يذكرنى المذيع المتميز جابر القرموطى بالصورة النمطية لأديب القرية والتى تكررت فى أكثر من عمل روائى ودرامى .هذا الشخص الذى تجده متميز فى ملابسه ولا يترك الجريدة من يده وهو مندس بين الناس فى مقهى القرية الوحيد، يقرأ لهم بصوت مرتفع، يشرح ويفسر وينهر ويتشنج بإحساس صادق وتودد فريد، فلا يغضب منه أحد ولا يضج من صوته العالى من يجلس فى هدوء وعزلة .
لقد أعاد القرموطى بعث هذه الشخصية الحية فى برنامجه مانشيت على قناة أون تى فى . فيخرج على المصريين –وما مصر إلا مقهى كبير – ليقرا لهم الصحف بصوته الجهورى وبتلقائية محببة بل وبصراخ أحيانا يجعله يقع فى بئر الشعبوية . وهى بئر تجعله يكسب مزيدا من المشاهدين الذين يبحثون عن من يشاركهم آلامهم ومآسيهم، ومن يندب لهم حظهم العثر أيضا.
وللحق فعندما بدأ بث برنامج مانشيت صدمتنى طريقة تقديم جابر للبرنامج . وشعرت بحاجز كبير يعيق متابعته لعله الأسلوب أو أن الذاكرة الوجدانية التى كانت تتقبل قارئ الصحف بمقهى القرية فى الروايات أو المسلسلات لم تقبل نموذجا واقعيا وحقيقيا لهذا القارئ “الفذلوك” الذى أصبح قارئ عمومى يظهر على الفضائيات . كانت كل التعليقات من الأصدقاء والزملاء تستنكر هذا الصوت الصارخ فى برية الفضائيات . ولكنها شهور قليلة –نحو أربعة أو خمسة أشهر– وأصبحنا متابعين جيدا للقرموطى فقد انتصر علينا وأخضعنا بكونه مكسب لكل المشتركين فى عملية الصحافة صحفيين وقراء بل وعاجزين عن القراءة.
فهو الوحيد الذى يبدأ برنامجه بذكر تاريخ اليوم حسب السنة الميلادية والسنة القبطية التى يحفظ شهورها كل فلاحى مصر، ويزرعون حسب أيامها، وأيضا السنة الهجرية . ثم يقدم إحصاءً غريبا وعجيبا يثير الكثير من الأسئلة التى لا نعرف لها إجابة، وفقرة الإحصاء هذه تذكرنى بأحد أفلام النجم الكوميدى عبد السلام النابلسى عندما كان يتحدث بكبرياء عن إحصاء قاموا به حول السيدات اللواتى عبرن بأقدمهن فوق كوبرى قصر النيل، وذكر عدد السيدات منهن والعذارى إلا واحدة لم يستطعوا معرفة كونها مدام أو آنسة . وهكذا لا يعرف المشاهد ماذا تعنى كلمة فى جميع الصحف التى تعقب الأرقام، فيقال إن عدد التحقيقات اليوم مثلا 16 تحقيقا فى جميع الصحف. ولكن لا نعرف أبدا ما المقصود بكلمة جميع الصحف هذه على الإطلاق، فى حين إن الإحصاء كعلم يتطلب أن يتم الإعلان أولا عن ما تم الإحصاء فيه أو عنه، فمثلا يقال إن الصحف المصرية التى بحثنا فيها اليوم هى 30 صحيفة يومية وهى كذا وكذا، و5 صحف أسبوعية هى كذا وكذا، و 6 مجلات. أما ترك الأمر فى المجهول هكذا يجعل المشاهد لا يعرف ما المقصود بجميع الصحف فهل هى جميع الصحف التى تباع عند بائع الصحف، وهناك من بينها صحف عربية لبنانية وخليجية وصحف تصدر بالإنجليزية أو الفرنسية، أما جميع الصحف التى تصدر فى مصر اليوم ولا نعرف عددها، وهناك منها ما هو يومى وما هو أسبوعى وما هو شهرى . فإذا كان هناك إصرار على فقرة الإحصاء هذه فلابد أن تعلن للمشاهد أسماء هذه الصحف، وبعد هذه الفقرة يختار المعد أكثر الموضوعات أهمية من وجهة نظره ليقدم جابر معظم الآراء التى دارت حولها بالإيجاب أو السلب، فهو يحافظ على حياد البرنامج بشكل رائع . وقد ظهر ذلك بوضوح فى معالجة أزمة جريدة الدستور، فعلى الرغم من وجود الزميل محمد الجارحى كواحد من معدى البرنامج، وهو أيضا صحفى من المعتصمين ضد ما حدث فى الدستور .إلا أن البرنامج لم يتبن فقط وجهة نظر المعتصمين بل استضاف كل الأطراف، وقدمت حلقة مع الأستاذ أيمن شرف رئيس التحرير الجديد . وهو أمر يزيد من قيمة ومكانة البرنامج الذى لا يكتفى بقراءة الصحف بل تحول إلى صدى فعلى وعملى للمواطن البسيط . حيث شارك القرموطى بنفسه فى تحقيق شكوى المواطن من تلوث اللحوم . وقدم بعض اللحوم لمراكز التحليل المتخصصة، وأعلن النتيجة على الهواء . فهو إذن لا يقرأ الصحف فقط بل يمارس العمل الصحفى كفلاح قرارى شاطر وصاحب حضور أصبح من العيار الثقيل.
==
س.س
نوفمبر 2010