كان الرب يسوع يجوب المدن والقري والكفور ليدعو الناس إلي التوبة بوسائل وسبل متعددة, فكان يعلم ويعظ ويصنع المعجزات والأعمال الخارقة. ولم يكن صنع المعجزات ينفصل عن التعليم, بل كانت كل معجزة مرتبطة برباط وثيق إلي غاية أسمي من مجرد شفاء الجسد من مرض أو من عاهة ما, وهذه الغاية هي إيمان الحاضرين بيسوع ربا ومخلصا وفاديا.
ولا شك أن يسوع كان يرمي إلي مؤاساة ألم, أو شفاء علة, أو طرد شيطان, أو تعزية أرملة… إلا أننا نلمس أسبابا أخري لهذه المعجزات, من أبرزها دعوة الحاضرين لتصديقه وتبني تعاليمه والإيمان به. ولا بد من التذكير, هنا, بأن معاصري يسوع لم يكونوا بحاجة إلي أدلة عقلية أو ذهنية أو فلسفية ليقتنعوا ببشارته. لذلك استعمل يسوع سلطانه الإلهي فأقام المعجزات حجة ليزرع بذور الإيمان في نفوسهم, وينمي فيهم الثقة بالله القادر علي كل شيء.
ومع التسليم بأن كثيرا من المؤمنين في أيامنا الحاضرة يستميلهم الإنجيل بسمو تعاليمه ومبادئه أكثر من أي شيء آخر, فإن الاستهانة بالمعجزات تشكل خطأ جسيما, فهي وحدها تستطيع أن تكشف لنا جانبا مهما من جوانب شخصية يسوع, وترينا مدي حنانه ومحبته ورحمته اللامتناهية.
نستخلص عبرتين من العبر التي هدفت إليها تلك المعجزات. العبرة الأولي هي أن غاية الرب يسوع كانت الدعوة إلي التوبة لا شفاء الجسد وحسب, فشفاء الجسد هو الوسيلة التي يستعملها يسوع, أما الغاية فهي شفاء الإنسان التي حدثت معه المعجزة من الخطيئة. وهذا ما تدل عليه حادثة شفاء المخلع في كفرناحوم (مر 2: 1-12), إذ عندما قدموا إليه المخلع ليشفيه, قال له: ##يا بني مغفورة لك خطاياك##, فشكك بعض الحاضرين بقدرته علي مغفرة الخطايا, فالله وحده له هذا السلطان, فتحداهم يسوع قائلا للمخلع: ##ولكن لكي تعلموا أن ابن البشر له سلطان علي الأرض أن يغفر الخطايا (قال للمخلع) لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلي بيتك##. نستشف من هذه الحادثة أن المعجزة في خدمة الإيمان والتوبة علي السواء. والهدف الأساسي هو التوبة, أي الشفاء من الخطيئة, والجسد سيفني يوما ما وسيعود إلي التراب. فالأعمي الذي أبصر عادت عيناه إلي التراب, و المخلع الذي استعاد القدرة علي المشي عادت قدماه إلي التراب… أما الإنسان التائب, أكان سليم البنية أو معوقا, فيدوم إلي الأبد في حضرة الرب.
العبرة الثانية هي ارتباط المعجزة بالإيمان, ليس إيمان المعني بالمعجزة فحسب, بل إيمان شخص آخر تجري المعجزة بشفاعته. والنماذج عن النمط الأول عديدة, فكثيرا ما نقرأ في الأناجيل ما يشبه هذه الآية: ##ثقي يا ابنة, إيمانك أبرأك## (متي9: 22). أما النمط الثاني فنموذجه ما نقرأه في حادثة شفاء غلام قائد المائة (متي 8: 5-13), الذي طلب إلي يسوع أن يشفي غلامه الملقي في البيت مخلعا, فقال له يسوع بعد حوار رائع: ##اذهب وليكن لك كما آمنت##, فشفي غلامه في تلك الساعة. من هنا, تؤمن الكنيسة بشفاعة القديسين الذين تأتي الشفاءات علي يدهم. ولكن أيضا تؤمن الكنيسة بقدرة الصلاة علي الشفاء, فقد جاء في رسالة القديس يعقوب ##فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والرب ينهضه. لذلك, تستطيع الكنيسة, أي الجماعة الحية الشاهدة ليسوع في هذا العالم, أن تلعب دور الشفيعة لإنقاذ عالمها من براثن الشر وما يسببه للناس من عذابات وأوجاع.
