أصبت بدوار وبغصة في حلقي بعد أن أنهيت قراءة رواية شيكاجو للكاتب الفذ علاء الأسواني وهو الذي قدم من قبل رائعته عمارة يعقوبيان والتي تحولت إلي فيلم ناجح جدا.
وسبب الدوار والغصة التعرية الفاضحة لسلوكنا نحن المسلمين مع أشقائنا في الوطن الأقباط.. فعلي الرغم من معرفتي بالكثير من هذه السلوكيات غير السوية إلا أن تعريتها صفعتني بقسوة.. فالكاتب يلقي بمسئولية تضميد الجراح علي كاهل القارئ المسلم, وهذه بالضبط مسئولية جريدة وطني التي تسعي بغير كلل لأن يتفهم المسلمون حقيقة المشكلة وأن يستيقظ الحس الوطني فيتقدم الصفوف صفوة المثقفين والأدباء لحمل هذه الأمانة لأن شهادة المسلم أكثر مصداقية وخالية من الهوي وأقرب لفهم المسلم الآخر.
ويسعدني أن تحمل اليوم طلائع كثيرة من المثقفين والأدباء المسلمين هذه الرسالة في مقالاتهم ورواياتهم كما فعل علاء الأسواني في هذه الرواية, والكاتب الملهم الرائع خالد الخميسي في رواية تاكسي – حواديت المشاوير.
ولا أجرؤ أن أقدم هنا نقدا لرواية شيكاجو فالنقد الأدبي له فرسانه.. ولكني أسجل مقطعا واحدا لأحد أبطال القصة وهو الدكتور كرم دوس.
تقول الرواية:
قضي ناجي عبدالصمد طالب الدراسات العليا في أمريكا سهرته في بيت أستاذه الدكتور جراهام بدعوة منه, وكانت سهرة رائعة, وفجأة سمع جرس الباب الخارجي, وبعد قليل وقف وسط الحجرة رجل مصري يناهز الستين جسده رياضي فارع ممشوق, وشعره أبيض وملامحه قبطية خالصة, وعيناه واسعتان مفعمتان بالذكاء والحزن وكأنه خرج لتوه من إحدي لوحات معرض وجوه الفيوم.
قال جراهام: هذه مفاجأتي لك الليلة.. صديق مصري مثلك. أقدم لك صديقي كرم دوس.. واحدا من أمهر جراحي القلب في شيكاجو. ورحب الدكتور كرم بناجي.
بدا كرم من الوهلة الأولي معتزا بنفسه وأنيقا للغاية, وحول رقبته سلسلة سميكة من الذهب تحمل صليبا يغوص في شعر صدره الكثيف الأبيض.
وبعد الحوار في موضوعات عامة سأله ناجي وهو يبتسم بود: هل تعلمت الطب في أمريكا؟.. قال كرم: أنا خريج طب عين شمس.. لكنني فررت إلي أمريكا هربا من الاضطهاد! قال ناجي متفاجئا: الاضطهاد؟
قال كرم: نعم في أيامي كان رئيس قسم الجراحة العامة الدكتور عبدالفتاح بلبع, مسلما متشددا يجاهر بكراهيته للأقباط.. كان يؤمن بأن تعليم الأقباط الجراحة لا يجوز في الإسلام لأنه يمكن الكفار من التحكم في حياة المسلمين!
قال ناجي: المصريون جميعا مضطهدون.. النظام في مصر مستبد وفاسد ويضطهد الجميع مسلمين وأقباطا.. بالطبع تحدث حوادث تعصب فردية لكنها لا تمثل ظاهرة.. إن التعصب الديني نتيجة مباشرة للكبت السياسي.. أنا مثلا مسلم لكنهم رفضوا تعييني في جامعة القاهرة بسبب نشاطي السياسي. هناك مشكلة مصرية ومعاناة الأقباط جزء منها.
قال كرم متحرشا: من السهل علي مصري مسلم مثلك أن يؤكد أن كل شئ تمام.. هل تنكر أن هناك مشكلة قبطية؟.. الأقباط يتم تجاهلهم في كل المناصب العليا للدولة. ويجري اضطهادهم وقتلهم أيضا.. هل سمعت عما جري في قرية الكشح؟ لقد تم ذبح عشرين قبطيا أمام أعين الشرطة ولم يتحرك أحد لإنقاذهم.
