لا توجد وصفة سحرية في العالم للتعامل مع قضايا الوحدة والتنوع داخل الدولة, ولكن كان هناك عدد من المدارس الفكرية والسياسية التي حاولت التعامل مع الظاهرة. وفي العادة فإن هذه المدارس الكبري ـ القومية والاشتراكية والليبرالية ـ جعلت من التعامل مع الأقليات جزءا من فصولها المهمة حيث كان عليها جميعا التعامل مع واقع تعددي بالضرورة.
كانت المدرسة القومية في جوهرها تقوم علي أن الصلات التي ترتبها العلاقة مع الوطن ينبغي لها أن تتفوق علي كل الأبعاد الانسانية الأخري بحيث تخلق رابطة بين ”المواطنين” تتعدي الروابط الدينية والعرقية. ولما كان ذلك مستحيلا, فقد عمدت المدرسة القومية الي دعم الروابط ”القومية” ومنها كان الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ ”المشترك” والمصالح المشتركة والتي يقع في مقدمتها البقاء للدولة واستمرارها والحفاظ علي أراضيها. وفي هذه المدرسة فإن التأكيد علي ”الخطر” المشترك يصير ممارسة يومية, ويصبح في مقدمة هذه الأخطار السعي من قبل أنواع كثيرة من ”الأعداء” تفتيت الأمة.
ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن الفكر ”القومي” إما أنه أنكر تماما فكرة التمايزات العرقية والمذهبية, أو أنها اعترفت بها ولكنها خلق آليات التنشئة السياسية من تعليم وإعلام وفن وأدب ورموز, وأدوات حزبية للقولبة السياسية تقوم بتخريج القوميين المتحمسين من كافة الأطياف العرقية والدينية والمذهبية, وفي أحيان كثيرة ارتبط كل ذلك, كما في الأحزاب القومية المتطرفة النازية والفاشية بنوع من تربية الإحساس بالتفوق الذي يصل الي العنصرية, وسيادة الأمة, وتاريخها المجيد, ورسالتها الخالدة, وفي كل هذه الأحوال كانت النتيجة حالة من القسر, والحصار لكل أشكال التنوع والتعددية سواء كان ذلك بشكل مباشر وصريح حيث تم تدمير التقاليد والثقافات الخاصة بالجماعات والمجتمعات, أو من خلال نشر ثقافة الخوف الشديد التي تدفع هؤلاء للتخلص من التقاليد والثقافات أو علي الأقل عدم الجهر بها.
الانفصال وحق تقرير المصير
المدهش أنه كانت النتيجة المتعلقة بالفكر القومي هي خلق حالات مضادة من الأفكار القومية لدي الأقليات, التي تجد نفسها لا تعبر عن ثقافتها وتقاليدها إلا في إطار دولة قومية لها هي الأخري. وبشكل من الأشكال فإن الرد اليهودي علي عمليات الاضطهاد ”العرقية” والدينية في الغرب كان ظهور الفكرة الصهيونية التي أدت الي قيام دولة اسرائيل باعتبارها المعبر عن ”القومية اليهودية”. كما أن البزوغ الطاغي للقومية ”الهندوسية” خلال حملة الهند من أجل الاستقلال كانت هي التي دفعت مجموعة من الإسلاميين الي العمل من أجل تقسيم الهند الي دولتين: الهند وباكستان. وكان ذلك هو الحال في عدد من الدول التي حاولت تحقيق انصهار قسري في بوتقة قومية طاغية حيث أدي الأمر الي تقسيم الدولة من ناحية, وخلق حالة من الطغيان القومي علي الأقليات المتبقية في الدولة المنقسمة من ناحية أخري.
