السؤال الذي يتردد بعد دخول خطة الإنقاذ التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي بمجلسيه حيز التنفيذ, هل هذه الخطة كافية للخروج من براثن الأزمة؟, وهل ستؤدي إلي نتائج إيجابية تعيد الوضع إلي ما كان عليه قبل انفجار هذه الأزمة؟.
الإجابة قطعا بالنفي , لا الخطة كافية ولا العالم سيعود إلي وضعه السابق مرة أخري, ببساطة لأن كل أزمة كبيرة تفرز معطيات جديدة. نعم ستؤدي إلي نتائج إيجابية ولكن وفقا لمعطيات جديدة وأوضاع عالمية جديدة.
الخطة ضرورية وتصرف صائب لا مناص منه. صحيح كما قال بول كريجمان الحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد عام 2008 في النيويورك تايمز أن الحكومة تدفع ##الكاش في مقابل التراش## في إشارة لاستخدام أموال دافعي الضرائب لشراء أصول هالكة يراها هو معدومة القيمة , وصحيح أن الخطة إنحازت للمخطئين الجشعين, بولسون نفسه وزير الخزانة ومقترح الخطة والذي سيشرف علي تنفيذها كان واحدا منهم, حيث كان رئيسا لشركة جولدن مان ساكس, وصحيح أيضا أنها ستمنع الأسواق من إعادة التوازن الطبيعي للأسعار المنتفخة :علي سبيل المثال زادت أسعار العقارات علي مستوي أمريكا في المتوسط 100% خلال الفترة من 2002-2006 ولكن التراجع في أسعار العقارات في العام الماضي تراوح بين5-17% وخلال عامي الأزمة تراوح التراجع بين 16-29%, أي أن الأسعار المبالغ فيها لم تعود لمستواها المعقول في سوق العقارات والخطة تمنع الوصول لنقطة التوازن عند السعر العادل, ومن ثم حدوث توازن غير طبيعي عند أسعار مبالغ فيها في سوق العقارات, وصحيح أيضا أن الخطة تأخذ من أموال دافعي الضرائب ولم تقترب من أموال هؤلاء الجشعين الذين كونوا ثروات طائلة من وراء طمعهم وجشعهم واستهتارهم وتعديهم علي أبسط قواعد علم الاقتصاد, وصحيح أنها لم تحدد رؤية واضحة عن ماذا بعد شراء هذه الأصول الهالكة؟… كل هذا صحيح, ولكن الخطة رغم كل ذلك مهمة جدا ولا غني عنها كخطوة ضمن خطوات عديدة لمنع الانهيار الكبير. إذن هي خطة في الأساس لمنع الانهيار ومنع الذعر. الخطة لن تعيد الثقة للأسواق كما كانت قبل الأزمة لا علي المستوي الداخلي ولا علي المستوي الدولي, فهذه عملية كبيرة تستغرق وقتا طويلا, فهناك فرق بين منع الذعر وبين إعادة الثقة وبين منع الإنهيار وإعادة الأوضاع لسابق عهدها. لك أن تتخيل عزيزي القارئ حجم الذعر الذي اجتاح أمريكا والعالم حيث انهار الكثيرون ماليا ونفسيا وعائليا من وراء هذه الأزمة , ووفقا لجمعية علم النفس الأمريكية في بحث أجرته مؤخرا علي 7 آلاف أمريكي قال 80% منهم أنهم يعانون من الإجهاد النفسي قلقا علي أوضاعهم المالية, وقال 66% منهم أن هناك هلعا بشأن قدراتهم علي تزويد أسرهم بأبسط احتياجات الحياة, وقال 56% منهم بأنهم خائفون علي استقرارهم المهني. مثال آخر لكي تتخيل حجم الذعر, بنك أمريكي واحد هو بنك ليمان براذر الذي أفلس يبلغ رأسماله مع ودائعه أكثر من 1300 مليار دولارا في حين أن ودائع مع رأسمال الجهاز المصرفي المصري كله وفقا لارقام 2007 تبلغ 937 مليار جنيه مصري أي ما يعادل 170 مليار دولار ,أي أن بنكا أمريكيا واحدا يزيد سبع مرات علي حجم الجهاز المصرفي المصري برمته( يتكون الجهاز المصرفي المصري من 41 بنكا تتبعها مئات الفروع)…كم هو مهم إعادة الطمأنينة إلي الناس وهو ما سعت إليه الخطة.