قال ناجي: هذه مأساة محزنة بالطبع.. لكنني أذكرك بأن المصريين يموتون يوميا علي أيدي الشرطة من شدة التعذيب ولا يفرقون بين مسلم وقبطي, ولا أري مشكلة الأقباط بشكل منفصل عن مشكلة مصر.
قال كرم: أنت تتبع الطريقة المصرية في إنكار الحقيقة, فالمصري كالنعامة يدفن رأسه في الرمل حتي لا يري الشمس, كما أن المصريين مسئولون عن النظام, وهم بطبيعتهم أميل إلي الإذعان والخضوع.
قال ناجي: يدهشني أن تقول هذا الكلام وأنت مصري؟
قال كرم: كوني مصريا لا يمنعني من ذكر العيوب, أما أنت فتعتبر أن ترديد الأكاذيب واجب وطني.
قال ناجي: أنا لا أردد أكاذيب, وأرجو أن تعتني بانتقاء ألفاظك. إنك هربت من مصر ولا يحق لك الكلام عنها. تركت بلدك الفقير البائس من أجل حياة مريحة.. تذكر أنك تعلمت بالمجان علي حساب هؤلاء المصريين الذي تحتقرهم الآن لتكون مفيدا لبلدك يوما ما.
قال كرم: لم أسمع أغبي من هذا الكلام. وتمتم ببعض الشتائم, واندفع ناحية ناجي رافعا قبضته. وتدخل جراهام لفض الاشتباك.
قال ناجي: دكتور جراهام.. أنا لا أقبل أن يهين أحد بلادي.. سأنصرف لأني لو انتظرت لحظة واحدة سأضربه.
استدار ناجي ليخرج, وبينما يعبر الردهة سمع كرم يصيح: بل أنا الذي سيحطم رأسك.. يا وقح شتائم.
****
يعود بنا علاء الأسواني إلي سنوات طويلة مضت عندما عرف المعيد كرم عبدالملاك دوس برسوبه للمرة الثانية في امتحان الماجستير. توجه من فوره لمقابلة الدكتور عبدالفتاح بلبع, رئيس قسم الجراحة في طب عين شمس. وقال له سكرتيره إن عبدالفتاح بك ذهب لأداء صلاة العصر في المسجد وسيعود بعد قليل.. فانتظره. انفتح الباب وظهر الدكتور بلبع بقامته الضخمة وملامحه الصارمة ولحيته الخفيفة والمسبحة الكهرمان التي لا تفارق يده. هب كرم واقفا, واقترب من أستاذه الذي تفحصه بنظرة مستريبة ثم سأله بما يشبه الانزعاج: خيرا يا خواجة؟. وصحب كرم إلي حجرته.
كان الدكتور بلبع يستعمل لقب خواجة في الحديث إلي الأقباط جميعا من الأساتذة حتي الفراشين, وكانت هذه الدعابة الظاهرة تخفي احتقاره العميق لهم. استجمع كرم شجاعته وقال: أريد أن أعرف لماذا رسبت في الامتحان؟ كل إجاباتي صحيحة, وممكن نراجع ورقة الإجابة إذا سمحت.
قال الدكتور بلبع: حتي لو كانت إجاباتك كلها صحيحة فأداء الامتحان لا يكفي وحده للنجاح, ولائحة الجامعة لا تلزمنا يا خواجة. نحن نختار من يستحق الدرجة العلمية. اسمع يا كرم.. سأكلمك بصراحة, لقد تم تعيينك في القسم قبل أن أرأسه, ولو كان الأمر بيدي لما وافقت علي تعيينك. أنت لن تكون جراحا. حاول في قسم آخر وسأتوسط لك بنفسي.
صاح كرم بمرارة: سيادتك تظلمني لأني قبطي! رمقه الدكتور بلبع بنظرة صارمة, ثم نهض قائلا بهدوء: المقابلة انتهت يا خواجة.
تلك الليلة لم يذق كرم طعم النوم, أغلق علي نفسه حجرته, ومع مرور الوقت كان يتزايد توتره. طلع الصبح علي كرم وتوجه إلي السفارة الأمريكية حيث تقدم بطلب الهجرة.
