إذا نظر الإنسان إلي نفسه جامعا مقدار ما حصل عليه علي الأرض, أو مقدار النفع الذي أفاد به من فترة وجوده في الحياة, يمكن أن يقول ما قاله القديس بطرس: تعبنا الليل كله ولم نصد شيئا.
هذا هو شعور النقد الذاتي حينما يراجع الإنسان نفسه, ويري أنه لم يستطع أن يستفيد وأن يفيد من حياته, كالشيء الذي يشعره بالرضا عن نفسه, الأمر الذي يجعله يشعر أنه قد نجح في الامتحان.
قد يحزن الإنسان ويتولاه اليأس ولكن في المسيح لا نعرف اليأس, لأنه أبونا وهو المعلم الصالح الذي يريدنا أن نتعلم من أخطائنا, والذي يدربنا شيئا فشيئا لعلنا نتعلم, ولا نتعلم فقط بل نتقدم ونتطور إلي ما هو أحسن وإلي ما هو أفضل. خلقنا لنكون آلهة صغارا علي الأرض, وفترة وجودنا في الحياة امتحان لإرادتنا وامتحان لرغبتنا وامتحان لصلابة عودنا. وعلي قدر النجاح الذي يحققه الإنسان في هذه الحياة, علي قدر المكانة التي يرتقي إليها روحيا وريتفع إليها, ويتأهل بها للمقامات العالية التي تنتظرنا إذا كنا لهذه المقامات أهلا.
لا نيأس إذا لم نكن قد حصلنا من الحياة شيئا ذا بال أو شيئا ذا أهمية, أو شيئا يمطئننا أو شيئا يرضينا, ولابد إذا كانت لنا حقيقة بذرة الحياة الحقيقية السمائية أن نكون غير قانعين بما نحن عليه, وعدم القناعة معناه حافز يحفزنا ويدفع بنا إلي الأمام, أما شعور الرضا عن النفس فمعناه الموت ومعناه أنه لا تقدم, ومعناه أن يقع الإنسان في الغرور والكبرياء والاعتداد بالذات, ولكن أن يشعر الإنسان بعدم الرضا علي نفسه, خطوة تحزنه قليلا لكن هذا الحزن نافع له, لأنه يقوده إلي حياة أفضل.
لنأخذ كلمات الرسول بطرس صورة لتقرير يمكن أن يقدمه الإنسان عن نفسه, تعبنا الليل كله ولم نصد شيئا. لكن المسيح إذا كان في السفينة يمكنه أن يحول اليأس إلي رجاء وإلي أمل, ويمكنه أن يحول الفراغ إلي امتلاء, كانت السفينة فارغة والشباك مغسولة ونظيفة, فكونها مغسولة ونظيفة دليل آخر علي خلوها, ودليل آخر علي يأس التلاميذ كصيادين من أن يتحركوا ويحاولوا محاولة أخري, ولكن حينما يفشل البشر يوجد رجاء ويفتح المسيح أمام النفس أملا, يفتح لها بابا غير مغلق, يتأمل الإنسان فيجد منفذا يدخل منه إلي حياة أفضل, وتمتلئ شبكة حياته بالثمر وبالسمك الكثير ويشعر بالمعجزة, وحينما يجد المعجزة في هذه المرة يبارك الله ويشكره, ويعلم أن الخير الذي أصابه لم يكن منه ولم يكن بفضله, لأن فضله قد توقف وقد وصل إلي نقطة اليأس. إذن ليس هناك شيء يمكن أن يدعوه أن يغتر بنفسه أو يعتد بها, أو يذكر لها شيئا يجعله يعتمد عليها بعد الآن, إنما يعتمد علي رحمة الله وعلي محبته وعنايته التي لا تستقصي, التي خلقت من موته حياة والتي بدلت يأسه إلي أمل وإلي رجاء.
حينئذ إذا صار له سمك وثمر كثير ففي هذه المرة لا يغتر, عالما أن هذا السمك ليس من فعله وليس من جهده هو, وإنما من بركة الله عليه, هذه هي اختيارات القديسين الذين سبقونا والذين علي الرغم مما صنعوا من خير أنكروا الخير الذي صنعوه.
ولعلكم تذكرون أن المسيح يقول عن حسابه في اليوم الأخير للأبرار, كنت جائعا فأطعمتموني, كنت عطشانا فسقيتموني وعريانا فكسوتموني… إلي آخر هذه الكلمات التي تذكرهم بما صنعوه بالفقراء والمساكين, أما الأبرار فلا يذكرون شيئا من الخير الذي صنعوه, لأنهم تدربوا في مدرسة الصلاة وفي مدسة وخبرات الحياة التي فيها نقد لحياتهم, فيجيبون قائلين: متي رأيناك جائعا فأطعمناك, متي رأيناك عطشانا فسقيناك, غير قادرين أن يتذكروا, هم في هذا لا يكذبون رب المجد, وإنما لا يكادون يتذكرون شيئا من الخير صنعوه لأنهم صاروا علي مبدأ إذا فعلتم كل البر فقولوا إننا عبيد بطالون. لكن هذه العبارة لا يقولها المختبرون بنوع من التواضع الظاهر, أو كنوع من التواضع المفتعل أو المصطنع, الذي يظهر أحيانا في حياة بعض الناس السطحيين, الذي ينسب إلي نفسه الخطيئة والخطأ لا إيمانا منه بأنه مخطئ, ولكن لعله يحسب في سلك القديسين الذين ينكرون ذواتهم. هذا هو التواضع المصطنع المفتعل غير الصحيح, الذي لا يصدر من القلب, أما القديسيون والروحانيون الحقيقيون فإذا تواضعوا فيتواضعون من القلب, وإذا أنكروا أعمالهم فلأنهم فعلا يشعرون في أعماقهم أنهم لم يصنعوا شيئا ذا بال. وأنهم اختبروا نفوسهم في مواقف متعددة, ووصلوا إلي مرحلة اليأس من ذواتهم, وبعد قليل تبدل اليأس إلي رجاء وإلي أمل وإلي قيامة وإلي حياة, فتحركوا من جديد لعمل الخير, ولكنهم أحسوا في هذه المرة أن ما صنعوه من الخير وما يصنعونه ليس بفضلهم, وإنما بفضل الذي حول موتهم إلي حياة وحول ضعفهم إلي قوة.
كل هذا نذكره في هذه المناسبة, حتي يكون لنا اتضاع حقيقي من جهة ذواتنا, وإنكار حقيقي من القلب بكل نوع من الفضيلة, ومباركة وشكر لله لأنه استطاع أن يحول يأسنا إلي أمل وإلي رجاء, وأن يحول الموت إلي قيامة وإلي حياة.
فرصة سعيدة مباركة جمعتنا مع بعض, والتي تجمعنا من وقت إلي آخر, والتي نرحب بها علي أساس أنها فرصة لالتقاء أرواحنا بعضها ببعض. ليبارككم الرب بكل البركات الروحية, ويشملنا جميعا برضاه, له الإكرام والمجد إلي الأبد آمين.