الانقسامات حول الأزمة
الانقسام حول الخطة لم يكن كبيرا رغم الولادة المتعثرة في مجلس النواب, فالأغلبية اعتبرتها دواء مر علي أمريكا ومعها العالم تجرعها لمنع تدهور المرض, ولكن الانقسام كان له مغزاه وهو بين مدرستين في الاقتصاد ,الأولي مدرسة الليبرالية الاقتصادية الجامحة التي تري ترك الأسواق لتصحح نفسها مهما كانت النتائج المترتبة علي ذلك, وهذه المدرسة تري أن إفلاس المؤسسات المالية شئ طبيعي, فطالما أنها تكسب في وقت الازدهار فلا مانع من أن تخسر وحتي تفلس في وقت الأزمات, وخاصة إذا كانت هي شريك أساسي في صنع هذه الأزمات… هذه المدرسة هي المدرسة النيولبرالية في الاقتصاد(مدرسة شيكاغو) والتي هي امتداد وتزيد جموحا عن فكرة اليد الخفية لضبط الأسواق عند آدم سميث. المدرسة الثانية هي مدرسة تدخل الدولة المقنن, والتي تري أن تدخل الدولة واجب في الأزمات ولا يضر ذلك بحرية الأسواق, ولكن يضبطها بين الحين والاخر وهو واجب أساسي في الأزمات التي تحتاج إلي يد قوية لإنقاذ الأقتصاد أكبر من آلية الضبط الذاتي للأسواق, ومن ثم علي القرار المالي أن ينتقل بسرعة من وول ستريت في نيويورك إلي بنسلفانيا افينو في واشنطن, أي من أيدي رجال المال إلي أيدي رجال السياسة. هذه المدرسة هي مدرسة تلاميذ كينز والتي انتصرت رؤيتها في هذه الأزمة وخاصة وهي تلقي قبولا يصل إلي حد الإجماع بين الشركاء الغربيين( بالمناسبة كما جاء الحل عام 1929 علي يد البريطاني كينز جاء الحل هذه المرة أيضا من بريطانيا علي يد رئيس الوزراء البريطاني براون). هذه المدرسة تحاشت الانتقادات التي وجهت للدولة أبان أزمة 1929 , فعملت كل ما في وسعها لتجنب أخطاء أزمة 29 وذلك علي ثلاثة محاور, من آجل منع الإفلاس, وتوفير السيولة وإعادة الثقة, فاتفقت البنوك المركزية الكبري علي تخفيض سعر الفائدة نصف في المائة وضخت كميات مهولة من النقد في الأسواق( قررت أمريكا ضخ اكثر من تريليون دولار بخلاف خطة الأنقاذ التي تقدر ب 700 مليار دولار, واتفقت البنوك المركزية الأوربية علي ضخ تريليوني دولار في الجهاز المصرفي بخلاف 1.5 تريليون ين ضخه البنك المركزي الياباني, بالإضافة إلي ما ضخه صندوق النقد والبنك الدولي, وبنوك كثيرة حول العالم), كما استدركت مجموعة السبع الوضع واتخذت قرارا بمنع المزيد من إفلاس المؤسسات المالية الكبري حفاظا علي الثقة, كما اتخذت أغلب البنوك الغربية والعالمية خطوات لطمأنة المودعين علي أموالهم في البنوك وتأمين القروض المتبادلة بين البنوك وبعضها البعض, كما أن هذه المدرسة تحبذ استمرار العجز المالي لتنشيط السيولة, فتري في العجز الكبير في الميزانية الأمريكية والذي وصل إلي 438 مليار دولار في السنة الأخيرة ضرورة مؤقتة من أجل دعم السيولة وخلق طريق حكومي ينشط الانفاق.
