من العبارات الجميلة التي وردت في هذا الموضوع قول بولس الرسول لرعاة كنيسة أفسس:متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال:
مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذأع30:35.
فلماذا طوب العطاء؟لاشك لأسباب كثيرة:في العطاء تشرك الغير في الذي لك,بل بالحري تشرك الله نفسه في أموالك.ليس فقط حينما تعطي للكنيسة,أنما حينما تعطي المحتاجين أيضا.ألم يقل الرب…لأني جعت فأطعمتموني,عطشت سقيتموني.كنت غريبا فأويتموني,عريانا فكسوتموني مريضا فزرتموني.
…وشرح ذلك في قوله عن كل هؤلاء المحتاجين
بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الاصاغر,فبي قد فعلتممت25:35-40.
إذن ما تعطيه لأحد من المحتاجين,أنما تعطيه للرب نفسه,سواء كان طعاما لجوعان,أو كساء كعريان,أو مجرد زيادة تزورها لمريض أو لسجين..هذه الزيارة هي أيضا لون من العطاء,تعطي فيه حبا ومشاركة وجدانية,عطاء للنفس وليس للجسد.
العطاء إذن هو خروج من الذات للشركة مع الآخرين
الإنسان المنطوي علي ذاته يبعد عن الغير,لا يأخذ ولا يعطي.والإنسان الأناني يحب دائما أن يأخذ لا أن يعطي..والإنسان الاجتماعي يأخذ من الناس ويعطي.أما الإنسان المحب الباذل,فهو الذي دائما يعطي.هو الذي يفضل غيره علي نفسه.
يأخذ دائما من نفسه,لكي يعطي لغيره.
من هنا كانت فضيلة العطاء تمتزج علي الدوام بإنكار الذات فيها تكون الذات في المتكأ الأخير,بينما الأولوية للغير.لا يفكر الإنسان في احتياجاته الشخصية ولوازمه,أنما يفضل غيره علي نفسه.وهكذا فعلت أرملة صرفة صيدا في أيام المجاعة,حينما قدمت لإيليا النبي حفنة الدقيق التي عندها,والقليل مما في كوز الزيت,لهذا بارك الله بيتها بركة عظيمة1مل17, 11-16.
وبالمثل فعلت الأرملة التي دفعت فلسين في الصندوق,فطوبها الرب أكثر من كل الذين أعطوا.لماذا؟
لأنها من أعوازها أعطتلو21:4
وليست فقط أعطت من أعوازها,بل أنها أيضا أعطت كل معيشتها,كل الذي لها.وهنا نري نفس القاعدة التي ذكرناها وهي تفضيل الغير علي النفس,أو بأسلوب آخر.إنكار الذات…يعيش غيري,ولو أموت أنا.يستوفي هو حاجته,أو أساهم في سد احتياجاته مهما كنت أنا محتاجا.وفي تطويب الرب لهذه الأرملة,نلمح قاعدة مهمة هي:
أن الله ينظر إلي عمق العطاء لا إلي مقداره
ومن مظاهر هذا العمق,ارتباط العطاء بالحب.فتحب أن تعطي,وتحب الذي تعطيه.
ولذلك فالعطاء الذي يفيدك روحيا,هو الذي تعطيه,لا عن ضجر ولا تذمر ولا اضطرار بل بكل مشاعر الرضا والفرح..وكما قال الكتاب:
المعطي بسرور يحبه الله2كو9:7
فأنت تحب الإنسان المحتاج وبدافع المحبة تعطيه وتظهر محبتك في طريقة تعاملك وأنت تعطي ويحس المحتاج بمحبتك فيفرح بها أكثر من فرحه بما يأخذه.إنه يأخذ منك مشاعر قبل أن يأخذ ماديات.ويحس أن عطاءك ليس لونا من المظاهر أو الرسميات,بل هو عاطفة ومشاركة,وأنت أيضا لا تكون أقل فرحا منه وأنت تعطيه كالأم التي تفرح وهي تعطي لابنها,فرحا سابقا للعطاء,ومصاحبا له,وفرحا بفرح ابنها وهو يأخذ.
ولنا مثال كتابي,بفرح الشعب حينما كان يعطي لبناء الهيكل أيام داود النبي.
وفي ذلك يقول الكتابوفرح الشعب بانتدابهم,لأنهم بقلب كامل انتدبوا للربدفعوا بإرادتهم…وداود الملك فرح فرحا عظيما..وبارك الرب أمام كل الجماعة وقالولكن من أنا ومن هو شعبي,حتي نستطيع أن ننتدب هكذا؟لأن منك الجميع,ومن يدك أعطيناك,أيها الرب الهنا,كل هذه الثروة التي هيأناها لنبني لك بيتا…أنما هي من يدك ولك الكل1أي29:9, 14, 16.
