طوال حياتي وأنا أرتب لأشياء بعضها تحقق,وهذا ما أعطاني دفعة للاستمرار..حيث حققت أحلامي وأصبحت كاتبا شهيرا..كما أحدثت ثورة في مجال الدراما العربية من خلال بعض الأعمال المتميزة مثل ليالي الحلمية ,والمصراوية..كما كتبت المسرح,الرواية المقالة الصحفية..وأستطيع العيش مستورا من عائد كتاباتي..ولكن هناك حلما لم يتحقق طوال هذه المرحلة الإبداعية وهو الاحتفاظ بصحة جيدة لأنه لايوجد شيء كامل في هذه الحياة.
هكذا قال الكاتب والروائي الراحل أسامة أنور عكاشة في مجلةالمرأة اليومعدد 25 فبراير 2010,أي منذ عدة شهور قبل رحيله إلي عالم الخلود,فمنذ أيام قليلة فقدت مصر,وفقدت الرواية العربية والدراما التليفزيونية الكاتب الروائي والقصصي الكبير أسامة أنور عكاشة عن عمر يناهز 69 عاما بعد صراع مرير مع المرض.
وكانت آخر تصريحات عكاشة الكلمات التي قالها بعد رحيل رفيق دربه الكاتب الكبير محمود السعدني فوصفه بأنهآخر ظرفاء العصر..فهو دنيا كاملة من البهجة والسخرية والفرح..هو قوال مصر بلا منازع..بل أفضل قوال في تاريخنا. وأكثر كلماته تأثيرا عن السعدني كانت:أشعر باليتم الآن من فقده فهو رجل لاتمل جلسته ..وتخرج منها وقد زادت معارفك وخبراتك, وثقافتك,وفوق كل ذلك متعتك..بل تتغير حالتك النفسية للأفضل..وتود ألا تتركه أبدا.
ودعوني أعود إلي منتصف القرن الماضي تقريبا حيث انطلقت الزغاريد وعمت الفرحة منزل التاجر أنور عكاشة بمدينة طنطا عام 1941 لميلاد ابنه أسامة ذلك الابن الذي تلقي تعليمه الابتدائي والثانوي بمدارس كفر الشيخ والتحق بكلية الآداب قسم الدراسات الاجتماعية والنفسية بجامعة عين شمس وتخرج منها عام 1962,وفي تلك السنوات نما إبداع أسامة وبزغت موهبته كبزوغ الشمس في الأفق,فكانت أولي محاولاته في مجال التأليف خلال فترة دراسته الجامعية,ألا أن قيود العمل الذي أخذ يتنقل فيه حالت دون تفرغه الكامل وانطلاق نجمه في سماء الإبداع,إلي أن قرر عام 1982 أن يقدم استقالته من العمل بالحكومة,وأن يحرر معصمه من قيود الروتين والوظيفة وأن يطلق روحه تهيم في دنيا الخيال لتنسج لنا خيوطا من الأحلام والجمال الممزوجة بالواقع وأن يطلق لقلمه العنان متفرغا لعالم الكتابة والتأليف.
قصة حب فاشلة جعلته أديبا وسيناريست
وعن بداياته يصرح أسامة أنور عكاشة لمجلة الإذاعة والتليفزيون عدد 13 فبراير 2010 في حوار أجراه معهسيد المليجيبأن قصة حب فاشلة جعلته أديبا وسيناريست فنراه يقول:ارتبطت بقصة حب مع إحدي زميلاتي في الجامعة..كانت قصة حب عنيفة..كانت الظروف أقوي من مشاعرنا..افترقنا ..شعرت بحرقة..تحاملت علي نفسي..تجاوزت الأزمة ولكن ظلت قصتي بين ضلوعي إلي أن خرجت علي الورق وتحولت إلي حلقات في المسلسلات التي أكتبها وبالأخص مسلسل الحب وأشياء أخري هذا المسلسل هو تجربتي وخبرتي مع الحب.
