مؤلف هذا الكتاب هارولد آيدرس بل أستاذ علم البرديات بجامعة أكسفورد قضي حياته عاكفا علي دراسة الوثائق اليونانية واللاتينية الخاصة بتاريخ مصر من عهد فتح الإسكندر الأكبر حتي دخول العرب مصر عام 641م فنشر مئات من أوراق البدري وكتب كثيرا من البحوث العلمية درست في الجامعات بمختلف دول العالم.
أما أهم ما جاء في هذا المؤلف المهم بالنسبة لانتشار المسيحية في مصر فهو مقسم إلي أجزاء كالتالي:
* أولا: مصر في عهد الإسكندر الأكبر: ظلت مصر دولة مستقلة خلال فترة طويلة من القرن الرابع ق.م, ولم يستطع الفرس خلع آخر فرعون وطني إلا قبل وصول الإسكندر بعشرة أعوام. وعندما أدرك الوالي الفارسي مازاكيس عبث المقاومة استسلم دون قتال في خريف 332ق.م ودخل الإسكندر منف Manphis ونهج نهجا يختلف تماما عن نهج الفرس فقدم ولاءه للآلهة الوطنية, ومن منف اتخذ الإسكندر طريقه في الفرع الغربي للنيل قاصدا كانوب Canopus حيث شيد فوق شريط من الأرض الرملية يقع بين بحيرة مريوط والبحر المتوسط مدينة تحمل اسمه هي مدينة الإسكندرية وقام المهندس الرودسي دينوكراتيس Dinocrates بوضع تصميم المدينة الجديدة وفقا لأحدث القواعد في فن تخطيط المدن, وسرعان ما أصبحت المدينة أعجوبة العالم لاسيما بعد أن غدت عاصمة البلاد بدلا من منف, وكانت ترتفع فوق جزيرة فاروس. ويقول العالم W.L.Westernans في مؤلفه: The History Of Ancient Alexandria إنه أقيم في الإسكندرية مكتبة ضخمة تحتوي علي ما يقرب من نصف مليون لفافة بردي. وقد صدر في عهد بطليموس الثالث أمر يقضي بأن كل مسافر ينزل ميناء الإسكندرية عليه أن يسلم أي كتب توجد بين متاعه لضمها إلي المكتبة أو يعطي نسخة رسمية بدلا منها.
* ثانيا: الإسكندرية كمركز للمسيحية: شهدت مدينة الإسكندرية في عهد البطالمة ترجمة التوراة إلي الإغريقية, فأصبحت خلال القرنين الثاني والثالث للبلاد مركزا للفكر المسيحي بسبب وجود الأكاديمية والمدرسة اللاهوتية الكبري بها والتي علا شأنها في عهد بنتانيوس Pantaenus, وأسهمت عن طريق علمائها بنصيب كبير في التوفيق بين الديانة المسيحية والثقافة الإغريقية.
دخلت المسيحية مصر علي يد كاروزها القديس مرقس الرسول الذي قصد مصر عن طريق الصحراء الغربية فمر أولا ببعض بلاد الوجه القبلي, ومنها إلي بابليون, أقام بها حتي سنة 58م, ثم غادرها إلي الإسكندرية في سنة 61م وأخذ يبشر بالمسيحية هناك فآمن بدعوته عدد كبير من الرجال والنساء, وأول من قبل البشارة إسكافي اسمه إينانوس.
* ثالثا: تأسيس المدرس اللاهوتية الكبري بالإسكندرية: أسسها مرقس الرسول في أوائل سنين كرازته وكانت تدرس مبادئ الديانة المسيحية علي طريقة السؤال والجواب, علي أن نطاقها اتسع بعد ذلك وصارت تهتم بالعلوم والآداب والفلسفة, توالي علي رئاسة هذه المدرسة في سنواتها الأولي علماء منهم يسطس, تولاها في أواخر سني مرقس الرسول, ثم أومانيوس, ومركيانوس, بنتينوس, أكلميندس, أوريجانوس. وقد قامت هذه المدرسة بدور كبير في نشر الديانة المسيحية والفكر المسيحي في سائر أنحاء المسكونة.