****
ترك ناجي منزل أستاذه جراهام في حالة كرب شديد بعد صدامه مع كرم دوس. واستيقظ في اليوم التالي الساعة الرابعة عصرا وهو يعاني من صداع قاتل ويجتر أحداث الليلة الماضية. كان غاضبا جدا من كرم دوس وفي نفس الوقت يشعر بحرج شديد لما سببه لأستاذه جراهام وكان يمكنه ببعض الحكمة أن يتجنب الموقف برمته.
صنع لنفسه كوبا من القهوة.. انتبه علي جرس الباب, قام ببطء ونظر في العين السحرية وظل مبهوتا للحظة. إنه يري آخر شخص يتوقع زيارته.. الدكتور كرم دوس. ابتسم كرم وقال: آسف لإزعاجك يا ناجي.. تسمح لي أدعوك إلي فنجان قهوة في أي مكان.
رأي ناجي وجه كرم في ضوء الردهة الخافت مرهقا شاحبا, وبدا أنه لم ينم منذ الأمس ولم يغير ملابسه حتي أنها بدت مجعدة متسخة قليلا.. قال ناجي: إذا كان الأمر يتعلق بما حدث بالأمس فقد نسيته. قال كرم: لا.. الموضوع أكبر! أرجوك.. هيا بنا ولن أؤخرك طويلا.
جلس ناجي إلي جوار كرم في سيارته الجاجوار الحمراء الفاخرة.. وأحس أنه بطل في فيلم أجنبي. دخلا إلي مبني أنيق يسبح في إضاءة خافتة, وجلسا علي مائدة مستديرة. كانا يتحاشيان النظر إلي بعضهما وكأنهما فجأة تذكرا المشاجرة.. وقال كرم: أنا آسف يا ناجي. قال ناجي: بل أنا الذي أخطأت في حقك.
كان كرم يحمل حقيبة صغيرة في يده.. وضعها أمام ناجي وقال: هذا شئ أريدك أن تقرأه. كانت بعض الأوراق مكتوبة باللغة العربية مكتوب فيها مشروع مقدم من الدكتور كرم دوس أستاذ جراحة القلب المفتوح بجامعة نورث ويسترن إلي كلية الطب بجامعة عين شمس.
قاطع كرم قراءة ناجي وقال: أنا الآن اسم كبير في جراحة القلب, أتعابي عن العملية الواحدة كبيرة جدا.. ومع ذلك عرضت علي المسئولين في طب عين شمس أن أجري العمليات مجانا لمدة شهر كل عام.. كنت أريد أن أساعد المرضي الفقراء وأنقل إلي مصر تقنيات الجراحة المتقدمة. أكثر من ذلك.. قدمت لهم مشروعا لإنشاء وحدة جراحة حديثة, لم تكن ستكلفهم شيئا لأني كنت سأحصل لهم علي دعم مالي عن طريق علاقاتي الجيدة بالجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية. لم يردوا علي رسالتي, وعندما اتصلت بعميد طب عين شمس شكرني وقال إن فكرتي غير قابلة للتنفيذ حاليا.
واستطرد كرم: لم أحك هذه القصة لأحد لكنك يجب أن تعرفها لأنك بالأمس اتهمتني بالهروب من مصر.. أرجوك أن تكف عن الاعتذار يا ناجي.. أريدك فقط أن تعرفني علي حقيقتي. خلال ثلاثين عاما عشتها في أمريكا لم أنس مصر يوما واحدا. كل نجاح خارج الوطن بلا طعم ويظل ناقصا. وكان المشروع الذي قدمته خطوتي الأولي للرجوع. أحب مصر وأتمني أن أقدم كل ما لدي من أجلها. وبدأ صوته يتهدج ولمح ناجي أن عينيه تترقرقان بالدمع وهو يقول: مصر ترفضني يا ناجي.
اندفع ناجي نحوه وأحاطه بذراعيه وانحني علي رأسه يقبله. قال كرم إنه سينصرف لأن لديه عملية في السابعة صباحا. تابعه ناجي وهو يختفي عبر الباب. قال لنفسه: إني أحب هذا الرجل, ويجب أن أتروي بعد ذلك في الحكم في الناس.
