء وجوده.
فمنذ توالد الأبوان الأولان صارت لهما بالتوالد محبة طبيعية لأولادهما,لأنهم من لحمهما ودمهما وجزء من كيانهما ولذلك لم يكن آدم وحواء أو أي والدين من ذريتهما في حاجة إلي وصية بمحبة أولادهما,إذ المحبة فيهما لأولادهما مغروزة فيهما بالطبيعة,وإلي اليوم لايحتاج أي أب أو أم إلي وصية في المحبة الوالدية, ولذلك لن تجد في كل الكتاب المقدس وصية من الله للأب والأم بمحبة الأولاد, علي عكس ذلك لقد اتخذها الله قياسا ووسيلة إيضاح عن محبته للبشر كخالق وأب فقال:كما يترأف الأب علي البنين يترأف الرب علي خائفيهمزمور102:13وأشفق عليهم كما يشفق الإنسان علي ابنه ملاخي 3:17 وقال هل تنسي المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها إشعياء 49:15 وقال المسيح له المجدفأي إنسان منكم إذا سأله إبنه خبزا يعطيه حجرا,أو إذا سأله سمكة يعطيه أفعي ؟فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون كيف تعطون أبناءكم عطايا حسنة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يعطي خيرات للذين يسألونهمتي7:11.
وهكذا الأولاد,بسبب الدم واللحم تصير رابطتهم بوالديهم وثيقة قوية ولذلك كان فخر البنين آباؤهمالأمثال 17:6وكان انتماء الأولاد لأبائهم,وإهتمامهم بهم, ورعايتهم لهم في المرض أو الشيخوخة أو العجز. وإذا شذ ولد عن القاعدة فلم يرع أباه أو أمه في شيخوختهما أو مرضهما أو عجزهما وقع عليه اللوم أضعاف أضعاف مايقع عليه من اللوم لو أنه لم يرع إنسانا آخر من غير والديه ,ولذلك جاءت الوصية الأولي علي اللوح الثاني من لوحي الوصايا العشرأكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك علي الأرض التي يعطيك الرب إلهك الخروج20:12, 21:17, اللاويين19:3, 20:9, التثنية5:16, 27: 16, الأمثال20:20, 23:22, 30:17, متي15:4, مرقس7:10, لوقا18: 20, أفسس6:1-3, كولوسي3:20,وقال الرسول بولس أيضا وإذا كانت أرملة لها بنون أو حفدة فليتعلموا أولا أن يعاملوا أهل بيتهم بالتقوي وأن يفوا ما عليهم لوالديهم,لأن ذلك صالح ومقبول أمام الله..وإذا كان أحد لايعتني بذويه,ولا سيما بأهل بيته ,فقد أنكر الإيمان وهو شر من غير المؤمن.1 تيموثيئوس5:4-8.
علي أنه يبدو واضحا عمق حكمة الخالق في أنه خلق من دم واحد جميع الناس فإلي جانب المحبة الطبيعية التي لابد أن تتولد بسبب رابطة الدم واللحم,فهناك أيضا المسئولية والرعاية ,فلاشك أن آدم-وقد تبين أن حواء لحم من لحمه وعظم من عظامه ليس يحبها وينجذب إليها فقط,باعتبارها منه,لكنه فضلا عن ذلك يشعر بمسئوليته عنها,وأنه قد صار مطالبا برعايته لها واهتمامه بها.
كذلك الرابطة الطبيعية بين الوالدين وأولادهما – وأعني بها ابطة اللحم والدم – هي التي تملي علي الوالدين رعاية أطفالهما والعناية بأولادهما وتحمل متاعب تربيتهم والإنفاق عليهم والكد من أجلهم حتي يصبحوا قادرين علي أن يكتسبوا ويقوموا بأود حياتهم. ولولا هذه الرابطة الطبيعية ما كان الأطفال يجدون من يرعاهم,ويتحمل مسئولية إعالتهم وتربيتهم إلي أن يشبوا كبارا.