وتبلورت هذه البداية في نشر أولي مجموعاته القصصية في كتاب يحمل عنوانخارج الدنياعام 1967 وتم إصداره من المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب,وهناك مجموعة قصصية أخري وهي مقاطع من أغنية قديمةعام 1985,وهمس البحرعام .1995 ولم يقف عكاشة عند كتابة القصص القصيرة بل استهواه عالم الرواية فكتب عدة روايات منهاأحلام في برج بابلعام 1973, ورواية منخفض الهند الموسمي عام 2000, ورواية وهج الصين عام 2001, كما قام بتأليف عدد من الكتب منها كتابأوراق مسافرعام 1995 وكتابتباريح خريفيةفي نفس العام,وفي ديسمبر 2008 صدرت روايته الأخيرة سوناتا لتشرينواستقبلها القراء بحفاوة بالغة, وكذا ظل الكاتب والروائي أسامة أنور عكاشة يحاول الإمساك بالتاريخ وأسئلته والمجتمع وألغازه دون أن يتخلي عن الإمتاع والتشويق,وهي سمة الأدب الجيد كما أنه اشتهر أيضا بعاموده الأسبوعي في جريدة الأهرام التي لم يغب عنها طوال عقدين كاملين.
امرأة من زمن الحب
وكانت نقطة التحول الفنية عام 1976 حين دخل مجال الدراما التليفزيونية ليقدم للمشاهد أكثر من أربعين مسلسلا تليفزيونيا نالت شهرة واسعة مثلالمشربية,ضمير أبلة حكمت,زيزينيا,الراية البيضاء,وقال البحر,أنا وأنت وبابا في المشمش,أرابيسك,امرأة من زمن الحب,أميرة في عابدين,السيد أبو العلا البشري,ليالي الحلمية التي قدم فيها انعكاسات الصراعات السياسية علي المجتمع وكيف كانت كل خطوة في السياسة تغير شيئا في المجتمع وتغير نفوس البشر,وأخيرا قدم مسلسل المصراوية الذي يعد آخر أعماله التليفزيونية والذي بث في سبتمبر 2007 ,وحاز علي جائزة أفضل عمل في ذلك العام ويجسد المسلسل تاريخ الشعب المصري منذ عام .1914
أما في مجال السهرات الدرامية فقد كتب عكاشة حوالي خمسة عشر سهرة درامية كان من أهمها تذكرة داود,العين اللي صابت,الشرير,الكمبيوتر, البراءة,مشوار عيد,الملاحظة,الغائب,سكة رجوع,حب بلا ضفاف.إلا أن عالم الأفلام السينمائية لم يقف عكاشة عنده كثيرا فكتب عددا قليلا من الأعمال السينمائية الناجحة لعل من أهمها كتيبة الإعدام,الهجامة,تحت الصفر,دماء علي الأسفلت,الطعم والسنارة,الإسكندراني.
البحر بيضحك ليه
ولأن المسرح أبو الفنون فلم يستطع أن يغفله قلم أسامة أنور عكاشة فكتب العديد من المسرحيات الناجحة منها مسرحيةالقانون وسيادتهلمسرح الفن,ومسرحيةالبحر بيضحك ليهلفرقة الفنانين المتحدين,ومسرحيةالناس اللي في التالتللمسرح القومي ومسرحيةولاد اللذينللقطاع الخاص والتي تدور أحداثها حول الطبقة الفاسدة التي تتمتع بالنفوذ والسلطة والتي تتاجر بكل شيء لتحقيق مصالحها الشخصية بالإضافة إلي ذلك يتناول العرض مشكلات البطالة,والرشوة الجنسية,واغتيال الحرية.
وهذا المبدع حصد العديد من الأوسمة والجوائز أهمها جائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلي للثقافة عام 2002,جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2008, وهذه الجوائز تعبر بصدق عن مسيرة هذا الأديب الذي كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراما ,موضحا.قيمة الحب المذبوح أمام التوحش,معربا عن الهوية التي باتت غير قادرة علي صد الاختراق وعن مافيا الفساد وعن الهم العربي,كما كتب عن أوجاع مصر وعن الاستبداد والمقهورين في الحياة ودق ناقوس الخطر لضياع دور مصر وريادتها بالإضافة إلي كتاباته عن الرأسمالية الجديدة وصراع الأجيال.
