إذا كانت القصة القصيرة تصويرا للخطة إنسانية مكثفة, فإن هذه اللحظة قد تمتد امتدادا كبيرا يمنحها عمقا.. في هذه اللحظة الإنسانية يقوم المؤلف بتسجيل موقف أو حادثة.. ثم ينتقل هذا الموقف ليلتحم بالعالم الداخلي الذي يعيش فيه المؤلف, ويعيد صياغته من جديد.. وقد وصف فلوبير إعادة الصياغة للحادثة بأنها تمرير في معمل كيميائي للمؤلف يصوغها بصياغته الفنية, ليخرج للمتلقي عملا أبيا يحمل من الرموز والدلالات والقيم الإنسانية – الحق والحيز والجمال – وهذه هي الفلسفة التي تقوم عليها القصة القصيرة.
وقد اهتمت وطني – في سنواتها الأولي – بالقصة القصيرة العالمية وفي هذا المقال التحليلي نتناول نموذجين:
النموذج الأول: من الأدب الروسي رسالة ليلة العيد, تأليف: أنطون تشيكوف وترجمة: عبدالمنعم حسن.
النموذج الثاني: من الأدب الإنجليزي عجلة القدر, تأليف: دون ديفيز. ترجمة: أمين دوس.
رسالة ليلة العيد
ليلة العيد كلمة تبث في نفوسنا البهجة وإشراقة الأمل وتعيد إلينا ذكريات الطفولة الجميلة حيث الارتماء في أحضان الوالدين والتنعم براحة البال غير عابئين بهموم الحاضر أو غياهب المستقبل, لكن هناك دائما من هم ليسوا علي شاكلتنا (سواء كنا ممن دللتهم الحياة أو من ذلك الفريق الذي تجهمت الدنيا في وجهه), دائما هناك اختلاف وخلاف, فهذا الطفل الذي يدعي فانكا يوكوف والذي لا يتعدي التاسعة من عمره ويعمل صبيا في صناعة الأحذية, يقضي ليلة مختلفة تماما عن أترابه فهو اليتيم والفقير والوحيد الذي لم يشفق عليه أحد, بل يتفنن سادته في العمل علي إيلامه وحرمانه ولم ينقذه منهم شئ حتي ليلة ميلاد المسيح. تلك الليلة التي بها من الأحداث ما يستحق الوقوف والتأمل, فالمسيح – وهو خالق الكل – ولد فقيرا في مذود للحيوانات وعاش أيضا فقيرا يعمل نجارا.. وهذه بمثابة رسالة للعالم كله, أما السادة (البعض وليس الكل) يجدون مسرة قلوبهم في إذلال من يعملون لديهم. الخالق يتضع والمخلوق يرتفع! ياللجبروت!! يالعظم الاختلاف…
وها نحن نعيد قراءة ما كتبه الروسي العظيم تشيكوف منذ السنوات الطوال علي لسان الصبي فانكا يوكوف في رسالته التي بعث بها إلي جده ليلة عيد الميلاد: جدي العزيز كونستانتان ماكاريتشي.. ها أنا أكتب إليك من وحدتي.. متمنيا لك السعادة في عيد الميلاد, وأن يعطيك الله ما يريده من خيرات.. أكتب إليك بعد أن لم يعد لي أب, ولا أم, ولم يبق لي في هذا العالم إلا أنت!….
ثم يقطع المؤلف هذه المأساة بوصف ليلة الميلاد وكأنما ليذكرنا ويضع أمامنا لوحة جميلة تجمع بين البهجة والرضا والشكر فإذ به يقول: وكانت ليالي عيد الميلاد تبدو ساحرة, وكأنما تعد الطبيعة لتلك المناسبات الجليلة, أجمل, وأروع ماعندها من آيات, حتي لتشعر بسعادة خافية تداخلك, ونشوة تبعث فيك حب الحياة, وتبدو القرية في دجي الليل, وقد أضاءتها نجوم السماء المتراقصة, وغطاها الجليد, ويلوح المجري وكأنه غسل, ورش بالثلوج البيضاء الناصعة, ليلة العيد, وتبدو سطوح المنازل بيضاء كلها, متألقا حسنها.
ويعود المؤلف لمأساة الطفل في رسالته ذاتها إلي جده: إليك ما حدث بالأمس.. لقد جذبني معلمي من شعري إلي الحوش وضربني علقة لأنني غفوت وأنا أهدهد طفله.. ومنذ أيام طلبت من زوجة المعلم أن أقشر لهم سمكة من نوع الرنجة, فبدأت من الذيل, وأغضبها ذلك, فتناولتها وأخذت تضربني بها علي وجهي. أما العمال فأنهم يسخرونني لقضاء أغراضهم الخاصة, فيرسلونني إلي الملهي الليلي لأشتري لهم الخمر, ويأمرونني أن أسرق الخيار من المعلم, وهو يضربني بما يقع تحت يده! ومع كل هذا فما من طعام.. سوي قطعة من الخبز في الصباح, وخبز منقوع في الماء في الظهر, وقطعة أخري من الخبز في المساء! أما القهوة وحساء الكرنب فهما لسيدي وزوجته. أما أين أنام؟.. ففي الردهة, وينبغي ألا أغمض جفني, إذا بكي طفلهما, لأن هدهدته من شأني, هذه هي حياتي يا جدي.. فهلا أنقذتني, وأعدتني إلي بيتنا القروي, فما عدت أطيق حياتي هنا.. سأصلي من أجلك طوال حياتي.. أستحلفك أن تذهب بي من هنا.. وألا خطفني الموت…!!
