إنما أعلم شيئا واحدا, إني كنت أعمي والآن أبصر (يو 9 : 25)
كانت الظلمة تحيط بالرجل الأعمي من كل جانب, لقد ولد أعمي, أو في لغة أخري إنه لم يعرف النور يوما واحدا في حياته, والظلمة لم تكن تلف عينيه فقط, بل كانت تلف حياته بأكملها, إذ كان فقيرا يستعطي, لقد كان لا يستطيع الإجابة عن السبب الذي من أجله جاء إلي العالم, وإلي أين يسير, وما مصيره, وعندما جاءه المسيح أنقذه من هذه الظلمات جميعا, إذ منح عينيه النور, وأخرجه من العمي إلي حياة الكفاح والنضال , وأكثر من ذلك نقله من الظلمة الروحية إلي الإيمان الكامل بابن الله!! نعم هذه هي الصورة التي صنع عليها المسيح معجزاته بل الصورة التي تكشف كيف أنه وهو نور العالم يستطيع أن يعطي النور , ولعل من المهم أن نري كيف تختلف معاملة المسيح للأعمي عن جميع الناس, وكيف يبقي السيد فريدا في المعاملة, دون أن يناظره أحد.
أما العجب كل العجب هي نظرة التلاميذ التي لم تر في الأعمي إلا موضوعا للنقاش والتساؤل الفلسفي: أأخطأ هذا أم أبواه حتي ولد أعمي وكان واجب التلاميذ أن ينظروا إليه بقلوبهم قبل عقولهم, ولكنهم مع ذلك جعلوه مادة لنقاشهم وجدلهم… ولعل موطن الغرابة في هذا الجدل, ليس الربط بين الخطية والألم أو العقاب, فهذه حقيقة قديمة متغلغلة في الفكر الإنساني, وقد ربطها أصدقاء أيوب بالمعاناة التي كان يعانيها الرجل, وأنه لابد قد ارتكب من الآثام ما يحصد معه النتيجة الرهيبة التي انتهي إليها فقد يتألم البار أيضا نتيجة تمسكه بالحق والإصرار عليه, وقد يكون الألم نوعا من التدريب أو الامتحان أو التقديس أو لإظهار مجد الله, كما ذكر يسوع هنا! علي أي حال, إن المسيح في جوابه لم يربط بين الخطية والنتيجة, لا لأنه ليست هناك خطية, لكن لأن الله كثيرا ما يتمهل علي الخطية, فما أكثر النتائج التي يؤجلها الله لمن يفعل الشر والإثم , ولا شبهة في أن هناك ناموسا مكسورا خرج بسببه هذا الإنسان إلي العالم دون أن يبصر.
وجواب يسوع يؤكد أنه توجد أسئلة كثيرة ليس من السهل علي الإنسان أن يجد جوابها في الوقت الحاضر, ويكفي أن ننظر إليها بقلوبنا أكثر من عقولنا, وبعطفنا أكثر من نقاشنا ,لأن المتألم الذي يعاني من آلامه هو في حاجة إلي أن نهتم بهذه الآلام, أكثر من أن نشرحها له ليفهم سر الألم الذي يعانيه, أو تجعله مثار نظريات فلسفية يمكن أن تمتع الذهن علي حساب تعاساته وآلامه وأحزانه!!
أما عن نظرة الجيران , فبعضهم أكد أنه هو والبعض الآخر ظنوا أنه شبيه به, ولعل هؤلاء كان من الصعب عليهم أن يعتقدوا أنه هو, إذ أن الرجل تغير تغييرا جذريا, لا لأنه أعطي عينين أغلب الظن أنهما أصبحتا أجمل شيء فيه, ولكن لأن البؤس والشقاء والألم التي كانت تصاحب فقدان البصر قد اختفت وحل محلها الابتسامة والرجاء والإشراق. وإذ اختلف الناظرون إلي الرجل فيما بينهم, أخذوه إلي الفريسيين!! وجميع هؤلاء الجيران والمعارف لم يروا في قصة الرجل أكثر من ملهاة أو مسرحية تدعو إلي التفرج والتسلية!!..
