فوق سيوف الرومان أزهرت دماء الأقباط وأثمرت صمودا بلا مثيل في تاريخ الإيمان.. وفوق رمال الصحراء صارت دموع الأقباط شموعا أنارت البرية بكل صور الحضارة من فنون عمارة وأيقونات وفكر روحي وأدبي حفظ للتاريخ ثقافة فريدة.. عميقة.. متشعبة.. من تفاسير للكتاب المقدس وسير آباء.. ورسائل في العقيدة.. والطقوس.. والألحان.. ثقافة غنية.. تشبعت بها جدران الأديرة والكنائس ووجدان الرهبان. فصار بكل دير مكتبة تحوي نفائس المخطوطات وأصبح النسخ من أهم الأعمال اليدوية التي يتقرب بها العابد.. لربه.. وتفنن الأقباط في الكتابة فوق الجلود وعلي ورق البدري وصولا للورق.. وعشق الأقباط للثقافة والتعليم بدأ مبكرا عندما جاء مارمرقس الرسول للإسكندرية وقرر إنشاء الـ ديدا سكاليون أو مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي, وقد عهد بإدارة هذه المدرسة إلي القديس يسطس الذي أصبح فيما بعد أسقفا للإسكندرية.. وكانت المدرسة في بداية عهدها ذات طابع تعليمي بسيط. حيث كان التعليم بها يتم بطريقة السؤال والجواب, وبالتدريج اشتهرت المدرسة وخاصة علي يد مديريها الفلاسفة المشهورين أثينا غوراس وينتينوس وإكليمنضس وأوريجانوس ودينسيوس حيث أصبحت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية هي المنارة العالمية الوهاجة للمسيحيين في العالم كله, وقد احتفظت بأروع مستوي من الحكمة السامية والروحانية العميقة.. وبعد انقسام الكنائس المسيحية في مجمع خليقدونية عام 451م بدأت المدرسة تضعف, وبعد صراع الكنيسة القبطية مع الخلقيدونيين أغلقت المدرسة أبوابها وانتقل تراثها العلمي واللاهوتي إلي الأديرة.. فتحول كل دير كما أشرنا إلي مدرسة لاهوتية صغري..
وعندما احتوتني أرض القداسة. سمائية الانتهاء المشهورة بالكاتدرائية المرقسية الكبري بالعباسية. تنسمت بخور الماضي يتجسد من جديد, فها هو خليفة مارمرقس الـ 117 يعيد مجد مكتبة الإسكندرية اللاهوتية بكل فكرها الحي وروحها المجيدة – فالفكر لا يموت – وسطور الآباء الأولين الذين ضحوا بكل شيء, مازالت تنبض بالمجد فوق صفحات المخطوطات. ولأن البابا شنودة الثالث خليفة مارمرقس ينتمي بكل جذوره ووجدانه وفكره إلي هؤلاء الآباء العظام, فهو يعرف قدرهم ومكانتهم في العالم المسيحي كله. لذلك قرر أن ينشئ المركز الثقافي القبطي حفاظا علي تراثهم وإحياء لحروف كتبوها بدمائهم بدلا من المداد.. وقبل أن تدلف قدماي داخل ذلك المبني الشامخ.. ترددت في فكري عبارة أن مركز الثقافة أقيم فوق أرض القداسة. وتجولت عيناي بين أجواء الكاتدرائية تريدان أن تحتضناها, وعاد فكري إلي ذلك الدير القديم الذي كان يحمل اسم دير الخندق, وهو اسم المنطقة التي كانت كائنة خارج نطاق مدينة القاهرة في العصور الوسطي. ويذكر التاريخ أن الدير الضخم كان يعج بالكنائس حيث كانت توجد به نحو 12 كنيسة, وأنه في أثناء بطريركية البابا خريستزولس (1047: 1077) كان الدير مقرا أسقفيا وقد أصبح مقصدا للزوار والرهبان. ولكنه بدأ في مرحلة الاندثار بعد القرن 14. وتحولت المنطقة بالتدريج إلي منطقة مدافن.. وفي عام 1894 قام الأرخن إبراهيم ملكة ببناء دير الملاك علي أحد مواقع دير الخندق.. ثم التفت إلي المنطقة, البابا يوساب الثاني. البطريرك 115. حيث قام بتشييد مبني كلية مارمرقس اللاهوتية الضخم عام 1948.. وهو أول مبني حديث بالمنطقة وأصدر غبطته قرارا في 19 مارس 1953 بنقل مبني الكلية الإكليريكية من منطقة مهمشة إلي منطقة الأنبا رويس. وكان البابا يوساب قد افتتح في 13 فبراير 1953 القاعة اليوسابية الكبري لخدمة البحث والتعليم الديني وإلقاء المحاضرات وإقامة الاحتفالات بمبني كلية مارمرقس القبطية بدير الأنبا رويس.
وفي ستينيات القرن الماضي قرر قداسة البابا كيرلس السادس بناء كاتدرائية كبري تليق بمكانة الأقباط في العالم المسيحي, وفي 24 يوليو 1965 وضع البابا كيرلس بالاشتراك مع الزعيم جمال عبدالناصر حجر الأساس للكاتدرائية, وتبرعت الدولة وقتها بـ 150 ألف جنيه لإنشاء الكاتدرائية. والتي تم افتتاحها في 25 يونية 1968 بمناسبة مرور 19 قرنا علي استشهاد مارمرقس الرسول, وقد حضر حفل الافتتاح الرئيس عبدالناصر والإمبراطور هيلاسلاسي ومندوبون من كل كنائس العالم. وكان البابا كيرلس قد أحضر في 24 يونية من نفس العام رفات مارمرقس, وشاركه أول قداس أقيم بالكاتدرائية البطريرك مارأغناطيوس يعقوب بطريرك السريان ثاني يوم للافتتاح.