أما الانقسام الثاني حول الخطة فجاء أخلاقيا بين مدرستين أيضا, الأولي مدرسة الوضوح الأخلاقي, وهذه المدرسة تري أن ما حدث يرجع إلي عوامل أخلاقية بالدرجة الأولي( عوامل أخلاقية وليست دينية) وتمثل خطرا أخلاقيا علي أمريكا والعالم والمعاملات المالية حيث التعمد الخبيث للخطأ من أجل المصالح الشخصية الضيقة حتي ولو جاء ذلك الخطأ علي حساب ابسط قواعد علم الاقتصاد وأبسط قواعد الأمانة الأخلاقية وخيانة ثقة العملاء والمودعين. وتري هذه المدرسة بأنه من المعيب مكأفاة الذئاب علي افتراسهم لأموال الناس حيث تحولت أسواق المال إلي ساحة للذئاب علي حد وصف الاقتصادي الياباني أوماي. وهذه المدرسة تنطلق من رؤية فرانكلين روزفلت عام 1929 من إعادة بناء الاقتصاد علي أسس أخلاقية سليمة حتي ولو كانت الخسائر الآنية فادحة. فقد ترك روزفلت إبان أزمة الكساد العظيم 65 ألف مؤسسة تعلن إفلاسها ومنها 608 بنوك أفلست بحلول عام 1930 و1860 بنكا بحلول عام 1932 ثم أعطي روزفلت بعد ذلك 2500 بنك إجازة مفتوحة لم يعودوا بعدها أبدا. ووصلت تداعيات الأزمة وقتها إلي درجة قول روزفلت ## أري ثلث السكان يعانون من قلة السكن والملبس والغذاء##.
المدرسة الثانية هي مدرسة الواقعية الاقتصادية والتي تري أن الأخذ بالمعايير الأخلاقية الصارمة لا معني له في ظل هذه الفوضي, وأن معاقبة المخطئين لن يؤثر إيجابيا علي وضع الأسواق وإنما هي إجراءات جانبية ستؤدي إلي تشتييت الطاقة والجهد الذي يجب أن يتجه مباشرة إلي تصحيح الأوضاع المختلة. أصحاب هذه المدرسة يرون أن عليهم تفادي ما حدث عام 1929 ونتائجه الكارثية, وأن الوضع الآن يختلف عن عام 1929 حيث إن الأزمة الحالية معولمة وليست أمريكية فقط وأنها جاءت في ظل العولمة والتأثيرات المتداخلة, كما أن ترك سوق المال للانهيار معناه ظهور 4 ملايين عاطل في الحال في أمريكا وحدها والذي فقد اقتصادها 159 ألف وظيفة في شهر سبتمبر 2008 من وراء تداعيات هذه الأزمة, كما أن ذلك سيؤدي إلي فقدان المستثمرين الأجانب الثقة في الاقتصاد الأمريكي وما يترتب علي ذلك من سحب عدة تريليونات دولارات أجنبية مستثمرة في الأسواق الأمريكية وهذا سيؤدي بالتبعية إلي انهيار الثقة في الدولار كمخزن للقيمة وكعملة للاحتياطيات البنكية والمبادلات التجارية الدولية, وفي النهاية ستؤدي كل هذه التطورات إلي انهيار في القطاع الحقيقي من الأقتصاد وتبعات ذلك من ركود طويل المدي يصعب معرفة متي وكيف يمكن الخروج منه.
الانقسام الثالث علي مدي الأزمة, فمدرسة تري أن الوضع مختلف في هذه الأزمة ولن ينجو النظام الرأسمالي منها هذه المرة لدرجة أن الاقتصادي الأمريكي الحائز علي نوبل في الاقتصاد جوزيف ستيجليتز شبه انهيار البورصة بسقوط حائط برلين في العقيدة الشيوعية, ولن يخرج الغرب كما كان قبل الأزمة بل سيخرج العالم بنظام عالمي جديد يمثل خليطا من كل تجاربه الاقتصادية السابقة. أما المدرسة الأخري فتري أن هذه الأزمة هي أزمة عادية مهما كانت حدتها وتمر بها كل الاقتصاديات الرأسمالية بل هي جزء أساسي من آلية عمل الأسواق حيث دورات الانتعاش والانكماش والسقوط والقيام والإفلاس والتأسيس, وتري هذه المدرسة أن الأقتصاد الأمريكي والرأسمالي عموما مر بعشرات من هذه الأزمات الصغيرة والكبيرة علي مدي المائتي عام الماضية من دون سقوط الرأسمالية أو فقدان الثقة في عمل الأسواق الحرة, بل ازدادت الأسواق مناعة وازدادت الرأسمالية قوة حتي أصبحت حرية الأسواق هي النظام الذي تأخذ به معظم دول العالم بل وتتوسل إلي الانضمام لمنظمة التجارة العالمية الراعي الرسمي لحرية الأسواق.
