نظرة متأنية لمعظم ما يكتب ويقال ويذاع (سياسيا وإعلاميا وثقافيا) في واقعنا تدل علي أن كثيرين من مثقفينا والمنشغلين بالشأن العام في واقعنا تنطبق عليهم الأوصاف التالية :
* رغم كونهم مصريين , إلا أنهم يهتمون بشئون دولية وإقليمية أكثر وأكبر من اهتمامهم بنحو ثلاثين مليون مصري يعيشون تحت الحد الأدني لإطار أية حياة كريمة … بل يعيشون في ظروف حياتية يصعب علي الكثيرين تصورها . ولا شك أن هذا الأمر غريب إلي أقصي حدود الغرابة ; إذ كان من اللازم أن يشكل هذا التحدي (والذي قد يعرض أمن مصر القومي بأسرها لخطر داهم) جل إهتمام المثقفين المصريين بما لا يترك أكثر من ربع اهتماماتهم لسائر الأمور الأخري الدولية والإقليمية , بل والمحلية .
* رغم كونهم مصريين , إلا أنهم يهتمون بشئون دولية وإقليمية أكثر وأكبر من اهتمامهم بالمستوي المتهافت والمتدني لمؤسسات بلدهم التعليمية والتي سيحدد ما تقوم به هذه المؤسسات شكل ونوع واتجاه ومستوي ومستقبل أقل من عشرين مليون مصري تضمهم (اليوم) المؤسسات التعليمية في مصر . ولا شك أن هذا الأمر أيضا غريب إلي أقصي حدود الغرابة .
* رغم كونهم مصريين , إلا أنهم معنيون بشئون دولية وإقليمية أكثر وأكبر من اهتمامهم (شبه المعدوم) بالمستوي المتدني (بالغ الخطورة) لغير قليل من مكونات المؤسسات الدينية التي تعمل (في غير قليل من الحالات) ضد توجهات العصر والتقدم والمجتمع المدني . ولا شك أن هذا الأمر أيضا بالغ الغرابة , فقد وصلت بعض شخصيات المؤسسات الدينية في واقعنا لحال من البعد عن العلم والمنطق والصواب والتقدم ما يمثل ضربات هدم بالغة الأضرار بعقول أبناء وبنات مصر الذين نريدهم في ”اتصال” مع العصر لا في ”إنفصام مرضي” معه .
معني ذلك عندي , أن العقود الأخيرة قد شهدت إعادة صياغة وجدان عدد غير قليل من المصريين , بحيث أصبحت الأولويات عندهم (في معظمها) غير محلية , أي غير مصرية .
ويذكرني هذا الحديث بما سمعته أكثر من مرة من شخصيات سياسية كبري في الولايات المتحدة الأمريكية , إذ سمعتهم يتحدثون عن ظاهرة اهتمام الكثير من المصريين الذين يتعاملون معهم بشئون معظمها دولي وإقليمي وأقلها مصري ! … وأنا أزعم أنني أعرف العقل الأنجلوسكسوني , وأعرف كيف تذهله هذه الظاهرة (وأعني بالعقل السكسوني العقل البريطاني والأمريكي والأسترالي المتسم أولا وأخيرا بالبرجماتية) .
وقد زاد من كثافة هذه الظاهرة , أن تيارين فكريين (وسياسيين) مؤهلان للتماهي مع هذه الظاهرة . فتيار الإسلام السياسي يشبه التيار الماركسي في جزئية ”الأممية” . بمعني أنه كما كان الشيوعيون يؤمنون بأنهم شركاء ”الاشتراكيين” في كل مكان , فإن الإسلاميين (بل وبشكل أشد كثافة) لا يؤمنون بفكرة ”الدولة المعاصرة” و ”الوطن” و ”الوطنية” . فالبديل عندهم هي فكرة ”الأمة” _ والأمة هنا بالطبع هي ”الأمة الإسلامية” … بينما كاتب تنويري عظيم مثل أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وأبناء مدرسته لا يقصدون بتعبير الأمة غير ”الأمة المصريـة” … ومن غير المصادفة أنه أطلق علي حزبه الذي أسسه سنة 1907 ”حزب الأمة” والذي خرج منه بعد ذلك من صاروا قادة لتيارات أخري (صار بعض رجال حزب الأمة من زعماء حزب الوفد وصار آخرون زعماء للأحرار الدستوريين وصار غيرهم من كبار المستقلين) . وينطبق نفس الشئ علي ”القوميين العرب” , فيكفي أنهم رحبوا بإلغاء اسم مصر في سنة 1958 ورحبوا باستبداله ليحل محل تسمية ”الإقليم الجنوبي” من إقليمي ”الجمهورية العربية المتحدة” . فالأمة عند هؤلاء تعبير يعني ”الأمة العربية”. ونظرا لقوة تأثير التيارين (الإسلام السياسي والقومية العربية) فقد توفرت عوامل قوية دفعت بهذا التغيير في أولويات الوجدان المصري صوب ”الخارج” عوضا عن التركيز (كأولوية أولي) علي ”الداخل” .
