سؤال من الابنة مرجريت-سوهاج
سلام لك أيتها الابنة ودعاء وبركة
تسألين ماذا تفعلين لتصلي إلي الكمال,وهل الصلاة والصوم يصلان بالإنسان إلي الكمال؟
اعلمي أيتها الابنة أن الكمال المطلق هو لله وحده,ولكن مع ذلك نحن المسيحيين أيضا مدعوون إلي الكمال علي مثال سيدنا وخالقنا.فقد قال المسيح له المجدفكونوا إذن كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات كامل متي5:48وقال الرب أيضا كونوا قديسين,لأني أنا الرب إلهكم قدوسسفر اللاويين19:11,2:20,44:7.انظر أيضاكولوسي1:29,28
فنحن إذن مدعوون إلي الكمال المطلق لا إلي مجرد الكمال النسبي.ولما كان الكمال الإلهي بعيدا جدا عن منالنا الآن,لكننا مدعوون أن نرتقي إليه خطوة خطوة إلي أن نبلغ إليه وعزاؤنا في هذا كله أننا موعودون بحياة أبدية لا نهاية لها.1يوحنا2:25.
ففي حياتنا الحاضرة يجب أن نعمل علي بلوغ الكمال علي قدر طاقتنا في الجهاد وتكميل أنفسنا بما يرفعنا ويرقي بنا إلي الكمال.علي أن القديسين منا سيواصلون بعد الموت,سعيهم للبلوغ تدريجيا إلي أعلي مما وصلوا إليه في رحلة حياتهم علي الأرض.ولما كانوا موعودين بحياة أبدية,فلسوف يرتقون إلي درجات أعلي في طريق صاعد إلي أن يبلغوا في حياة الأبدإلي الإنسان الكاملالذي وصفه الوحي الإلهي في الكتاب المقدس بأنه مقياس قامة ملء المسيحأفسس4:13.
فالمسيح إذن هو مثلنا الأعلي الذي نسعي للتشبه به في الكمال .1بطرس2:22,21وهو القامة الكاملة في الكمال والقداسة ,والمسيحيون مدعوون إلي أن يرتفعوا في مقياس الكمال الذي في المسيح,شيئا فشيئا حتي يصلوا في الأبدية إلي ملء المقياس في الكمال,أي إلي الكمال الإلهي.
لقد خلقنا أصلا علي صورة الله ومثالهالتكوين1:27:فخلق الله الإنسان علي صورته,علي صورة الله خلقه.1كورنثوس 11:7,التكوين5:91:6,يعقوب 3:9.وقد خلقه الله علي صورته في البر وقداسة الحق أفسس4:24.
ولما كان الإنسان قد فقد بالخطيئة الصورة التي خلقه الله عليها في القداسة والبر والحق,فإن جهاد الإنسان المسيحي الذي استرد في المعمودية حالة آدم التي خلق عليها أن يعمل علي صيانة هذه الصورة ,وأن يحفظها مما يدنسها أو يتلفها ,وأن يسعي لتغذيتها وتقويتها وتنميتها إلي أن تبلغ إلي قامة ملء المسيح.وذلك بالرياضات الروحية,وبالعبادات من صلاة وصوم,وقراءة وتأمل في المثاليات والكماليات ,ورفع القلب والعقل والشعور إلي الكمال الإلهي,وبهذه جميعا يكتسب الإنسان شيئا فشيئا من صفات الكمال,وتنال نفسه من شحنات روحية تنشحن بها نفسه,فتستنير بالنور الإلهي,وتتكهرب بكهرباء الروح الأعظم,وتزداد الروح الإنسانية إشراقا وضياء وبهاء.ومع الشخوص المتزايد في المسيح الإله والتمثل به,يقترب الإنسان إلي الكمال الإلهي حتي يتحقق به أخيرا عندما يبلغ به النمو الروحاني إلي مقام الاتحاد الروحاني بالواحد الأحد,فيبلغ القديسون إلي مقامالفناء,والبقاء,بعد الفناءوهو المقام الروحاني الذي وصفه القديس بولس الرسول بقوله ـفما أنا أحيا بعد,بل إنما المسيح يحيا فيغلاطية 2:20.
أيتها الابنة ستقولين:ماهو المطلوب مني لأصل إلي الكمال النسبي في عالمنا الحاضر ونحن نعيش في عالم مليء بالشر؟أقول:المطلوب أولا أن يبتعد الإنسان عن كل مايدنس روحه وفكره وجسده.فإن لب القداسة وجوهرها هوالطهارةطهارة الروح والفكر,والجسد.
ولكي نفهم معنيالطهارةبوسيلة إيضاح مناسبة .فلنتأمل ثوبا أبيض بياضا كاملا,لايشوب بياضه بقعة من قذر,تشوه صورة بياضه الناصع والأمر يحتاج إلي جهد مزدوج في اتجاهين:أحدهما سلبي والآخر إيجابي فالراغب في طريق الكمال ينبغي أن يبتعد عن كل شخص,أو شيء يدنسه,أو يغريه علي الدنس.
وفي نفس الوقت عليه أن يحشد روحه وذهنه بكل ما يرفعه إلي فوق,ويبنيه إلي أعلي,ويسمو به في سبيل الترقي والنمو والتسامي…وهنا نذكر ماينصحنا به الوحي الإلهيفاهتموا بكل ماهو حق,بكل ماهو شريف,بكل ماهو عادل,بكل ماهو طاهر,بكل ماهو مستحب وحسن السمعة,وما كان فضيلة وأهلا للمديحفيلبي4:8.