وبدأ البابا شنودة الثالث أعماله العظيمة بإحضار رفات القديس أثناسيوس الرسولي في عام 1974 وتوالت الإنشاءات الرائعة مثل المقر البابوي والمباني الأخري.. والتي انضم المركز الثقافي إلي تراثها.. تراث أرض القداسة.
وأنا أجتاز البوابة الزجاجية الشفافة للمركز الثقافي القبطي غرب أرض الأنبا رويس المقدسة, تذكرت كلمات جاءت في أحد التقارير التي كتبت في عند نبت الفكرة لتجسد الهدف من إقامة المركز, والذي يتحدد في الحفاظ علي تراثنا القبطي الثمين, وتهيئة المناخ الملائم لمحبيه من الدارسين والمثقفين, وكافة فئات الشعب القبطي, لينهلوا من شتي ينابيع الحضارة القبطية من عقيدة وطقس ولغة وتاريخ وأدب وموسيقي وفن وعمارة… و…. و….. وكذلك لنشر الثقافة القبطية, ويقدم للحضارة الإنسانية حضارتنا القبطية خلال العشرين قرنا الماضية لتتواصل الأجيال من عصر القديس مرقس الرسول وإلي عصر خليفته الـ 117 قداسة البابا معلم المسكونة البابا شنودة الثالث… وداخل المركز تأخذك غرفة المخطوطات إلي مجمع القداس الإلهي.. نعم مجمع القداس الذي تتلي فيه أسماء القديسين العظماء, ولكن قاعة المخطوطات تأخذنا إلي وجدان وفكر هؤلاء القديسين الذين سجلوا التراث القبطي الغني بالروحيات والثقافة بمضمون عظيم.. وزخارف بديعة.. وتظهر القاعة المجهود الضخم المبذول في ترميم هذه المخطوطات التي تم جمعها من الكنائس والأديرة والمتاحف داخل مصر وخارجها.. وعندما تقف أمام هذا السيل الإبائي للنور المجسد في الكلمات تعزف المخطوطات سيمفونية روحية حضارية يطرب لها كل عاشق للمعرفة, ويتهلل بفرح ومزمار الحس الثقافي في كل إنسان فيمجد الله ويشكر الأيادي التي تعبت وجمعت ورممت وأقامت الأوراق البالية من قبور التجاهل والإهمال إلي منارة الحياة في أبهي وأجمل صورة.
ومن جديد يستغرقني المبني العريق الذي جمع تصميمه الداخلي بين معالم الفن القبطي وملامح العمارة الحديثة في تناغم مذهل. فعلي سبيل المثال نجد أن الأسقف مزينة بقطع فنية رصينة من الخشب المعشق وحداتها الزخرفية مستوحاة من حاملي الأيقونات بكنيستي العذراء والشهيدة دميانة المعلقة وأبي سيفين بمصر القديمة. وأديرة الصحراء الشرقية والديرين الأحمر والأبيض بسوهاج.
وأعود لعالم الكتب النبع الذي لا ينضب حيث مكتبة مارمرقس العامة المصممة علي أعلي مستوي من التقنيات العالمية. ,التي تشمل معرضا للمخطوطات والكتب النادرة واستوديو رقميا والوسائط السمعية والبصرية وأرشيف الوثائق القبطية, وكذلك المخطوطات المسجلة ميكروفيلما ورقميا للمجموعات القبطية الموجودة بمكتبات العالم مثل مكتبة بودليان بأوكسفورد والمكتبة الرسولية بالفاتيكان والوطنية بالنمسا ومتحف اللوفر والمكتبة الوطنية بباريس.
وتحتوي المكتبة علي 3500 كتاب مهداة من البابا المعظم شنودة الثالث, و2700 كتاب وهي مكتبة الكلية الإكليريكية. و32000 كتاب وهي مكتبة الأنبا غريغوريوس و13000 مكتبة المرحوم الدكتور مراد كامل.
أما المخطوطات التي تحتوي عليها المكتبة فتشمل 1310 وهي محتويات مكتبة الدار البطريركية القبطية بالقاهرة و1140 نسخة رقمية طبق الأصل لبعض المخطوطات تحوي حوالي مليون ورقة مخطوطة, مهداة من جمعية القديس الأنبا شنودة بلوس أنجلوس و360 مخطوطا علي شرائح ميكروفيلم.
ومن عالم الآباء الكبار إلي ورثة الملكوت الأطفال مستقبل الحضارة ومستقبل المعرفة, يظهر ذلك في مكتبة الطفل تضم أقساما للقراءة الداخلية والاستعارة للوسائل التي تجعل التراث القبطي مادة بسيطة شيقة للطفل.. أما عن تصميم المكتبة. فهو شديد الإبهار والجاذبية ليس للأطفال فقط ولكن لكل من تتذوق عيناه الجمال.. إن هذا الصرح العظيم الذي قرر إنشاءه معلم المسكونة قداسة البابا شنودة إحياء لعالم المجد الذي يوجد به حروف اسم البابا شنودة في سماء القداسة والفكر.