وإستنادا إلي هذه الرابطة اللحمية رابطة حذر الله تعالي الوالدين من نتائج خطيئاتهم التي يرثها ويحصدها أولادهم من بعدهم تبعا ووفقا لقانون الوراثة فقال في الوصية الثانية من الوصايا العشر:أنا الرب إلهك إله غيور,أفتقد ذنوب الآباء في البنين إلي الجيل الثالث والرابع من مبغضيالخروج20:345:17,العدد14:18,أيوب21:19,إرميا32:18. ولما كان الإنسان ذلك الكائن الاجتماعي, بطبيعة الخلق,ومنذ بدء الوجود ,فإنه لا يمكن أن يعيش الإنسان سعيدا من غير أن يكون في مجتمع. وقد قال الفيلسوف اليوناني أرسطو:الإنسان حيوان اجتماعي,ولابد أن يحيا في مجتمع ,ولا يخرج عن هذا المبدأ وهذه القاعدة إلا من كان فوق الطبيعة البشرية أو دونها وهذا هو سر السعادة التي يحسها الإنسان-كل إنسان-بلقائه بالناس وسر ما يعرف بالصداقة بين الناس ,وهي خاصية اجتماعية في كل إنسان لها جاذبيتها خصوصا بين الذين تربطهم ببعضهم روابط روحية وفكرية.
فإذا وجد بين الناس من ينفر من الناس أو يهرب من معاشرتهم ,فهذه ظاهرة مرضية غير سوية,ولابد أن يكون لهذا الشذوذ أسبابه وفي أغلب الأحيان قد يرجع هذا الشذوذ إلي فشل في العلاقات الاجتماعية نتيجة موقف أو حدث خاص وقد يعزي نفور شخص من تواجده في مجتمع ما,إلي أنه قد تبين أنه ليس بينه وبين هذه الجماعة بالذات أسباب تجمعه بهم أو تشده إليهم,فيهرب من معاشرتهم ولكن قد يستريح وينجذب إلي صداقة غيرهم ممن تجمعهم به رابطة ما في ميل أو مزاج أو مصلحة.
علي كل حال, فالميل الإجتماعي طبيعي في كل إنسان إذا لم يكن في حياته سبب أو آخر للشذوذ عن هذه القاعدة العامة المغروزة في طبيعة الإنسان.
وحتي الرهبان أو العلماء ممن يخرجون علي قاعدة الاجتماع بالناس لينقطعوا لعبادتهم وتأملاتهم أو بحوثهم العلمية,فأنهم هم أيضا يحنون إلي الاجتماع بأناس علي شكالتهم وممن تجمعهم بهم صفات تربط بينهم.لذلك فإن أكثر الرهبان يعيشون معا في مجتمعهم الخاص في الأديرة,ويحيون معا حياة الشركة,فيصلون معا في أوقات مرسومة يجتمعون فيها في مكان واحد,ويتلون صلوات مشتركة ولهم أوقات يجتمعون فيها للعمل المشترك في خبز الخبز,أو في بناء دير أو صومعة.ولهم أيضا أوقاتهم المحددة لتناول بعض الوجبات معا هذا فضلا عن أعمال التصنيع المختلفة التي يقومون بها معا وفي نظام الشركة الباخومي لايسمح للمبتدئين في حياة الرهبنة إن يقيم الواحد منهم في صومعة منفردة وإنما يفرض عليهم نظام الشركة أن يقيم ثلاثة منهم معا في الصومعة الواحدة,وذلك لكي يصلوا معا,ويتسامروا معا تلك المسامرات الروحية البانية لأرواحهم فتنشأ بينهم بطبيعة الحال صداقة خاصة ومحبة خاصة متميزة عن صداقتهم العامة لجميع رهبان الدير.
وحتي المتوحدون من بين الرهبان ومن يعرفون بالسواح… هؤلاء أيضا لهم أوقات يجتمعون فيها معا وإن كانت قليلة وفي نفس الوقت لايصل إلي هذه المرحلة من التوحد المطلق إلا من سما عن مستوي الإنسان الطبيعي ودخل في علاقة خاصة جدا مع الله ومع مجتمع العالم غير المنظور.
كذلك العلماء والفنانون ممن يهربون عادة من ضجيج الحياة ويعكف الواحد منهم في معمله أو مرسمه منقطعا لعمله الذي يقتضيه البعد عن الناس يحن مع ذلك إلي لقائه بالعلماء والفنانين من نظرائه من وقت إلي آخر ويشعر بسعادة وسرور كلما جمعته لحظات بمن تربطهم به رابطة روحية أو فكرية وهذا وحده دليل علي أن حب الاجتماع من طبيعة الإنسان ,كل إنسان وإن اختلف في طريقته وشكله ودرجته.