نتأمل اليوم المزمور الخامس والخمسين حيث يقول المرنم: ليت لي جناحا. ويعبر هذا المزمور عن يأس داود وحزنه لأن صديقا خانه, وقد يكون الصديق هو أخيتوفل الذي هجر داود وانضم إلي ابنه أبشالوم يوم قام بانقلاب فاشل ضد أبيه (2صم 15: 10-37). وقد أطلق القديس إيرونيموس علي هذا المزمور: صوت المسيح ضد شيوخ اليهود وضد يهوذا الخائن.
في هذا المزمور نجد أولا صرخة نفس حزينة (آيات 1-8).
1- صرخة داود: اصغ يا الله إلي صلاتي, ولا تتغاض عن تضرعي. استمع لي واستجب لي (آية 1, 2أ). قال عالم النفس إريك برن إن في داخل كل منا طفلا, يصرخ عندما نواجه مشكلة أكبر منا لا نستطيع أن نعالجها بأنفسنا. وكطفل خائف يبحث عن الأمان دعا داود الشخص الأقرب إلي نفسه وهو الله ليساعده, عالما أنه لن يتأخر أبدا في مد يد العون إليه, بل إنه سيعينه بقوة من عنده, كما سيرشده إلي الإمكانيات والمواهب الكامنة داخله, ويعبئها ويوجهها الوجهة السليمة ليتمكن داود من الخروج من مأزقه, والقيام بعمل كل ما هو صالح.
2- حزن داود: (آيات 2ب-5).
(أ) حزين حائر: أتحير في كربتي واضطرب من صوت العدو, من قبل ظلم الشرير, لأنهم يحيلون علي إثما, وبغضب يضطهدونني (آية 2ب, 3). أصابه الخوف بما يشبه الشلل, فعجز عن التفكير السليم, ولم يعد قادرا علي توظيف إمكانياته! وكيف يقوم أبشالوم ابنه عليه؟ وكيف يساعد أخيتوفل الصديق المخلص هذا الابن العاق؟! أسئلة لم يجد داود لها إجابات مقنعة!
(ب) حزين خائف: يمخض قلبي في داخلي, وأهوال الموت سقطت علي. خوف ورعدة أتيا علي, وغشيني رعب (آيتا 4, 5). ارتعب من أن شعبه رفضه, وخاف من المستقبل المجهول, ورأي أهوال الموت قادمة عليه, وضاعت ثقته في نفسه, ولعله ظن أن الرب رفضه.
3- خواطر داود: ليت لي جناحا كالحمامة فأطير واستريح. هأنذا كنت أبعد هاربا وأبيت في البرية. كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء (آيات 6-8). أراد أن يكون كحمامة, رمز البراءة والضعف والطيران العالي. هرب داود بسرعة قبل أن يجيئه الموت علي يدي أقرب الناس إليه, وهو ولده الذي انقلب عليه, تاركا قصره وسلطاته, حافي القدمين, يسند رأسه علي حر لكن رجلا مثل داود لا يجب أن يهرب. ولقد جاز إرميا اختبارا مشابها فقال: يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع, فأبكي نهارا وليلا قتلي بنت شعبي. يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين, فأترك شعبي وانطلق من عندهم لأنهم جميعا زناة, جماعة خائنين, يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب, لا للحق قووا في الأرض (إر 9: 1-3). وبيت المسافرين يشبه الفندق في الطريق الصحراوي بعيدا عن كل الناس. إلي هناك أراد إرميا أن يذهب, وإلي مكان بعيد أراد داود أن يهرب, بعيدا عن أبشالوم وعن أخيتوفل! ولكن ليس هذا هو الحل, فهذه رغبة عفوية, وليدة المشكلة والموقف! ولكن حالما يفكر داود في الأمر مليا, وحالما يستريح في حضرة الله يقول ما قاله نحميا: أرجل مثلي يهرب! (نح 6: 11). لقد رفع الله داود بالرغم من ثورة ابنه ضده وهجران أصحابه له. وأحسن هو استخدام الصعوبة فباركه الله من خلالها, فلم تعد حملا ثقيلا عليه يسقط تحته. وشكرا لله لأن منتظري الرب يجددون قوة, يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون (إش 40: 31).