وفي العالم العربي كان ذلك هو ما فعلته المدرسة القومية, ولسنوات طويلة كانت الاجابة عن سؤال حالة الأقليات في كل دولة عربية واحدة وهي أن كل الأحوال علي ما يرام, بل وأن المجيب سوف يرفض فورا توصيف جماعة دينية أو عرقية أو لغوية علي أنها ”أقلية”, فالجميع مواطنون, والجميع متساوون, والجميع منصهرون في سبيكة واحدة اندمجت عناصرها وتماسكت بفعل التاريخ المشترك والمصالح المشتركة. وإذا كان السؤال في المغرب العربي عن الأمازيج, وإذا كان السؤال في الخليج عن الشيعة, وإذا كان السؤال في المشرق العربي عن المسيحيين, وإذا كان السؤال في وادي النيل عن الأفارقة والأقباط, فإنك لا تلبث أن تجد حالة من الإنكار لوجود قضية من أي نوع, وإذا كان لا بد من التعرض لتفاصيل غياب المساواة رغم وحدة المصير فإنك لا تلبث أن تجد أعذارا شتي كان أكثرها شيوعا هو أن الجميع متساوون في الظلم والوقوع ”رعايا” لنظم سياسية لها أشكال متنوعة من الاستبداد!
وقد كان الظن سائدا دوما أن قضية الأقليات تتعلق بالإسلام والديانات الأخري والمسيحية خاصة في البلاد العربية حيث أدت الحروب الصليبية في الماضي, والتعبيرات المسيحية عن الحضارة الغربية في الحاضر الي تعقيدات كبيرة سياسية ومعنوية خاصة خلال فترة الصراع مع الاستعمار. ولكن ما انكشفت مؤخرا في المشهد العربي يقطع بأن المسألة ليست كذلك, فما جري من صراع في دارفور كان بين مسلمين من أصول عربية ومسلمين من أصول إفريقية, كما أن المسلمين أكثر عددا من المسيحيين في الجنوب السوداني. والمسلمون هم الأغلبية الساحقة من العراقيين سواء كانوا سنة أو شيعة أو أكرادا أو تركمان, ولكن القضية ليست أن تكون مسلما بل أن تكون نوعا محددا من المسلمين.
وهكذا فإن الفكر القومي العربي الذي بدأ في القرن التاسع عشر باعتباره ثورة للتخلص من الهيمنة الإسلامية والسنية التي مثلتها دولة الخلافة العثمانية, ومواجهة مع الاستعمار الذي كان يحاول تفتيت العالم العربي, فإنه سرعان ما تحول مع القرن العشرين علي يد الحركات السياسية البعثية الي أداة من أدوات السيطرة والهيمنة سواء من جانب الأقلية العلوية في سوريا أو الأقلية السنية في العراق. وحتي في الدول العربية التي لم يحكمها البعث, فإن الفكرة القومية ظلت علي حالها أداة من أدوات الهيمنة والسيطرة والاسترقاق الثقافي والسياسي وبالتالي تم تهميش الشيعة والمسيحيين في دول عربية كثيرة كلها اتفقت علي حقيقة واحدة هي عدم وجود أقليات إلا باعتبارها من عناصر الأمة.
المدرسة الاشتراكية
اعتبرت المدرسة الاشتراكية قضية التنوع الثقافي والحضاري والعرقي والديني والمذهبي قضية إما أنها مفتعلة تستخدمها الطبقات المستغلة من أجل الحفاظ علي سيطرتها واستغلالها للطبقات العاملة والكادحة والفقيرة في الهموم; أو أنها قضية حقيقية ولكنها لا ينبغي لها أن تجب الروابط الاقتصادية والاجتماعية التي تربط الكادحين ببعضهم والتي تفوق الروابط الاجتماعية الأخري للقبيلة أو المذهب أو العرق أو الدين أو اللغة. وببساطة فإن الفكر الاشتراكي اعتبر الرابطة الطبقية أقوي من كل الروابط الأخري; وهكذا فإن أنصار المدرسة الاشتراكية في العموم نظروا بتشكك بالغ, وبنفس الطريقة القومية, في كل التعبيرات السياسية أو الثقافية لكل أشكال التنوع والاختلاف داخل الدولة. وكان ما جري في العالم العربي خلال الستينيات في عدد من الدول العربية ربطت ما بين ”الاشتراكية” و”القومية”, وأصبح تحقيق ”العدالة” و”الوحدة” الطريق والقدرة علي صهر التنويعات المختلفة في دولة واحدة.