والنظرة الخائفة هي نظرة الأبوين اللذين لا نستطيع تصور مدي غبطتهما بعودة ابنهما إليهما مفتوح العينين مبتهج القلب متسع الابتسامة, ولكن الشيء الغريب جدا, هو التنصل من الإعلان عن هذه الحقيقة, خوفا من اليهود, لقد ترك الأبوان الابن ليواجه الموقف بمفرده.
و نأتي في آخر الأمر إلي موقف المسيح من الأعمي, وقد لا نستطيع فهم الموقف علي الوجه الصحيح ما لم نربطه بما جاء في الأصحاح السابق في إنجيل يوحنا حيث قال المسيح: أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (يو 8 : 12). وقد أراد المسيح أن يكشف بصورة نموذجية هذه الحقيقة أمام الجميع. فاختار المولود من بطن أمه أعمي ليبين الفرق بين من يعيش معه, ومن يبتعد عنه..
كانت آلام الرجل فرصة أمام يسوع المسيح, وكان هو النور الذي يضيء في الظلمة لم يجلس ليتفلسف حول آلام الأعمي, كما فعل التلاميذ, أو ليتسلي بمنظره كما تسلي الجيران. أو ليخاف مما يحدث كما خاف الأبوان ولم ينتقد كما انتقد اليهود بل قال: ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار ويأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل, مادمت في العالم فأنا نور العالم (يو 9 : 4 و 5)
وقد كان المسيح عجيبا في الطريقة التي فتح بها عيني الرجل, لقد تفل علي الأرض وصنع من التفل طينا, وطلي بالطين عيني الأعمي, وأرسله ليغتسل في بركة سلوام.. وهناك اعتقاد عند الكثيرين من المفسرين, بأن الرجل كان مفقود المقلتين وأن المسيح الذي صنع الإنسان من التراب, كان لابد أن يكمل المقلتين من نفس المادة التي صنع منها الإنسان, وقال آخرون إن الأمر يمكن أن نراه من جانب آخر, إذ أن الطين في العادة يؤذي البصر ويضره, ولا يمكن أن تفتح عينا إنسان بحفنة من التراب أو الطين توضع في عينيه, كما أن الاغتسال لو أننا أخذناه بقياسه المادي سيذيب الطين ويسقط من العينين دون أن يلصق بهما!! لكن المسيح ترك الرجل يسير في الطريق متأملا ليمتحن إيمانه ويذكيه ويقويه, وهو يفعل هكذا علي الدوام, ومن واجبنا أن نطيع ونسلم حتي ولو بدا الأمر خارجا علي المتعارف عليه, أو المألوف أو المدرك بين الناس. ونلاحظ أن هذا كان الفرق بين الفريسيين وبين الرجل بعد أن أبصر, أما هم فقد كانوا غير مستعدين لقبول روايته أو لتفسير المعاني المستخلصة منها, أما هو فقد تزايد إيمانه حتي بلغ الكمال آخر الأمر.
لقد طلب المسيح من الرجل شيئا غريبا, وفي الوقت نفسه لم يكن عسيرا, وأطاع وعاد مبصرا, ولست أعلم بأية صورة كانت عودته, وهو يري الطبيعة والحياة والناس لأول مرة منذ ولادته, هل تطلع إلي الشمس وغني, هل قبل الأشجار والزهور في الطريق, هل ضحك مع الطفل, وغني مع الشاب, وانهال علي أبيه وأمه تقبيلا !! علي أن القصة كانت – بلا شك – ستكون مبتورة ناقصة لو انتهت عند هذا الحد, لقد أعاد المسيح إليه البصر, ولكن هناك البصيرة التي هي أهم وأعظم, لقد أرسل الله إليه النور يبزغ في وجدانه, كما يبزغ نور الشمس ويتلألأ, لقد رأي المسيح أولا إنسانا, ثم نبيا, فالسيد الذي ينبغي الإيمان به والسجود له.. وقد حرم من المجمع من أجل المسيح دون أن يبالي, وخرج طريدا ويعمي الذين يبصرون (يو 9 : 39).. والمسيح إلي اليوم مازال يفعل هكذا.. ومازال يفتح عيون الناس بوسائل مختلفة وأساليب مختلفة لكي تري الحق وتتبعه قبل أن يحتويها الظلام إلي الأبد.