تحدثنا فى المرات السابقة عن المؤثر العائلى والمؤثر المدرسى والمؤثر الكنسى ونتحدث اليوم عن المؤثر المجتمعى ..
صعب أن نتجاهل تأثير المجتمع فى أجيالنا الصاعدة، ففى أعماقنا غريزة السير مع الجماعة. ومع أن المسيحية تنادينا قائلة: “لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم، بتجديد أذهانكم” (رو 2:12)، إلا أن الواقع المجتمعى يفرض نفسه، بقدر ضحالة الروح. ولكن حين ينمو الإنسان روحياً، يتحرر شيئاً فشيئاً من هذا التأثير، ويستطيع أن “يتجاسر أن يكون مختلفاً”، وأن يكون “قائداً لا تابعاً”… وهذا هو المطلوب فى التربية عموماً: أن ندعو شبابنا أن “يختلف” عن الآخرين، ليس لمجرد الاختلاف، ولا فى روح الخلاف والتخاصم، ولكن بسبب قناعة خاصة، ورؤية شخصية، تجعله يرى فى المسيح حياته، وفى المسيحية خلاصه، وفى القداسة سلوكه.
هنا يتجاسر الإنسان أن يكون مختلفاً، وحتى إذا صاح فيه إخوته الشباب: “العالم كله ضدك” يقول كما قال القديس أثناسيوس: “وأنا ضد العالم”… والمقصود هنا ليس العناد الأجوف، أو الاختلاف الذى يدعم الذات، أو حب التخاصم والفرقة، بل المقصود أن فى أعماق ذلك الشاب منهج مختلف، ورؤية خاصة، وفلسفة حياة لا يقبلها العالم، مع أنها فلسفة الحق، وطريق الخلاص والخلود. ولأنه ذاق المسيح، وامتلأ بالروح، واختبر حلاوة العشرة مع الله، وسعد بالسلوك المسيحى الأمين، وامتلأ قلبه بحب الجميع، لذلك فهو متمسك بمسيحه ومسيحيته إلى النهاية، لأنها أعطته كل هذه العطايا، وفى الختام… ستعطيه الحياة الأبدية السعيدة!
ما أسعد أولاد الله به، وما أعمق فرحتهم بالكنز المخفى فى قلوبهم، والنصيب المنتظر فى الملكوت!!
ومع أن المجتمع يموج بسلبيات عديدة، ومسالك شتى، ما بين مادية وأنانية، وصراعات فردية وقبلية وعشائرية، وحروب من أنواع عديدة، إلا أن الإنسان المسيحى يرى فى نفسه أن يجاهد كى يصير :
ملحاً : ينتشر ويذوب فى حب، دون أن يضيع، ليعطى العالم طعماً وحباً وحياة… فقد قال الرب لنا: “أنتم ملح الأرض” (مت 13:5).
نوراً : يهزم فلول الظلام فى الأسرة والمجتمع ومكان العمل والحياة اليومية، وينشر روح المودة والتسامح والخدمة… ألم يقل الرب لنا: “أنتم نور العالم؟” (مت 14:5).
خميرة : فيها الحياة الإلهية الكامنة، والقادرة أن تنتشر لتخمر العجين كله… فالخميرة تختلف عن العجين، إنها تحتوى على البكتريا الحية التى تتكاثر وهكذا تحّول العجين كله إلى خمير حىّ.
رائحة زكية : فى الذين يخلصون، والذين يهلكون… رائحة رب المجد يسوع، مشتهى كل الشعوب، مسيح العالم كله.. كما قال معلمنا بولس الرسول: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله فى الذين يخلصون وفى الذين يهلكون” (2كو 15:2).
رسالة : معروفة ومقروءة من جميع الناس… تنشر كلمات الرب يسوع سلوكاً حياً وعملياً… وخبراً إلهياً مفرحاً: “ولد لكم… مخلص” (لو 11:2)… لهذا قال الرسول: “أنتم رسالتنا مكتوبة فى قلوبنا معروفة ومقروءة من جميع الناس” (2كو 2:3).
سفيراً : يمثل رب المجد فى كل مكان يذهب إليه، نقياً، طاهراً، ومقدساً… يشهد لمسيحه الحىّ الظافر… ويمثله فى كل مكان وزمان… وهذه وصية الكتاب لنا: “نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله” (2كو 20:5).
كان هذا، وما يزال، وسيظل إلى نهاية العالم، رسالة المؤمن فى المجتمع… مهما تطور المجتمع إلى الأفضل أو إلى الأسوأ… فمسيحنا خالد، والمجتمع زمنى متغير، “الذى فيكم أعظم من الذى فى العالم” (1يو4:4)… فهو روح الله العامل فى ضعفنا، لتغييرنا وتقديسنا.