أعلم أن البعض سيقول إن هناك علاقة جدلية بين ”أدوار مصر الخارجية” وبين قدرتها علي تجويد الداخل . والرد هو من شقين , الأول : أن هذا مقبول بالنسبة للقادة السياسيين , أما إذا تحول الأمر إلي ظاهرة غريبة يهتم فيها المثقف المصري بحال الطفل الفلسطيني (مثلا) أكثر من اهتمامه بحال الطفل المصري, ويكون مشغولا بهموم خارجية عن مآسيه الداخلية , فإننا نكون أمام وضع بالغ الغرابة . ومن ناحية أخري , فإن المنطق والتاريخ يقولان بأن من كان ضعيفا في الداخل كان بالضرورة ضعيفا في الخارج . لقد انكسر حلم محمد علي وحلم مصر الستينيات لأنهما أرادا لعب أدوارا خارجية قبل الأوان وفي ظل ضعف داخلي بلا حدود .
وضروري أن أوضح أنني لا أدعو لعدم الإهتمام بالعالم الخارجي وشئونه (بما في ذلك شئون منطقة الشرق الأوسط) ولكنني أدعو فقط لإعادة ترتيب الأولويات بحيث نكون مثل سائر مواطني الدول المتقدمة ; إذ تشغل الشئون العامة أكثر بكثير من نصف اهتمامات المواطنين والمثقفين .
ولا شك أن الحل الأمثل لهذه المعضلة التي خلقتها السياسة والإعلام والتعليم في مصر منذ خمسينيات القرن الماضي هي مسئولية تلك الجهات الثلاث : السياسة والإعلام والتعليم . ولكن نظرا لأن مردود التعليم بعيد المدي (أجل طويل) فإن الحري بالقيادات السياسية والإعلامية أن تلعب الدور الأهم علي المستوي الزمني القصير والمتوسط . فنحن لسنا بحاجة لأيديولوجيات بقدر ما نحن بحاجة لحصص أكبر من أدوات صناعة المستقبل . وفي ظني أنه لا توجد علي وجه الأرض أدوات لصنع واقع ومستقبل أفضل إلا ”العلم وتقنيات الإدارة الحديثة” . وأكبر مثال علي عدم جدوي الأيديولوجية في صنع مجتمع أفضل هو ما أحدثته الأيديولوجية الماركسية في العديد من الدول وعلي رأسها الاتحاد السوفييتي السابق التي فشلت فشلا ذريعا في خلق ظروفا حياة كريمة لأبناء وبنات مجتمعاتنا … وآمل ألا يجرب البعض الأيديولوجية الإسلامية _ السياسية حتي يكتشف (كما اكتشفت أوربا الشرقية) أن الأيديولوجيا (سواء ماركسية أو قومية عربية أو إسلامية) غير قادرة علي خلق مجتمع جيد وشروط حياتية طيبة .
ورغم وقوفي في نقطة وسط المسافة ما بين التفاؤل ونقيضه فيما يخص العديد من الأمور كأن يبرأ مجتمعنا (علي المدي الزمني القصير والمتوسط) من علل ثقافية مثل : (1) ذهنية الكلام الكبير (2) ثقافة مدح الذات (3) ذهنية التغني بماض مجيد لم يحدث إلا في الخيال (4) ثقافة الأشخاص لا المؤسسات (5) الشخصانية عوضا عن الموضوعية (6) الشعور بالتميز عن الآخرين بسبب الدين (7) عدم الإيمان العميق بعالمية العلم والمعرفة (8) ضآلة هامش التسامح (9) عدم قبول الآخر بالمعني العميق والتطبيق الواسـع لـه (10) الإقامة في الماضي وضآلة الاهتمام بالمستقبل (11) شيوع ذهنية ومناخ ثقافي عام لا يساوي كلية بين الرجل والمرأة , وعليه فإنه يعطل نصف المجتمع ونكون بصدد مجتمع نصفه ”مجمد” في مقابل نصف آخر ”معقد” (فرجال المناخ الثقافي الذكوري هم ليسوا ببشر أسوياء , وبالتالي فلا ينتظر منهم إقامة واقع فاضل والتأسيس لمستقبل مزدهر) … رغم أنني أقف في نقطة وسط المسافة بين التفاؤل ونقيضه في إمكانية أن يبرأ مجتمعنا من تلك العلل الكبري التي تقزم وتشل فعالياته , فإن حقيقة من حقائق واقعنا المعاش تدفعني للاقتراب من التفاؤل ; حيث أجد بين الشباب من دون الثلاثين من العمر اهتماما كبيرا بالواقع والمستقبل واهتماما أقل بكثير (كما ينبغي) بشئون الآخرين . وأعتقد أن ذلك إنجاز كبير , ولكنه ليس إنجازا لأي عامل محلي بقدر ما هو إنجاز لتكنولوجيا المعلومات والكمبيوتر والإنترنت التي جعلت هذا الجيل يتصل بالعالم اتصالا يسمح له بحسن ترتيب الأولويات.