ولعل مما يشجع الإنسان المسيحي الراغب في حياة الكمال قول الرسول القديس بولس ولا أدعي أني فزت أو بلغت الكمال,بل أسعي لعلي أفوز بما لأجله فاز بي المسيح يسوع. أيها الإخوة ,لا أحسب أني فزت,ولكن يهمني أمر واحد,وهو أن أنسي ماورائي وأمتد إلي ماهو أمامي,فأسعي نحو الهدف,للفوز بجائزة دعوة الله العليا في المسيح يسوعفيلبي3:12-14.وكما أنه في مجال العلم,لايبلغ الإنسان إلي كل العلم مرة واحدة. وإنما العلم مراحل متدرجة:هناك المرحلة الابتدائية تأتي بعدها المرحلة الثانوية ,وتتلوها المرحلة الأعلي من الثانوية ومع ذلك فليست هذه المرحلة الأعلي من الثانوية هي نهاية المطاف فهناك الدراسات العليا التخصصية علي أن العلماء علي الحقيقة لايقفون عند مرحلة الدكتوراه,وإنما هم يواصلون الدرس والبحث بغير توقف وبغير شبع,كما يقولوناثنان لايشبعان:طالب علم وطالب مالهكذا الأمر بالنسبة للروحانيات ..فالطريق مفتوح أمام الراغبين في الكمال إلي مالانهاية..لأنهم يجدون الرغبة في قلوبهم تدفعهم إلي النمو وإلي الارتقاء في سلم صاعد إلي الكمال الإلهي.والسلم درجات ولذلك يسمي أيضا الدرجوهو مايتخطي عليه من الأدني إلي الأعلي في الصعود وللقديس يوحنا كليماخوسأو كليماكوسكتابة فيسلم السماء ودرجات الفضائلأوالسلم إلي الله ولذلك يسمي هذا القديس بيوحنا الدرجي أو يوحنا السلمي السينائي وكان رئيس أديرة طورسينا.
وكما أنه في كل فن وفي كل صناعة تدرج,فهناك المبتديء أو التلميذ أو الصبي ولكن هناك المعلم,هناك الطفل وهناك الشيخ هكذا في الحياة الروحية,هناك المبتدئون وهناك المتقدمون ,الأطفال والشيوخ:الأطفال في الفهم والإدراك,وهناك الشيوخ في الخبرة والحكمة والمعرفة…ولذلك يقول الرسول بولس لأهل كورنثوسلا تكونوا أيها الإخوة أطفالا في تفكيركم,بل كونوا أطفالا في الشر,وأما في أذهانكم فكونوا كاملين.1كورنثوس14:20.ويقول أيضا وأما الطعام القوي فللكاملين,الذين تدربت حواسهم بالممارسة علي التمييز بين الخير والشرالعبرانيين5:14.
وعلي ذلك فالكمال المطلوب من المسيحيين هو كمال في الإدراك والفهم والمعرفة الروحانية وكمال في الحب الإلهي,أي نمو في المحبة لله والاستغراق في محبته استغراقا يملك علي الإنسان كل عاطفته..لكن هناك شيئا آخر هو امتلاء القلب بالإشفاق علي كل الخليقة,وعمل الصالحاتت لكل الخليقة.
وكما أن الله محب للبشر,هكذا يصل الكاملون إلي محبة شاملة لجميع الناس,فيحتضن المسيحي جميع الناس في قلبه,الأصدقاء والأعداء ويترفق بهم ويحنو عليهم,ويشفق علي الجميع…يشفق علي الناس,كما يشفق علي الحيوانات العجماوات والطيور بل علي الحشرات والهوام فلا يعذبها بل ولايدعها تتألم وإنما يتألم إذا تألمت وينفطر قلبه رفقا بها,وإشفاقا عليها. وكما أن الله صانع الخيرات هكذا الكاملون يصنعون الخير تمثلا بسيدهم وخالقهم,فيبكون مع الباكين ويفرحون مع الفرحين وليس ذلك فقط,بل يخففون بالفعل آلام الخليقة كلها,فيعملون علي إطعام الجائعين وكسو العراةمتي 25:35وشفاء المرضي وتعليم الجاهلين …وبالإجمال إنهم ينشرون الخير والبر والجمال بكل نوع, فهم رسل الخير والحق,والسلام وعمل الصالحات يعملون عمل سيدهم وخالقهم في كل الخليقة.لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها لنا لنسلك فيهاأفسس 2:10 ويقول الوحي الإلهي علي لسان القديس يعقوب الرسولإن الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي افتقاد اليتامي والأرامل في ضيقتهم وأن يصون الإنسان نفسه من دنس العالميعقوب 1:27.
فالكمال المسيحي الذي نحن مدعوون إليه ومطالبون به هو كمال الروحانية في المعرفة والإدراك وكمال الحب الإلهي,وكمال الطهارة في الروح والذهن والجسد,وكمال الإشفاق علي كل الخليقة وكمال الأعمال الصالحة في صنع الخير العام لجميع الناس,ولكل الخليقة.
وسبيلنا في ذلك كله هو العبادة الصادقة بالصلاة والتأمل ثم العمل-عمل الصالحات.