وفي الحقيقة, وبعيدا عن الأفكار القومية والاشتراكية, فقد كانت الدولة العربية البيروقراطية المتولدة عنهما هي التي خلقت آليات للعنف والخوف قادرة علي كبت التطلعات والتقاليد المختلفة. ولذلك فإنه حتي مع تراجع الفكر القومي, وانهيار الفكر الاشتراكي خاصة بعد زوال الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية فإن عملية القهر استمرت حتي مع الدول التي لم تعتبر الاشتراكية والقومية من المذاهب الفكرية المعبرة عنها. وفي هذه الحالة فقد كان الإسلام هو المعبر عن الفكرتين معا, مع المحافظة علي نفس التقاليد البيروقراطية التي استمرت علي رفض الصيغة التعددية للمجتمعات.
المدرسة الليبرالية
كانت المدرسة الليبرالية هي التي قدمت في بلدان كثيرة من دول العالم حلا لإشكالية التعدد العرقي والمذهبي والديني في دولة واحدة من خلال مجموعة من الآليات السياسية. فهي من ناحية اعتمدت علي الفرد كوحدة سياسية أولية ومن ثم فإنها ابتعدت عن الجماعات (الأمة أو الطبقة أو أصحاب الديانة الواحدة), واستنادا الي هذا الفرض صار هناك صوت واحد لكل انسان يمارس به السياسة تعبيرا عن نفسه وليس عن القبيلة أو الجماعة. ومن الفردية انبثقت فكرة المواطنة التي تجعل جميع ”المواطنين” شركاء في ”وطن” واحد علي أساس من المساواة الكاملة أمام القانون وصناديق الانتخابات بغض النظر عن العرق أو الدين أو العقيدة أو اللون أو الجنس. وعلي سبيل المثال فإن الدستور المصري الحالي والذي استند الي التقاليد الدستورية التي بدأت مع دستور عام 1923 خلال الفترة الليبرالية يضع في مادته أن دولة مصر تقوم علي مبدأ ”المواطنة”, بمعني أن ”هويتها” تقوم علي تجمع ”مواطنين متساوين” في المقام والقيمة الانسانية والسياسية. والمادة 40 من الدستور تأخذ هذه القاعدة المحددة الي دائرة التطبيق فتقول: ”المواطنون لدي القانون سواء, وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة, لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
وهكذا وضع الدستور خمسة اختلافات بين المواطنين لا يجوز التمييز علي أساسها أمام القانون; كما وضع فارقا بين ”الدين” و”العقيدة” فهما أمران مختلفان; ومع ذلك فإن كلاهما لا ينبغي حدوث التمييز علي أساسه أمام القانون. هنا فإن النص كله قطعي, فالمواطنون متساوون أمام القانون مهما كانت الاختلافات بينهم, وسواء كانت موضوعية ـ الجنس أو الأصل أو اللغة ـ أو فكرية ـ الدين أو العقيدة ـ فلا يهم في نظر القانون المصري أن تكون أبيض أو أسود, عربيا أو أعجميا, تتحدث اللغة العربية الفصيحة أو اللاتينية المعقدة, أو تنتمي الي الدين الاسلامي أو المسيحي أو حتي البوذي, أو تؤمن بالعقيدة الشيعية أو السنية أو الشيوعية; فطالما أنك مواطن مصري ولم ترتكب جرما يسبب تقييد حريتك العامة فإنك لن تخضع لقانون خاص بك يختلف عن القانون الذي ينطبق علي أعضاء المجتمع.