****
بعد يوم من العمل المجهد مد الدكتور كرم يده ليغلق باب مكتبه وينصرف سمع فجأة صوت الفاكس.. عاد وأضاء المصباح ونزع الورقة من الجهاز فقرأ ما يلي: من مكتب وزير التعليم العالي في مصر.. إلي البروفسور كرم دوس مستشفي نورث ويسترن شيكاجو: لدينا أستاذ جامعي مريض يحتاج علي وجه السرعة والضرورة إلي إجراء عملية لتغيير عدة شرايين.. برجاء الإفادة إن كان يمكنكم قبوله لديكم في أقرب فرصة.. برجاء سرعة الرد حتي نتمكن من اتخاذ الإجراءات اللازمة. اسم المريض: الدكتور عبدالفتاح محمد بلبع.
حدق كرم في الفاكس ما يقرب من دقيقة. وكلم نفسه بصوت مسموع.. ها هو الرب يرد إليه حقه. الرجل الذي قال له يوما إنه لا يصلح للجراحة وقضي علي مستقبله في مصر وحكم عليه بأن يعيش حياته منفيا.. يمرض ويتوسل إليه أن ينقذ حياته!! لن يجري العملية لبلبع. كلنا سنموت في النهاية.. سوف يعتذر ويكون اعتذاره باردا ومتعاليا إلي أقصي حد. بدأ يكتب الخطاب علي الكمبيوتر: البروفسور كرم دوس لن يستطيع إجراء العملية للمريض بلبع لأن جدوله مزدحم بالحالات الحرجة لشهور قادمة وليس لديه مكان لمريض جديد.
فجأة نهض من مكانه.. وقف مترددا في وسط الحجرة, ثم تقدم بخطي بطيئة نحو الصليب.. ركع وأخذ يرتل أبانا الذي في السماوات صلي بخشوع عميق وهمس بصوت متهدج: يا أبتاه, ليس كمشيئتي بل كمشيئتك, لأن لك الملك والقوة والمجد إلي الأبد. آمين. ظل راكعا مغمض العينين فترة, ثم قام وفتح عينيه وكأنما صحا من النوم. وجد نفسه يمحو ما كتبه ويبدأ صيغة أخري:
من كرم دوس إلي مكتب وزير التعليم العالي: البروفسور عبدالفتاح بلبع كان أستاذي خلال دراستي في كلية طب عين شمس. سأبذل كل ما بوسعي لإنقاذ حياته. اتخذوا الإجراءات ليأتي في أقرب فرصة. التكاليف ستقتصر علي تكاليف المستشفي لأنني متنازل عن أجري من العملية تقديرا لأستاذي…… طبع الخطاب وأرسله بالفاكس.
قالت له كاترين أقدم ممرضة في الفريق وهي تهنئ الدكتور كرم بعد العملية التي كان يجريها للدكتور بلبع: لم تكن ناجحا فقط يا سيدي.. كنت ملهما.. أحسست اليوم أنك تجري الجراحة بحنان بالغ كأنك تعالج قدم أبيك أو تعدل من وضع رأسه وهو نائم.
قال الدكتور كرم بعد أسبوع من الجراحة جملته المأثورة للمرضي: خلال بضعة أشهر سيكون بمقدورك الاشتراك في مباراة كرة.
أمسك بلبع بيد كرم فجأة وقال بصوت واهن: لا أعرف كيف أشكرك يا دكتور كرم.. أرجوك سامحني!
كانت هذه أول إشارة لماضيهما المشترك. ارتبك كرم ثم أمسك بيد أستاذه برفق وكاد أن يقول شيئا.. لكنه اكتفي بابتسامة مرتبكة وأسرع خارجا من الحجرة.
****
** الذي يسعدني في هذه الرواية – رغم أنها عذبت ضميري وأوجعت آدميتي – أنها أسعدتني بوجود طلائع من المفكرين والأدباء المسلمين أخذوا مبادرة الدعوة للمواطنة الكاملة لكل المصريين. تعالوا معا نفتح دفاترنا كما فعل الدكتور كرم دوس ونسير معا عبر النفق الطويل المظلم وفي أيدينا مشاعل التنوير تضئ الطريق.. فهناك في نهاية النفق أنوار ساطعة مبهرة بالإخاء والأمان والحب.