الانقسام الرابع جاء حول بقاء العولمة, ففريق يري بأن الأزمة هي نتاج طبيعي للعولمة المتوحشة التي وسعت الفوارق بين الدول وبين الأفراد في داخل الدولة الواحدة والتي لا تحكمها قواعد منضبطة بتوزيع عادل لعوائد التنمية, وهذه العولمة تمثل المرحلة الأخيرة من أدوات الراسمالية المستغلة ,وبسقوط النظام المالي سيتبعه سقوط هذه العولمة المفترسة أو انكماشها وعلي كل دولة أن تبحث عن إجراءات حمائية تعزز مصالح شعبها وتحافظ عليها حتي ولو أدي ذلك إلي عودة سياسات العزلة.
والفريق الآخر يري أن عجلة العولمة لا يمكن أن ترجع إلي الوراء وأن العولمة مثلها مثل الرأسمالية تزدهر وتنكمش, ولكنها لن تسقط لأنها ببساطة تعبر عن الميل الغريزي للإنسان نحو الارتقاء والتطور والتفرد والانفتاح وعن ترابط كوكب الأرض وعن التطلعات المشتركة للإنسان المعاصر, وأن منتقدي العولمة أنفسهم لا يستطيعون الاستغناء عن منتجاتها التكنولوجية ولو ليوم واحد ولا عن زخمها ولا حتي عن صخبها.
الانقسام الخامس حول التأثيرات السياسية للأزمة , ففريق يري أن التأثيرات ستكون فادحة علي الأوضاع السياسية وستؤدي إلي دفعة جديدة من تطويل عمر الأنظمة المستبدة بما في ذلك ظهور فاشيات جديدة وربما في الأنظمة الديموقراطية ذاتها, وأن شدة الأزمة قد تؤدي إلي اندلاع حروب أهلية وإقليمية وربما عالمية في محاولة للهروب إلي الأمام من هذه الأزمة الطاحنة. ويدلل هذا الفريق عن أن أزمة عام 1929 كان من نتيجتها ظهور الفاشيات الأوربية والتي مهدت للحرب العالمية الثانية, وأن الانتعاش وعودة الأمور إلي طبيعتها لم يحدث إلا نتيجة لهذه الحرب وما نتج عن ذلك من نظام دولي سيطر عليه المنتصرون في الحرب ولن يعيد تشكيل هذا النظام الدولي إلا حربا عالمية تعكس موازين القوي الجديدة.
ويقول أنصار هذا الفريق إن أمريكا لن تعود بعد هذه الأزمة كقوة عظمي منفردة ويبالغ بعضهم ويقول إنها لن تعود قوة عظمي من الأساس وستسقط كما سقط الاتحاد السوفيتي من قبل لأسباب اقتصادية.
أما الفريق المعارض لهذه الآراء فيري فيها مبالغة كبيرة حيث إن الأزمة وإن كانت قد بدأت شراراتها من أمريكا إلا أنها طالت معظم دول العالم شرقه وغربه , وأن سقوط أمريكا من صدارة النظام الدولي ليس بهذه السهولة ولن يتم فجأة وإنما عبر مسار طويل يستغرق عقودا تتراجع فيه تدريجيا قوتها الاقتصادية وجاذبية تجربتها في حين تصعد تدريجيا دول أخري, وعند نقطة محددة سوف يتبلور عالم متعدد الأقطاب سيكون لأمريكا دور مهم فيه, ولكنه ليس الدور الرئيسي المتفرد كما هو الآن, ووقتها سيعاد تشكيل النظام الدولي سلميا وبشكل مختلف عن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية, حيث فقد هذا النظام قدرته علي التعامل مع عالم القرن الحادي والعشرين.
[email protected]