والفارق بين الدين والعقيدة هو أن الأول يمثل حالة موضوعية وفكرية واجتماعية مستقلة تماما عن الفرد, بينما ”العقيدة” و”الاعتقاد” فإن فيها عنصرا غير قليل من الاختيار الفردي, وهي قد تكون جزءا من الدين بحيث يعتنق الانسان مذهبا معينا كعقيدة داخل الدين الأشمل مثل أن تكون مسلما سنيا أو شيعيا أو مسيحيا كاثوليكيا أو أرثوذكسيا, أو قد تكون اختيارا خاصا فلسفيا أو فكريا طالما أنه يخص الانسان وخلاصة سلامه الروحي. ولذلك فإن المادة 46 من الدستور تعيد التأكيد علي الفارق بين ”الدين” و”العقيدة” عندما يجعل الدول حارسا لكليهما فتقول: ”تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”, ومعني ذلك أنه من حق ”المواطن” أن يعتقد ما يشاء, وطالما أنه لا يهدد النظام العام, فإن علي الدولة أن تحميه من عسف من يختلفون معه في ”العقيدة” التي قد تكون دينا أو مذهبا أو فكرة, أما من يؤمنون بدين بعينه, فإن الدولة ـ وليس غيرها ـ سوف تكفل لهم ”حرية ممارسة الشعائر الدينية”.
هذه القواعد الدستورية العامة تعرضت أكثر من مرة للانتهاك وعدم التقدير للدستور السليم; فحدث ذلك مرة عندما أثيرت قضية ”الديانة البهائية” ووضعها في خانة البطاقة الشخصية حينما أثيرت صحة هذه الديانة بل كان هناك من يتساءل عما إذا كانت دينا علي الإطلاق, ومرة أخري عندما أثيرت قضية المرتدين الي الديانة المسيحية مرة أخري وعما إذا كان ذلك يمثل تلاعبا بالأديان أو كفرا صريحا, وأخيرا عندما تم القبض علي جماعة ”القرآنيين” واتهامهم بازدراء الأديان بينما كانت الأسئلة الموجهة لهم من جهات متعددة قائمة علي سلامة الاعتقاد الذي يعتقدونه. والحقيقة ودون الدخول في تفاصيل العقائد المختلفة ومدي صحتها أو جوازها من الناحية الفقهية أو التاريخية, فإن المهم هنا ليس صحة ما يعتقد به, وإنما القضية هي جواز وحق الانسان في الاعتقاد فيما يراه دون عسف أو اضطهاد أو مصادرة أو حتي التحقيق في الموضوع طالما أن الانسان لا يستخدم هذا الحق في تهديد النظام العام.
اللامركزية السياسية والاقتصادية
لم تكن المواطنة والمساواة القانونية كافية في كل الأحوال للتعامل مع مشكلات التنوع العرقي والديني والمذهبي عندما ارتبط التنوع من ناحية بالنزعات القومية والثقافية, ومن ناحية أخري بنزعات للاستقلال عن الأغلبية في الدولة خاصة عندما تتعرض الأقلية لأشكال مختلفة من الاضطهاد. فكان نتيجة ذلك أن قدم الفكر الليبرالي فكرة اللامركزية السياسية والاقتصادية التي تتيح نوعا ما من الاستقلال وحقوق التعبير تتراوح ما بين اللامركزية الإدارية والثقافية, والدول الفيدرالية, وحتي الاتحادات الكونفيدرالية. وفي التجربة العالمية أمثلة لتجارب متعددة تعاملت مع حالات مختلفة من التنوع العرقي والديني والثقافي في الهند والولايات المتحدة وكندا وروسيا ودولة الامارات العربية المتحدة, ولكن ربما كان أبرزها وأكثرها غني في الاستعارة من مفاهيم اللامركزية المختلفة ما حدث في التجربة السويسرية. وسويسرا دولة قديمة عرفت أول أشكالها عام 1291 في أحضان جبال الألب عندما تجمعت ثلاثة كانتونات لتكوين ”الكونفدرالية السويسرية”, وهذه أخذت في الامتداد والانكماش عبر التاريخ حتي أصبحت 26 كانتونا منهم ستة تعرف بأنصاف الكانتونات, وهؤلاء تحولوا الي النظام الفيدرالي اعتبارا من عام 1848, وهذه هي الدولة المعروفة الآن وعدد سكانها 7.5 مليون نسمة. وسويسرا أيضا دولة تعددية مركبة القوميات, فهي من ناحية لديها أربع لغات ـ الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانية, وهي من ناحية أخري تقوم علي نظام فيدرالي يعطي للكانتونات كل السلطات التي لا يتم النص عليها قطعيا في الدستور, وتتمثل هذه الكانتونات في المؤسسات الفيدرالية من خلال مجلس الولايات المكون من 46 عضوا ـ القائم علي صوتين لكل كانتون وصوت واحد لأنصاف الكانتونات الست ـ والمجلس الوطني المشكل من 200 عضو يتم انتخابهم من خلال القائمة النسبية. وفي نفس الوقت فإن سويسرا تعتبر دولة ديموقراطية مباشرة, فلكل مواطن الحق في تعديل القوانين التي تقرها ”الجمعية الوطنية المتحدة” ـ أي مجلس الولايات والمجلس الوطني ـ من خلال استفتاء عام إذا ما تمكن المواطن من الحصول علي 50 ألف توقيع خلال 100 يوم, بل وأكثر من ذلك فإن المواطن يستطيع تعديل الدستور من خلال الاستفتاء العام إذا ما نجح في جمع 100 ألف توقيع خلال 18 شهرا. وكان نتيجة هذا النظام المركب أن الدولة السويسرية نجحت في التعامل مع مجتمع متعدد الأعراق واللغات والملل, بل أيضا في تحقيق نجاح اقتصادي يضرب به الأمثال في العالم.
