منذ أيام وقفت سيدة-بمفردها-أمام مجلس الشعب تتظاهر ضد الغلاء,والأسعار. هذه ليست المشكلة,ولكن القضية الأكبر أن السيدة المحتجة أكدت أنها لم تعد معنية بالسياسة,وليست مشغولة بما يجري في المؤسسات السياسة,فقط تريد لقمة العيش.
يؤكد هذا الموقف الافتراض الذي يردده كثير من المثقفين,وفي مقدمتهم نبيل عبد الفتاح,أن السياسة ماتت في المجتمع.النضال من أجل الوجبات الثلاث حل محل الجدل حول القضايا السياسية.بقول آخر لم يعد الناس يهتمون بالديموقراطية قدر اهتمامهم بالقوت اليومي.في الدول الديموقراطية ترتبط السياسة بالحياة المعيشية اليومية.أما في المجتمعات النامية سياسيا,مثل مجتمعنا,مجريات السياسة تختلف عن حال الناس.ذكرني ذلك بمقال مهم للكاتب الأمريكي اللامع فريد زكريا,الذي خلص فيه إلي أن الشعوب العربية لا تحتاج إلي الديموقراطية,بل تحتاج في المقام الأول إلي محاربة الفساد.رأيه أن سياط الفساد تلهب ظهور الناس كل يوم,في صورة شراء سلعة أكثر من ثمنها,والحرمان من خدمة يحتاجها الشخص,أو عدم الحصول علي فرصة عمل لغياب الواسطة,كل ذلك يحتاج إلي علاج.أما الديموقراطية فلاتزال ترفا في المجتمعات العربية.ويخلص الكاتب إلي أن مكافحة الفساد,وإرساء دعائم حكم رشيد يقوم علي المساءلة والشفافية والإصلاح الإداري قد يكون أكثر أهمية للمجتمعات النامية سياسيا واقتصاديا من الديموقراطية.
رأي فريد زكريا له وجاهته.بالطبع لا أحد ينكر خطورة الفساد في التهام الأصول العامة للمجتمع,والتي تتسم بندرة نسبية.فقد تحول الفساد إلي أداة لتسيير الحياة اليومية من خلال تحريك تروس البيروقراطية المتكلسة,وشراء الولاء,وتجنيد التابعين,وحشد الأنصار,وبناء قاعدة التأييد,وخدمة المصالح الضيقة,ويتسبب الفساد -بالضرورة-في إحداث فجوة حقيقية بين الأغنياء والفقراء في المجتمع,وهو ما يؤدي إلي ارتفاع مستوي التوتر الاجتماعي,ولجوء بعض الفئات إلي العنف والجريمة.ولكن الفساد يترعرع في مناخ سياسي مترهل يخلو من المساءلة والشفافية,ويسوده الغموض,وتفترسه ثقافة إدارية وسياسية غير ناهضة,وقيم سلبية ضد كل ما هو حديث في المجتمع.وفي ظل غياب الحكم الرشيد تتجه السلطة أكثر فأكثر إلي التركز في يد شخص أو حفنة صغيرة من الأشخاص,لا تخضع للمساءلة,ولا تعرف شيئا عن الصالح العام.كل ما يهمها تحقيق صالحها الخاص,الذاتي,الضيق,الأناني كل ذلك يجعل أداء الجهاز الإداري,قوات الأمن,والمحاكم وغيرها.المحاكم لا تصدر أحكاما إلا متأخرة,والشرطة لا تنفذ هذه الأحكام.المسئولون عن الضرائب-يفضلون الرشوة-بدلا من تحصيل الضرائب المقررة.
من هنا فإن الحصول علي لقمة العيش تحتاج إلي مكافحة الفساد,وحتي نستطيع أن نكافح الفساد بشكل كفء نحتاج إلي بيئة ديموقراطية تقوم علي المساءلة والشفافية والنزاهة الانتخابية.الحلقات مترابطة,ولا مجال للفصل بينها.السيدة التي ذكرت أنها غير منشغلة بالسياسة ولكن بلقمة العيش,سوف تنشغل بالسياسة حتما لو عرفت أن الحصول علي الغذاء يرتبط بالحصول علي الحرية السياسية. وإن لم نجعل هذا الارتباط حاضرا,فسوف تظل السياسة في حالة موات مؤقت.