فليأت الغد بما يشاء… ولكن ستظل آيات الإنجيل، ومبادئ المسيح، وحقائق الخلاص، خالدة إلى الأبد. هذا إيمان أولاد الله، يعيشون به فى كل مجتمع، مهما كان شكله، ويطيعون قوانينه، مهما كانت، مادامت لا تتدخل فى إيمانياته ومسيحيته.. سواء عاش فى وطنه أو فى هجرة دائمة أو مؤقتة… أن يحيا “المرونة القوية” التى من خلالها يسير مع التيار حين يكون صالحاً، وضد التيار حين يكون منحرفاً…
3- المؤثر الكنسى:
تبدأ الكنيسة فى البيت، مع الأم إذا كانت ابنة مخلصة للمسيح. وهذا التأثير فائق فى طبيعته على كل ما عداه. ويكفينا ما ذكره معلمنا بولس الرسول عن الإيمان الذى سكن فى تيموثاوس، آخذاً إياه من جدته لوئيس، وأمه أفنيكى (2تى 5:1). فالأم تعطى مع اللبن، الحنان الذى يبعث على الأمان والثقة، والإيمان بالله، ومعرفة المسيح والقديسين، منذ الطفولة المبكرة. فإذا ما دخل الطفل إلى سن الحضانة، فهى تحكى له سير شخصيات الكتاب المقدس وقديسى الكنيسة، وتقدم له ذلك بالحكايات أو بشرائط الفيديو. وهى التى تذهب بأطفالها إلى مدارس الأحد، ليواظبوا عليها، ويتعلموا فيها دروس الكتاب المقدس، وتاريخ الكنيسة، والمبادئ المسيحية.
لهذا كان جميلاً من قداسة البابا شنوده الثالث، أثناء زيارته لروسيا فى احتفالها بدخول المسيحية إليها، أن يمتدح الأمهات والجدّات الروسّيات، لأنهن كن السبب فى حفظ الإيمان المسيحى، والعقيدة الكنسية، فى قلوب الأجيال الصاعدة، رغم ضغوط الحزب الشيوعى الملحد، ومحاولاته اجتثاث جذور الإيمان من القلوب والأذهان.
ونعرف عن “جورباتشوف” الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتى المنحل، أن أمه كانت مسيحية، وأنها كانت تعلق على جدران بيتها، صور السيد المسيح والقديسين، وتحتفظ – من خلف نفس الصور – بصور ستالين ولينين وغيرهما، ليكونا فى الواجهة عند زيارة أشخاص شيوعيين لمنزلهم. أما حينما يرحلون، فتظهر صور السيد المسيح والقديسين. ولاشك أن هذه الروح المسيحية والكنسية، كان لها أثرها فى جورباتشوف، الذى أطلق الحريات فى الاتحاد السوفيتى، مما سمح بتفكيكه، وانهيار الشيوعية، وعودة الأرثوذكسية.
فى المرحلة الابتدائية، تربينا الكنيسة على الحب، حب المسيح والكنيسة والقديسين والأسرة والمجتمع..
وفى المرحلة الإعدادية، تسلمنا الكنيسة الإيمان، والقيّم الجوهرية فى المسيحية، وأساسيات العقيدة الأرثوذكسية.
وفى المرحلة الثانوية، تدعونا الكنيسة إلى التوبة، التى فيها يستريح الضمير، ويستقيم السلوك الشخصى والجماعى، السرى والعلنى، مقدمة لنا التوجيهات الروحية، وفرصة الاعتراف، التى فيها نأخذ حِلاً عن خطايانا، وحَلاً لمشاكلنا.
وفى المرحلة الجامعية، تساعدنا الكنيسة فى فهم أسلوب التعامل مع الآخر: الجنسى والدينى والمجتمعى، كما تدفعنا إلى الخدمة، لنكون نافعين فى الأسرة والكنيسة والوطن.
وعند التخرج، تشجعنا الكنيسة على تكريس القلب، وربما الحياة كلها، فى أساليب متعددة: زواج مقدس، شهادة أمينة فى المجتمع، بتولية خادمة، رهبنة، كهنوت… الخ.
لاشك – إذن – أن الكنيسة لها تأثيرها الهام فى تكويننا، فى الماضى والحاضر والمستقبل، أى فى رحلة العمر كلها، من المهد إلى اللحد. فالكنيسة تعطينا عضوية الجسد المقدس، جسد المسيح، وتشبعنا بأسرارها المقدسة، وتعاليمها المحيية، وأبوتها الحانية. وهذا ما تحتاجه الكنيسة فى المستقبل: النمو فى الرعاية، وتحديث أساليب التعليم، وتقديم الكلمة المناسبة للاحتياجات المعاصرة لأجيالنا، تجيب عن أسئلتهم، وتخاطب ظروفهم، وتتفهم ما يقابلونه من مشكلات واحتياجات ونشاطات وتيارات متنوعة، مقدمة لهم الحلّ الشافى، والإرشاد المناسب، فى روح الحوّار لا الإملاء، حتى ما يحدث لهم اقتناع ذاتى، بأن الحياة فى المسيح هى الأفضل جداً، لأرواحهم إذ تشبعها وتقدسها، ولأذهانهم إذ تنيرها وتحكِّمها، ولأنفسهم إذ تضبطها وترتقى بغرائزها وعواطفها، ولأبدانهم إذ نحفظها سليمة من آفات العصر المدمرة، والتى تأتى من الانحرافات المختلفة: كالتدخين والخمور والمخدرات والدنس. بل أن الكنيسة تبنى أيضاً شخصية اجتماعية تتفاعل مع العصر، والمستجدات، والآخرين، ناشرة ثقافة المحبة والخدمة، ناهيك عن التسامح والاحتمال.
إن دور الدين فى صنع مستقبل الشعوب هام للغاية، مادام يقدم بطريقة صحيحة وسليمة، تدفع إلى الحب، وتحترم الغير، وتنشر الخير، وتشيع السلام. والنهاية – وهذا هو الأهم والأبقى – أن المسيح هو طريقنا إلى الأبدية السعيدة والخلود المجيد، بعد أن يكون الرب طريقنا إلى الغفران والخلاص والتقديس، ونحن نجاهد هنا فى هذه الأرض.