الديموقراطية التوافقية وفي حالات الانقسام العرقي والديني الشديدة والتي أدت الي حدوث العنف المسلح في شكل حرب أهلية أو التهديد بها, فإن الفكر الليبرالي توصل الي فكرة ”الديموقراطية التوافقية” التي تقوم علي تقاسم السلطة وأساليب العمل فيها بحيث تمنع الأغلبية من سحق الأقلية أو الاستئثار بالدولة لصالحها. هذه النظرية السياسية التي قدمها العالم السياسي أرندت ليجبهارت تحت اسم Consociational Democracy تم اشتقاقها من تجارب موجودة بالفعل في العالم مثل هولندا وماليزيا وجنوب أفريقيا حيث تتفق الجماعات العرقية والدينية المختلفة علي قواعد بعينها لإدارة اللعبة السياسية فضلا عن درجات مختلفة من التقاسم الرسمي أو الفعلي للسلطة. وفي العالم العربي فإن أقرب النماذج الي هذه النظرية كان التجربة اللبنانية التي قامت علي تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام (نصف أعضاء البرلمان أو المجلس التشريعي), ثم بعد ذلك بين الجماعات المسيحية المختلفة من موارنة وروم أرثوذكس وكاثوليك والجماعات الإسلامية المختلفة من سنة وشيعة حيث توافق الجمع اللبناني علي أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا, ورئيس الوزراء مسلما سنيا, بينما رئيس مجلس النواب مسلما شيعيا.
والحقيقة أن هذا النموذج للتعامل مع قضايا التنوع كانت له درجات مختلفة من النجاح والفشل في فترات زمنية مختلفة; وبينما أحرز نجاحا كبيرا في الدول التي حققت تقدما اقتصاديا واجتماعيا كبيرا مثل هولندا وماليزيا وسنغافورة, فإنه حقق نجاحا محدودا في لبنان التي عرفت حربين أهليتين منذ استقلال الدولة, ولكنه لم يحقق نجاحا يذكر عندما تم تطبيقه في العراق لأسباب متنوعة أهمها أن ”التوافق” السياسي لم يحدث بين الطوائف والجماعات العراقية المختلفة, كما أن تقاسم السلطة لم يمنع الهيمنة الشيعية عليها, وكان البحث عن ”الاستقلال” للجماعة الكردية مخلا بالتوازنات داخل الدولة.
