يعيش علي أرض مصر شعب واحد يتكون من أغلبية تدين بالإسلام وأقلية مسيحية، وهذه الأقلية لا تمثل أقلية عرقية أو سلالية (أثنيه) أو لغوية وهو الأمر الذي ميز شعب مصر بدرجة عالية من التماسك (Social Cohesion) أو التكامل والاندماج الاجتماعي (Social Integration) علي أن هذا لا يعني أن العلاقات بين المسلمين والأقباط قدخلت في هذه الحقبة أو تلك بين الاحتكاك وأحيانا بين الصراع، ولكن لم يؤدي أي من هذه الصراعات إلي العزل أو الانعزال
وقد أسهمت مشروعات بناء دولة حديثة في العصر الحديث في صياغة نموذج متقدم للتكامل بين المسلمين والأقباط خصوصا في عصر دولة محمد علي باشا، مما أدي إلي تولي اثنان من الأقباط منصب رئيس وزراء مصر سنة 1908 وسنة 1919، وتولي قبطي رئاسة مجلس النواب.
وجاءت ثورة سنة 1952 ومعها التيارات الفكرية المتعاركة ومنها التيار الإسلامي الاصولي المتطرف الذي أشتد بأسه بهجرة العمالة المصرية وأغلبها من المسلمين إلي الجزيرة العربية، وعودة 2 مليون عامل وموظف و فني ومهني إلي مصر من الجزيرة العربية حاملين الأفكار والعادات الاصوليه الإسلامية الوهابية، وبذات الوقت هجرة مليون مصري أغلبهم من المسيحيين إلي بلاد الغرب التي تساند الفكر العلماني الديمقراطي العصري، وهذا كله أدي إلي التغيير الاجتماعي في تركيبة الشعب المصري. وفي خط مواز لهذا التغير مارست السلطة والدولة والحكومة بعد ثورة سنة 1952 سياسة فكرية وعمليات التفرقة أدت إلي تقويض حقوق الأقلية المسيحية في مصر، مما أدي إلي صدمات شعبية بين المسلمين والأقباط تتكرر سنويا بدون حلول حاسمة من الدولة. وقد كان السبب الرئيسي لهذه الصدمات هو القواعد والعرف السائد لمنع بناء الكنائس في مصر، والرقابة الأمنية علي بناء الكنائس، وباقي الحقوق المنتقصه مثل تهميش التمثيل القبطي في المجالس المحلية والشعبية والنيابية وتخطي الأقباط في الوظائف العامة والجيش والشرطة وجهات الأمن والقضاء والخارجية والجامعات، مع استمرار التمييز ضدهم خلال خمسة عقود أدي إلي انعدام وجودهم في كثير من القطاعات العامة للدولة. كما شملت مناهج التعليم المدرس والجامعي خصوصا القطاع الأزهري منه عدم احترام العقائد الأخرى والتشكيك في الكتاب المقدس والتحقير بالأقليات، وأخذت الصحافة والنشر والأعلام المرئي والمسموع نفس المنهاج.
ولابد أن نشير أن الدولة والحكومة والمسئولين الكبار ومعهم الكثير من المستنيرين من المسلمين قد بدأو في السنوات الأخيرة فى تدعيم حقوق الأقلية لتحقيق المواطنة في مصر. قد بدأنا ولكن ببطئ.
ماذا نفعل وماذا سيحدث
إن مستقبل التعايش بين الأقباط والمسلمين يعتمد علي ثلاثة محاور:
أولا: أن تدعم الدولة والحكومة المواطنة بقوانين تنفيذية لا تسمح بإهدار حق أي مواطن وإصدار التوجهات نحو رفع التميز والتهميش ضد المسيحيين في كل القطاعات.
ثانيا: العمل علي تهدئه الاحتقان الشعبي بين المسلمين والمسيحيين بتفعيل المواطنة والإصرار علي أن ينال كل مواطن حقوقه المدنية والدستورية وممارسه حرية إقامة الشعائر الدينية. وهذا العمل المكثف تحتاجه المناطق الشعبية والعشوائية والقرى والنواحي، ويحتاج هذا العمل سنوات عدة لتغيير المفاهيم الغير حضارية والخاطئة، وتربية أجيال جديدة تحترم الآخر وتسمح بالاندماج الاجتماعي والانصهار في المواطنة كما عهدناه في النصف الأول من القرن العشرين. نحتاج لعمل مضني في التعليم والإرشاد الديني والأحزاب والمحليات ودور العبادة والصحف والكتب والمجلات والإذاعة المسموعة والمرئية والفضائيات، أي إعادة تثقيف الشعب بأكمله.
ثالثا: التأكيد علي وطنية الكنيسة القبطية المصرية الارثوذوكسية الشرقية، بالشواهد التاريخية والمواقف الوطنية لرئاسة الكنيسة، وذلك لفصل المؤثرات العالمية المحيطة بقضايا الشرق الأوسط والخليج والسودان ولبنان عن العلاقة بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية في مصر. أن الكنيسة القبطية لا علاقة بها دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا بالمعتقدات المتطرفة لبعض الطوائف المسيحية الغربية وتأكيد فصل الظروف الدولية عن علاقة أبناء الوطن الواحد.
وللدولة دور رئيسي في المحاور الثلاثة عاليا. ويمكن للدولة توجيه الفكر الاجتماعي الشعبي إلي ما هو في صالح مصر وأبنائها، وإلا سنشهد في العقود القادمة مزيدا من الاحتقان الشعبي والانسلاخ الاجتماعي والانعزال، فنجد الأقباط أكثر ارتباطا داخل كنائسهم، والمسلمين أكثر إلتفافا حول أصحاب المعتقدات الخارجية المتطرفة مثل الإسلام البدوي الوهابي، وسيؤدي هذا إلي مزيد من الشرخ في علاقة الأكثرية والأقلية بعضها ببعض.
إن سلوك الناس يمكن أن يؤدي إلي إفساد الأنظمة السليمة.
كذلك فإن الأنظمة الفاسدة كثيرا ما تؤدي إلي إفساد البشر.
دكتوراة واستشارى الطب الباطنى بالقاهرة
ماستر بكلية الاطباء الامريكيين