جميلة هذه العبارةمن يدك أعطيناك
نحن لا نملك شيئا.كل منا يقول ما قاله أيوب الصديقعريانا خرجت من بطن أميأي1:21.وكل ما نملكه حاليا ,نقول فيه أيضا مع أيوبالرب أعطي.ونقول للرب مع داودهو من يدك ولك الكل.ولذلك حسنا أننا في كل عطاء نقدمه للرب,نقول له فيهمن يدك أعطيناك.
حقا,إنه تواضع من الله الغني,أن يأخذ منا!!
إنه يعطينا فرصة يعبر فيها عن مشاعرنا.تماما مثل الأب الذي يقبل هدية من ابنه,بعبر بها الابن عن محبته لأبيه,بينما ثمن هذه الهدية هو أيضا من ماله أبيه,وكأنه يقول له كذلكمن يد أعطيناك..الله الغني,مصدر كل غني,الذي له الأرض وما عليهامز24:1الله الذي يشبع كل حي من رضاه,من محبته يحب أن يشركنا معه في العناية ببيته وبأولاده,ويكافئنا علي ذلك…
يعطينا ما نعطيه,ويكافئنا حينما نعطي…وفي كل ذلك يدربنا علي العطاء…
يعطينا الحياة والوجود,ثم يقول لنا,في كل أسبوع حياة أعطيه لكم,أعطوني منه يوما يسمييوم الرب…وأعطيكم مالا.وفي كل ما أعطيه لكم من مال,أعطوني العشر..وفي كل ذلك نقول له يارب,من يدك أعطيناك…أنت هو المعطي لنا,ولمن نعطيهم.وأنت أيضا الذي تعطينا محبة العطاء.
أعطني صحة وقوة,وأنا أخدمك بها
وكلما أتعب في خدمتك,وكلما أبذل في خدمتك,لا أحسب نفسي مطلقا أنني قد أعطيتك شيئا…فالصحة من عندك,والقوة من عندك,ومحبة الخدمة هي أيضا من عندك,والوقت الذي أقضيه في الخدمة هو كذلك من عندك.بل أنا نفسي من عندك.كان ممكنا أني لا أولد ولا أوجد.وأنت أعطيتني هذا الوجود الذي أخدمك به,وأعطيتني الكلمة التي أقولها…وفي كل خدمتي لك وتعبي من أجلك,أقولمن يدك أعطيناك.
لذلك كله,ينبغي أن يكون العطاء بغير افتخار
لا افتخار باللسان,ولا بمشاعر القلب من الداخل,ولا بالفكر …وكأنك قد أعطيت من عندك!…هنا وأتذكر عمق الكلمات التي قالها الرسول:أي شئ لك لم تأخذه؟!وإن كنت قد أخذت,فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!1كو4:7…وإن كان كل ما نعطيه قد أخذناه من الرب,ألا يكون افتخارنا بالعطاء افتخارا باطلا؟!
لذلك أمر الله أن يكون العطاء في الخفاء
وقالاحترزوا من أن تصنعوا صدقة قدام الناس لكي ينظروكم,وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السمواتوقال لتكون صدقتك في الخفاء,وأبوك الذي يري في الخفاء,هو يجازيك علانيةمت6:1, 4,وهذا الخفاء,لا يقصد به الرب أن يكون خفاء علي الناس فقط,وإنما علي نفسك أيضا.فلا تعد أو تحصي كم أعطيت,وإنما:
لا تعرف شمالك ما تفعله يمينكمت6:3
لا تذكر كم أعطيت ,ولا تتذكر كم أعطيت…ولا تحسب عطاياك.وحاول أن تنساها جميعها,حتي لا يحاربك بذلك شيطان المجد الباطل,وأيضا حتي لا تستوفي خيراتك علي الأرض من تمجيد ذاتك لك…
روي عن القديسة ميلانيا,في بدء حياتها الروحية.قبل أن تترهب,حينما كانت تقدم إحسانات كثيرة للأديرة والرهبان…أنها في إحدي المرات وضعت في كيس خمسمائة قطعة من الذهب,وسلمته للقديس الأنبا بموا ليعطيه للرهبان الساكنين في البرية الداخلية.فنادي القديس علي تلميذه,وسلمه الكيس كما هو دون أن يفتحه وكلفه بتوزيعه علي أولئك الرهبان…وهنا قالت له ميلانياولكنه لم تفتحه يا أبي لتعرف كم فيه؟فرد عليها القديس قائلاإن كنت قدمت هذا المال لله,فالله يعرف مقداره كم هو..وكان ذلك درسا لميلانيا…
صفة أخري من صفات العطاء,وهي السخاء
يقول الكتاب المعطي فبسخاءرو12:8ويأمرنا أيضا أن نكونأسخياء في العطاء,كرماء في التوزيع1تي6:18ويقول:من يزرع بالشح,فبالشح أيضا يحصد.ومن يزرع بالبركات,فبالبركات أيضا يحصد2كو9:6ويعلل الرب ذلك بقولهبالكيل الذي تكيلون به,يكال لكملو6:38.
