شبكة المدن العالمية الرئيسية ــ مراكز التجارة والمال ــ تتوسع بصورة هائلة. ففي ثمانينيات القرن الماضي حين انطلقت العولمة, كانت مدن نيويورك, لندن وطوكيو فقط هي التي تعمل كـ ##مدن عالمية##, أي أماكن كانت قادرة علي أن تكون بمنزلة جسور بين أسواق عالمية ناشئة ضخمة جدا والاقتصادات القومية لدول العالم. أما اليوم فهناك أكثر من 20 مدينة عالمية رئيسية ونحو 50 مدينة عالمية صغيرة تلعب الدور نفسه. ففي دراسة أصدرتها مراكز ماستركارد العالمية للتجارة في يونية الماضي تضمنت مقارنة للكيفية التي تقوم بها هذه المدن بالعمل اليوم كمراكز عالمية, مسلطة الضوء علي تطور المدن في العصر الحديث. التحول الأكبر الذي تظهره هذه الدراسة هو صعود آسيا وأوروبا بالنسبة إلي أمريكا في هذا الميدان.
فقد ركزت الدراسة علي المراتب التي تحتلها مدن العالم الـ 75 الأكثر تنافسية, محددة أكثر من 70 مدينة تعمل كمركز عالمي رئيسي أو صغير للتجارة أو المال. وقد تم تقييم هذه المدن علي أساس 100عامل تقيس أمورا مثل فعالية النظام السياسي والقضائي فيها, وعدد الأيام التي يستغرقها فتح شركة جديدة فيها, ونوعية العيش في المدينة وشهرة ##ماركتها## العالمية. وتظهر دراسة هذا العام أن أوربا في السنتين الماضيتين قد صعدت في مراتبها, إذ باتت بها الآن مدن صاعدة توضع في مصاف مدن قوية تقليديا مثل لندن وباريس وفرانكفورت, وهي مدن في غالبها تحتل مكان مدن أمريكية منافسة لها في هذه القائمة. فلدي أوربا اليوم سبع من المدن الـ15 الأولي في العالم, مقارنة بمدينتين أمريكيتين فقط هما نيويورك وشيكاغو. فقد تقدمت مدريد من الدرجة 16 إلي الدرجة 11, وتقدمت أمستردام من الدرجة 11 إلي 10, فيما تراجعت لوس أنجلوس من الدرجة 10 إلي الدرجة 17 وبوسطن من الدرجة 13 إلي .21 وارتفعت كوبنهاجن من الدرجة 15 إلي 14, وقفزت زيوريخ من الدرجة 19 إلي .15 وفي الفترة ذاتها عززت آسيا قبضتها علي أربعة مواقع في قائمة المدن الـ 15 الأولي, وترأست هذه المواقع طوكيو (3) وهونكونج (6), فيما ارتفعت سنغافورة من المرتبة السادسة إلي المرتبة 4 محل شيكاغو التي كانت تحتل هذه المرتبة سابقة, فيما تقدمت سيدني من الدرجة 14 إلي الدرجة .12
إن صعود أمستردام ومدريد يعكس البروز الأوسع للمدن الصغيرة كمنابر كبيرة للشركات والأسواق العالمية. ومازالت المدن الأمريكية الرئيسية تسجل درجات مرتفعة علي المقاييس الكلية الخاصة بالأنظمة القانونية والسياسية والتجارية, ولكن ستوكهولم, سنغافورة وكوبنهاجن تسجل درجات أفضل منها. فلناحية مقياس ##سهولة القيام بالأعمال التجارية##, بدأت المدن الأمريكية تفقد مواقعها المتقدمة لمدن أخري, بما فيها مدن مستجدة مثل دبي (رقم 6 كمركز تجاري في العالم). هذه المدن من مثل دبي وسنغافورة تسجل صعودا كمنابر للاستثمار في مناطقها, وهي عادة ما تفاخر بأن لديها أنظمة قانونية أقوي, وأن لديها أنظمة أكثر استقرارا وظروفا تجارية ومعيشية أفضل بالإجمال من المدن العملاقة القوية في أمريكا اللاتينية والهند والصين. ولكن هناك أيضا مجموعة من المدن في أمريكا اللاتينية, بما فيها بيونس آيرس, وسانتياجو بتشيلي وساو باولو بل حتي بوجوتا, التي صعدت بفضل الاستثمارات في مشاريع البناء والبنية التحتية.
ولعل الأكثر أهمية في كل هذا هو أنه ليست هناك مدينة عالمية يمكن وصفها بالمثالية, فلم تكن هناك مدينة واحدة سجلت المرتبة الأولي في كل المقاييس الـ100 المذكورة. فالأيام التي كانت فيها عاصمة الإمبراطورية لديها كل شيء قد ولت. فحتي نيويورك ولندن, وهما المدينتان القائدتان من دون شك, سجلتا درجات منخفضة علي مقاييس معينة عديدة, فلم تكن أي منهما في قائمة المدن الـ 10 الأولي بالنسبة إلي إطلاق مؤسسة أعمال جديدة أو إغلاق مؤسسة قائمة. لندن سجلت الدرجة 20 لناحية توظيف العمال, والدرجة 28 بالنسبة إلي التعامل مع تطوير العقارات التجارية. ونيويورك كانت في المرتبة الـ13 لناحية الاتجار عبر الحدود, والمدينة الـ22 لناحية العبء الضريبي. المدن الجنوبية مثل مومباي وساو باولو سجلت درجات أعلي لناحية الخدمات المالية والاقتصادية, ولكنهما سجلتا درجات منخفضة في ميدان توفر الخدمات الأساسية للجميع مثل الكهرباء والماء.
وما هو أكثر من ذلك أن عدد المدن التي تستطيع الآن أن توفر وظائف المدينة العالمية واصل الارتفاع بمواكبة التوسع في الاقتصاد العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي. وفي الحين الذي قيل فيه الكثير عن تأثير الاقتصاد المعولم علي تجانس الاقتصادات الوطنية, فإن الحقائق تشير الي الاتجاه المضاد تماما. فالشركات لا تريد مدينة واحدة مثالية كاملة الأوصاف, بل تريد عددا منها. إن فقدان المدن الأمريكية للمواقع المتقدمة هو جزء من تطور النظام في الوقت الذي تصعد فيه أجزاء متنوعة من مناطق العالم. وهكذا, فإن أوربا ##القديمة## تشهد عملية صعود اليوم. وواضح أن النظام المديني الجديد لا يعني أن مكاسب مدينة يجب أن تكون بالضرورة خسارة لمدينة أخري.
ساسن هي أستاذة ليند في الاجتماع بجامعة كولومبيا وعضو في لجنة الخبراء التي أعدت مؤشر مراكز ماستركارد العالمية التجارية.
تايم