همس البحر..رحلة داخل النفس البشرية
في هذه المجموعة القصصية يبحر عكاشة بعيدا في النفس البشرية فيقول في مقدمة الكتاب:فالنفس البشرية مثلها مثل طيبة القديمة وقد أوصد أبوابها في وجه أوديب لايسمح له بالولوج إلي أن يجيب علي السؤال اللغز..ولكن لغز أبي الهول أسهل كثيرا وأيسر مقالا من ألغازنا المستترة في أعماق العقل الباطن وقديما قال سقراط جملته الجامعة المانعة اعرف نفسك وما أشقها من رحلة للمعرفة وما أجدرها بالمحاولة.
وتتكون هذه المجموعة من 33 قصة ومن هذه القصص قصة بعنوانخطابيرسم فيها عكاشة صورة للفساد في المصالح الحكومية حيث يحكي عن خطاب يبدأ بهذه العباراتسيدي المدير العام ستجد هذه الرسالة في بريدك الخاص ذات صباح وتقرؤها بينما تحتسي قهوة الصباحويوضح كاتبها أنه لم يذكر اسمه لأنه لايملك الشجاعة الكافية لذلك,فالخطاب قد يدفع المدير العام إلي التنكيل به واضطهاده وربما التآمر لفصله وإلقائه في الشارع,وعن دافعه لكتابة هذه الرسالة يقول مخاطبا المدير:علي أن أكتب إليك لأضع مرآة الحقيقة أمام عينيك تري فيها نفسك علي حقيقتهاويتابع صاحب الخطاب:أنت يا سيدي وبلا منافس أسوأ رئيس عمل شهدناه طوال سنوات عملنا بهذه المؤسسة وأنت يا سيدي لاتعرف مرءوسيك ولا تجيد الحكم عليهم ودائما تقرب الفاشل وتكافئه وتبعد القادر المتمكن مقياسك الوحيد هو مدي ما يتمتع به الموظف من قدرة علي تملقك وتوفير الخدمات الخاصة لك,إن أمنية واحدة تسكن صدر كل مرءوسيك وتتصدر قائمة أحلامهم أن يصبحوا ذات يوم فيقرأوا خبر استقالتنك أو إقالتك أو نعيك.
سوناتا لتشرين..أم أغنية الخريف
وبسبب عشق الكاتب والأديب أسامة أنور عكاشة للإسكندرية نراه في روايته الأخيرةسوناتا لتشرينيجعل أحداث الرواية تدور في مدينة الإسكندرية في شهر أكتوبر,وعنوان الرواية عنوان صادم للقاريء العادي فلفظه سوناتا تعنيأغنيةولفظة لتشرينتعبير عربيبمعني شهر الخريف,وبطل الرواية هنا صحفي مخضرمأشرفتولي رئاسة تحرير صحيفة كبري ثم ما لبث أن قدم استقالته بعد يوم واحد من توليه المنصب واختفي في ظروف غامضة ستتكشف تدريجيا للقاريء,وفي نفس الوقت هناك صحفية شابةميريتيجمعها القدر وهي في إحدي مهامها الصحفية بالإسكندرية مع ذلك الصحفي الذي يربطهما علاقة من نوع ما,ويكتشف أشرف أن شغفها به لاينبع من الحب أو الإعجاب بقدر ما ينبع من شغفها بمعرفة تفاصيل اختفائه المثيرة لتفوز بسبق صحفي فيقرر أشرف أن يعطيها ذلك الظرف المليء بالأسرار لتعود به إلي القاهرة وتنشر منه ما تريد وهنا يتكشف لنا أسرار صعود وانهيار ذلك الصحفي المخضرم ,حيث يتضح للقاريء أن أشرف وقع فريسة في شبكة من الفساد المغزول من خيوط السلطة والمال,وهذا الفساد جاءه الوقت الذي يريد الخلاص من هذا الصحفي ليس بالقتل حتي لايصنع منه بطلا ولكن بتحويله أمام قرائه إلي كاتب مبتز ومساوم حقير.
وتعود الصحفية إلي الإسكندرية للوقوف بجانبه فلا تجد غير رجل أصبح يعيش علي هامش الحياة ولم يعد يملك ترف الاختيار,فتكون نهاية الحدوتة وسماء تشرين تنذر بأمطار وشيكة,وفي هذه الرواية يناقش أسامة أنور عكاشة فكرة مصائر البشر الذين يداهمهم مطر وعواصف الشتاء في تشرين فلا يأتيهم بعد ذلك الربيع كما هو طبيعي وإنما الخريف..والخريف وحده فقط!