ما العمل؟
من العرض السابق نصل الي مجموعة من النتائج: أولها أن قضية التنوع العرقي والطائفي والمذهبي هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة القومية الحديثة التي لا تقوم علي إمبراطوريات تقوم علي أسس دينية أو مذهبية وإنما علي أساس من المصلحة المشتركة. وثانيها أن هذه الأوضاع التاريخية قد فرضت علي الدول أن تبحث عن طريقة ما للتعامل مع أوضاع التنوع بحيث تحافظ علي وحدة الدولة من ناحية, والتعبير عن التنوع الموجود داخلها من ناحية أخري. وثالثها أن الدولة العربية الحديثة قد مرت بنفس التجربة, فقد كان عليها أن تتعامل مع واقع من التنوع ينفي تماما وجود حالة من الصفاء القومي أو الوطني. ورابعها, أن العالم العربي لم يكن ناجحا في التعامل مع قضايا التنوع هذه, وفي كثير من الأحيان أدي الفشل الي حالات من الحرب الأهلية. وفي الوقت الراهن فإن هناك في العراق والسودان والصومال حالة من الصراع المسلح الذي يأخذ أشكالا شتي; كما أن هناك دولا أخري تعيش حالات من التوتر الطائفي كما هو الحال في لبنان وسورية وجيبوتي, وفي حالات ثالثة توجد درجات من الاحتقان كما هو الحال في البحرين ومصر والجزائر والسعودية. وخامسها أن العالم في تجاربه المختلفة حاول أن يصل الي حل لمشكل التنوع العرقي والطائفي بأساليب متنوعة بحيث لا يمكن التوصل الي وصفة جاهزة يصلح تطبيقها في كل الأحوال والدول.
ولكن بالنسبة للعالم العربي تحديدا فإن هناك عددا من التوصيات التي يمكن استخلاصها من العرض السابق: أولها أنه لا يجوز إنكار القضية كلها, فالتنوع والتعدد هو من الحالات الطبيعية, وما لم يتم إدراكها والتعامل معها, أو يتم النظر إليها كنوع من المؤامرات الأجنبية, فإن القضية علي الأغلب سوف تتحول الي أزمات سياسية كبري. وثانيها أن الاعتراف بالتنوع يعني المعرفة الواسعة عن الطوائف المختلفة واعتبارها جزءا من التراث القومي, فلا يجوز ألا تعرف الأغلبية السنية العربية إلا القليل عن المسيحية والمذهب الشيعي والأقليات والقبائل المختلفة بحيث يكون ذلك جزءا من الاهتمام الثقافي للدولة. وفي مصر علي سبيل المثال فإن 700 عام من التراث القبطي في تاريخ مصر تم حذفها تماما من دراسة التاريخ المصري في المدارس والجامعات. وثالثها أن وجود حد أدني من المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة بل وحتي لخلق مناخ للتوافق حول النظام السياسي إذا كان ذلك ضروريا. وعلي سبيل المثال فإن الأقلية المسيحية في مصر قبلت الدولة المركزية الديموقراطية بدلا من تقسيم السلطة عند قيام الدولة المصرية لأن الدولة ونظامها السياسي والقضائي قام بشكل واضح علي المواطنة والمساواة أمام القانون. ورابعها ان الدولة التي تعيش في حالة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام تكون أكثر استعدادا وقدرة علي التعامل مع مشكلات التنوع لأنها تخلف هدفا مشتركا في تحقيق الرخاء. وكان ذلك واحدا من الأسباب الهامة لنجاح التجربة الهولندية بين الكاثوليك والبروتستانت, والماليزية بين المسلمين والصينيين. وخامسها أن الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها, أو مع النظام الدولي, تكون في العادة أكثر قدرة علي التعامل مع انقساماتها الداخلية, ليس فقط لأنها توفر علي نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع, وإنما لأن الصراع الخارجي كثيرا ما يكون سببا في منع التوافق السياسي أو تدميره إذا كان موجودا. وبالتأكيد فإن التجربة اللبنانية كان ممكنا أن تكون أكثر نجاحا إذا لم يكن لبنان جزءا من معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وسادسها أن التنوع والاختلاف والتعدد والتوافق كلها تعد حالة من حالات الثقافة السياسية غير المعروفة في الدول العربية عموما بسبب الفكر القومي في مرحلة والفكر الاشتراكي في مرحلة أخري, والصراع مع الغرب وإسرائيل في كل المراحل, وكل ذلك يجعل خلق هذه الثقافة ونشرها بوسائل الإعلام والتعليم والتنشئة مسألة ضرورية للتعامل مع تنوع العالم من ناحية والتعامل مع تنوع الداخل من ناحية أخري.