* اضطهاد المسيحية في مصر: عانت الكنيسة القبطية في مصر الكثير من الاضطهادات التي لم تتعرض لها كنيسة أخري في العالم, من قياصرة الرومان وولاتهم علي مصر, بسبب زيادة انتشار المسيحية وتأثيرها السلبي علي الديانة الوثنية. فاعتبرت المملكة الرومانية الديانة المسيحية ديانة غير شرعية مما عرضها للعديد من الاضطهادات التي وقعت علي الأقباط من منتصف القرن الأول .م إلي أوائل القرن الرابع م. عشرة اضطهادات أشهرها الاضطهادات الأربع الآتية:
* اضطهاد نيرون سنة 64م: وكان سببه أن نيرون بعد ما أحرق مدينة روما اتهم المسيحيين بهذا الحريق فتفنن الرومان في تعذيب المسيحيين. كما أمر نيرون بقتل الرسل بطرس وبولس ومرقس وعذب المسيحيين عذابا شديدا.
* اضطهادات تراجان سنة 106م: حيث أمر تراجان بمنع الاجتماعات السرية, ولما كان المسيحيون قد جرت عادتهم بأن يجتمعوا للصلاة في الخفاء هربا من الاضطهاد, فقد وقعوا تحت طائلة القصاص والتعذيب.
* اضطهاد ديسيوس سنة 249-253م: في أثناء هذا الاضطهاد نفي أوريجانوس وديونسيوس أسقف الإسكندرية ولجأ بسببه إلي الصحاري الكثير من المسيحيين بينهم شاب اسمه بولا, وهو الذي صار الناسك الأول في الصحراء.
* اضطهاد دقلديانوس سنة 284-303: حيث أمر هذا الإمبراطور بهدم جميع الكنائس وإحراق الكتب الدينية وأصدر ثلاثة مراسيم متتابعة بالقبض علي الأساقفة الرعاة وزجهم في السجون وأجبر المسيحيون علي إنكار إيمانهم, واستشهد في هذا الاضطهاد ما يزيد علي ثمانمائة ألف, ونتيجة لما تعرض له المسيحيون من عذاب جعل أقباط مصر تقويمهم مبتدئا من سنة 284م وهي السنة التي ارتقي فيها دقلديانوس العرش واعتبرها الأقباط السنة الأولي للشهداء. ومن أهم ما كتب ترتوليان Tertullianus لقد نبتت الكنيسة القبطية في مصر من أرض روتها دماء الشهداء. ويذكر أيضا: ينبغي أن نذكر كذلك أن الكنيسة القبطية لم تكن تحيي ذكري الشهداء فقط, وإنما كانت تحتفي أيضا بالمعترفين المسيحيين هؤلاء الذين كانوا علي استعداد لمواجهة خطر الموت رجالا كانوا أم نساء. ويسجل هارولد آيورس بل أستاذ البرديات بجامعة أكسفورد ومؤلف هذا الكتاب: إنه جاء في الأوراق البردية أن التعذيب الذي لاقاه أقباط مصر لم يأت بالنتيجة التي فكر فيها الرومان وإنما أدي إلي زيادة انتشار المسيحية وتمسك الناس بها. وجاء في بردية أخري أن مصر في عام 330م أصبحت بلدا يدين غالبية أهله بالمسيحية, وفي بردية ثالثة ذكر أنه حدث في الثلاثين من شهر أبريل عام 311م أن أصدر جاليريوس – وكان يعاني من مرض مستعصي – إقرارا بوقف الاضطهاد لأقباط مصر ملتمسا من المسيحيين جميعا في أنحاء الإمبراطورية الرومانية أن يصلوا من أجله, ولقد استجابوا له.
* المسيحية ديانة رسمية:
لم ينقطع الاضطهاد تماما لكنه كان متقطعا إزاء سياسة التسامح التي انتهجها كل من قسطنطين Costantins وماكسنتوس Maxantus, وفي عام 312م قص قسطنطين الكبير بنفسه رؤياه الشهيرة علي مؤرخ الكنيسة يوسابيوس القيصري 264-340م فقد رأي صليبا علي قرص الشمس وعليه عبارة Hoc Vince أي بهذا أنتصر. وفي عام 313م أصدر وحليفه ليكينوس Licinuis مرسوم ميلان الشهير الذي أقر مبدأ التسامح الديني, وفي عام 323م عقب انتصاره علي ليكينوس أصبحت المسيحية ديانة الإمبراطورية الروماينة الرئيسية ثم الديانة الرسمية الوحيدة في جميع أرجاء الإمبراطورية, وقد اهتم الإمبراطور قسطنطين بحل النزاع الذي أثارته بدعة آريوس بعقد مجمع مسكوني في مدينة نيقية حيث وقف أوسابيوس القيصري سكرتير المجمع وألقي خطابا افتتاحيا ورد فيه: أيها الملك العزيز الشكر لله العلي الذي أعطا له الملك الأرضي, وأنارك بنور الديانة المسيحية, حتي هدمت أماكن الأصنام, وشيدت الهياكل المسيحية لعبادة الإله الحقيقي…