لا يكفي إذن أن تعطي,إنما كن كريما في عطائك
أمامنا مثل جميل في الكتاب هو أرونة اليبوسي,حينما أراد داود الملك أن يشترك منه بيدره لكي يبني مذبحا للرب…ففرح أرونة بذلك,وأراد أن يتبرع بالبيدر وكل ما فيه.ولذلك قال لداود عن البيدر,فليأخذه سيدي الملك,ويصعد ما يحسن في عينيه.
انظر:البقر للمحرقة..والنوارج وأدوات البقر حطبا2صم24:22الكل دفعه أرونة إلي الملك.ولكن داود قال لأرونةبل اشتري منك بثمن,ولا أصعد للرب إلهي محرقات مجانية…كل منهما يريد أن يدفع,وبرضي وفرح,وبسخاء…
ولنتذكر قصة أبينا إبراهيم,لما زاره ثلاثة رجال:
قال لأمنا سارةأسرعي بثلاث كيلات دقيق…واصنعي خبز مله ثم ركض إبراهيم إلي البقر,وأخذ عجلا رخصا وجيدا,وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله.
ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله,ووضعها قدامهمتك17:6-8…هل ثلاثة رجال يحتاجون إلي ثلاث كيلات دقيق…إلي عجل بأكمله,بالإضافة إلي الزبد واللبن؟أم هو كرم أبينا إبراهيم؟…أو أنه لفرحه يضيوفه أراد أن يأكل الكل معهم,الغلمان,ورعاة الغنم يأكلون من العجل,وأيضا من الخبز الساخن…معهم.
وبنفس الكرم في عطائنا,يعاملنا الله…
وهكذا قالأعطوا تعطوا,كيلا جيدا ملبدا مهزوزا فائضا,يعطون في أحضانكملو6:38وأيضاهاتوا جميع العشور إلي الخزنة…وجربوني بهذا قال رب الجنود,إن كنت لا أفتح لكم كوي السموات,وأفيض عليكم بركة حتي لا توسع….ملا3:10..وقيل أيضا أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك,فتمتلئ خزائنك شبعا,وتفيض معاصرك مسطاراأم3:9.
ومن الآيات التي تدعو إلي الكرم في العطاء,قول الرب
اذهب بع كل ما لك وأعطه للفقراءمت19:21.
وأيضا بيعوا أمتعتكم وأعطوا صدقةلو12:33وكذلك قوله من سألك فأعطه.ومن أراد أن يقترض منك فلا تردهلو6:30…وأيضا يقول الكتابمن له ثوبان,فليعط من ليس له.ومن له طعام,فليفعل هكذالو3:11.
*ومن الصفات الجميلة في العطاء:
*أن تعطي دون أن يطلب منك ذلك.فهكذا يفعل أبونا السماوي معنا.وهكذا يفعل الأب والأم مع أولادهما.لتكن لك الحساسية نحو ما يحتاجه الناس,ولا تحوجهم أن يسألوا ويطلبوا.
*لا تؤجل العطاء فربما التأخير يسبب أضرارا للمحتاجين.وفي ذلك يقول الكتابلا تمنع الخير عن أهله,حين يكون في طاقة يدك أن تفعله.لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غدا,وموجود عندكأم3:27, 28.
درب نفسك أن تعطي من أفضل ما عندك.
فكثيرون لا يعطون إلا الملابس الممزقة أو القديمة,والأشياء التالفة عندهم أو المرفرضة منهم…هذه يقدمونها للمسيح في أشخاص الفقراء.ليتنا في كل ذلك نتذكر قرابين هابيل الصديق,إذ قيل عنهوقدم هابيل من أبكار غنمه ومن سمانها.فنظر الرب إلي هابيل وقربانهتك4:4…من أبكار غنمه ومن سمانهاأي أفضل ما عنده.
لقد قدم لنا التاريخ أمثلة عجيبة في العطاء…
القديس الأنبا إبرآم أسقف الفيوم,والقديس الأنبا صرابامون أبو طرحة أسقف المنوفية,وقصص عطائهما كثيرة جدا وعجيبة,ليس الآن مجالها.والقديس يوحنا المرحوم الذي باع كل شئ وأعطاه للفقراء.وإذ لم يجد شيئا آخر يبيعه,باع نفسه عبدا,وتبرع بالثمن للفقراء.أيضا القديس سيرابيون,الذي أعطي ثوبه لفقير ومشي عريانا وباع إنجيله أيضا وأعطي الثمن للفقراء.فلما سأله تلميذه عن ذلك,أجابه:كان الإنجيل يقول لي أذهب بع كل مالك وأعطه للفقراء,فبعته إذ لم يكن لي غيره,وفي العصر الرسولي قيلكل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت,كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل.فكان يوزع علي كل واحد كما يكون له احتياجأع4:34, 35 فما مركز عطائنا من كل هؤلاء.
فلنتدرب علي العطاء لكي ننمو فيه أيضا.
ولندرس شركة الله في أموالنا,فهي موضوع طويل,أستسمحك أيها القارئ أن نرجأ إلي العدد المقبل.إن أحبت نعمة الرب وعشنا…