حقا أيها الطفل الصغير.. لقد اخترقت عقلي وقلبي..
علي أن المؤلف لم ينه قصته عند هذا الحد, بل لم يتركنا إلا وقد بعث في نفوسنا أملا.. شعاعا في الظلام حينما قال: وبعد ساعة, كان ينام مطبق اليدين (أي الطفل) وقد غمره الأمل, وراح يحلم بالفرن المصنوع من الطوب.. وعلي الفرن جلس جده, مدليا قدميه العاريتين, وراح يقرأ الخطاب للخادمات.. والكلب الداهية يدور حول الفرن, محركا ذيله..!!
عجلة القدر
أما قصة عجلة القدر فهي تنهي إلينا كيف أن معاملات الوالدين للصغار تؤتي ثمارها علي امتداد الزمن, فنحن أمام اثنين من الأشقاء: فينير وجيم, الأول يتمتع بالنجاح والتقدير وحب الوالدين, والآخر لا يملك شيئا من هذا كله.. فماذا كانت النتيجة إذن؟ يقول دون ديفيز: وقبل أن يغادر البهو أخذت عيناه صورة لأخيه جيم معلقة علي أحد الجدران تمثله أيام التلمذة.. فتوقف برهة يتأملها وسرعان ما تواثبت إلي ذهنه ذكريات تعسة أليمة.. ذكريات تلك الأيام التي كان فيها جيم قرة عين أبويه ومحط إعزازهم, وموضع تقدير معلميه وإعجابهم فضلا عن محبة رفاقة كبيرهم وصغيرهم.. تذكر كأشد ما تكون الذكري إيلاما للنفس, كيف لاحت علي أخيه منذ طفولته الباكرة مخايل النجابة وتوقد الذهن وسرعة البديهة, حتي إذا ما بلغ أشده, انعقدت له الأولوية في جميع مراحل تعليمه فاشتد حب أبويه له وافتخارهم به.. وتذكر كيف كان ينظر إلي هذه الهالة اللامعة المحيطة بأخيه نظرة الامتعاض.. ولكنه يذكر اليوم جيدا كيف استحال هذا الامتعاض إلي مرارة عندما لحقه جيم فأصبحا في صف دراسي واحد.. وكيف انقلبت المرارة غلا وحقدا عندما تخطاه جيم وسبقه إلي الدراسة الثانوية.. ويومئذ أهداه أبوه دراجة جميلة مصنوعة من الكروم اللامع ومزخرفة بالمينا والنقوش البديعة, فأزرت بدراجته البالية التي لم تعد تليق بزعامته لفرقة الفتوة المشهورة في بلدته سيباي بشراسة شبابها وضراوتهم وعربدتهم..
وأضاف دون ديفيز: وفي ذات ليلة استبد به سعار الحقد وعصفت به نزوة طاغية من نزوات الشر, فلم ينم ليلته تلك حتي تسلل في جنح الظلام إلي حظيرة الدراجات الملحقة بحديقة الدار حيث حل مسمارا في جهاز التوقيف الفرملة من دراجة أخيه يؤدي حله إلي تعطيل عمل الجهاز… وصحا في صباح اليوم التالي ليمتع ناظريه بشهود نتائج فعلته البشعة الدنيئة.. وهنا انسرحت علي لوحة ذهنه صورة لاتزال إلي اليوم قيد خياله.. صورة يري فيها أباه وأمه الشيخين الفاتيين يذرفان الدمع الغزير علي أثر تلقيهما النبأ الفاجع بأن جيم قرة العين تدهورت به دراجته إلي سفح الجبل, فنقل إلي مستشفي البلدة مصابا بجراح بالغة الخطر.. وفي لحظة جبن خشي أن تفتضح فعلته الشنعاء ففر من البلدة متخذا طريقه إلي المرفأ حيث تسلل إلي سفينة شحن مقلعة إلي كندا. وهنا انغمس في حمأة الجرائم حتي انتهي به المطاف إلي غيابة السجن.
ثم ازداد الأمر تعقيدا عندما علم بأن أخاه ورث تركة أبيه بما يوازي 30 ألف جنيه نلاحظ دلالة هذا الرقم منذ خمسين عاما, وبعد غيبة دامت سنين طوالا قضاها في السجن يقرر الهرب والسطو علي أخيه الذي يعمل مديرا بأكبر مصرف في مدينة سيباي وتكاد خطته تنجح لولا أن رئيس الصيارفة بالمصرف بعد أن صدقه سرعان ما تدارك الأمر عندما نزع قفازه وأشعل سيجارته حيث ظهرت يده كاملة الأصابع, وهنا ظهر عنصر المفاجأة – وكما يقول نجيب محفوظ: المفاجأة حيلة لا قيمتها عندما تقع في موضعها الطبيعي, ولكن عندما تتخذ شعارا وأسلوبا فإنها تفسد بالافتعال, ومن المهم أن تكون المفاجأة نتيجة لإحساس بالدهشة نابع من الحياة نفسها (وطني 19/يونية/1960 ص9), وهذا ما حدث في قصة عجلة القدر حيث نصاب بالدهشة عندما نعلم أن أخاه يده مقطوعة السبابة, فإصبعه هذه ذهبت ضاحية حادث الدراجة الذي وقع له, وقد أسفر التحقيق عن أن يدا عبثت بجهاز توقيف الدراجة ودارت عجلة القدر فإذا اليد العابثة الأثيمة تفضح صاحبها.. وهذه قيمة أخري طرحها لنا المؤلف ألا وهي فلسفة.