أعطي يسوع تلاميذه القوة علي جميع الشياطين مع القدرة علي إزالة الأمراض, وأرسلهم للتبشير بملكوت الله وإبراء المرضي (لوقا 9: 1-2). فانصرف التلاميذ وانتشروا في العالم يدعون إلي التوبة, التي هي الأساس الذي تقوم عليه الدعوة المسيحية, ويخرجون الشياطين ويمسحون بالزيت مرضي كثيرين ويشفونهم (مرقس 6: 12-13). واستمرت هذه المعجزات, علي مر تاريخ الكنيسة, مع أتباع الرسل وأتباع أتباعهم إلي يومنا هذا. ولا تخلو صلوات الكنيسة وأسرارها من دعاءات تشفع بمن هو في حاجة إلي أن ينزل الرب رحمته عليه كي يشفي من أمراض النفس والجسد.
في المقابل وفي إنجيل يوحنا علي وجه التحدي وإنجيل يوحنا هو خاتمة الأناجيل من حيث تاريخ تدوينها, لذا شدد كاتبه علي الأسرار وأهميتها اللاهوتية ومكانتها في تحقيق الكنيسة وبنائها علي أسس ثابتة, فأتي إنجيله تعليميا بامتياز وموجها بصورة أساسية إلي المؤمنين, بعكس الأناجيل الأخري التي توجه كاتبوها إلي الأمم لتبشيرها بعمل يسوع المسيح الخلاصي. وقد أفرد يوحنا الإنجيلي مقاطع عدة من بشارته للحديث عن سري المعمودية (الحديث مع نيقوديمس في الفصل الثالث) والأفخارستيا (الفصل السادس).
يبدأ الفصل السادس من إنجيل يوحنا بسرد معجزة تكثير الخبز والسمكتين, إلا أن كاتب الإنجيل الرابع تعمد ذكرها هنا في فاتحة الفصل السادس كمدخل لحديثه الطويل عن سر الشكر##الإفخارستيا## وخبز الحياة. الجدير بالذكر أن يوحنا لم يأت علي ذكر العشاء السري كما في باقي الأناجيل, فلم ترد فيه العبارتان المؤسستان لسر الشكر: ##خذوا كلوا, هذا هو جسدي## و##اشربوا منها كلكم, هذا هو دمي##. غير أنه في آية إكثار الخبز يستعمل يوحنا الأفعال ذاتها التي يستعملها الإنجيليون الآخرون في العشاء السري, وهي ##أخذ## و##شكر## و##وزع## (يوحنا 6: 11). وهذه لا ريب إشارة إلي العشاء السري, ذلك أن الكاتب يستفيض بعد ذلك في الكلام علي فاعلية الاشتراك في جسد الرب ودمه. ولوقا الإنجيلي يستعمل هذه الأفعال أيضا في حديثه عن تلميذي عماوس بعد قيامته من بين الأموات (24, 30), والإشارة هنا إلي سر الشكر واضحة أيضا, ذلك أن التلميذين ##انفتحت أعينهما وعرفاه## بعد كسر الخبز, أي أن معرفة المسيح والاتحاد به إنما يتمان في الاجتماع حول سر الشكر والمشاركة في القدسات.
يقول يسوع للجموع التي أطعمها أن الخبز الحقيقي الذي يستمر إلي الأبد هو خبز الحياة. ومن هو خبز الحياة؟ يجيب يسوع: ##أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلن يجوع ومن يؤمن بي فلن يعطش أبدا## (يو6: 35) .
ويؤكد أن خبز الحياة ليس سوي جسده: ##أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء من يأكل من هذا الخبز يحي للأبد. وينهي يسوع كلامه علي سر الشكر بتعابير واضحة حول أهمية المشاركة بجسد الرب, فيقول: ##إذا لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فلن تكون فيكم الحياة. من أكل جسدي وشرب دمي, فله الحية الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي طعام حق ودمي شراب حق. من أكل جسدي وشرب دمي ثبت في وثبت فيه. يجعل يسوع المشاركة في جسده ودمه شرطا للحصول علي الحياة الأبدية. ويؤكد علي كون هذه المشاركة حقيقية وتصل بالمؤمن إلي حياة أبدية لا نهاية لها.
لقد علق آباء الكنيسة علي هذا الخطاب وإن كان بصورة غير مباشرة. فالقديس يوحنا الذهبي الفم يقول: ##أراد يسوع أن يتحد بطبيعتنا حتي يجعلنا جسده الخاص##. ويتابع الذهبي الفم قائلا: ##لم يكتف المسيح بتقديم نفسه ذبيحة من أجل أحبائه, بل وضع نفسه بين أيديهم, في أفواههم وتحت أسنانهم##. بينما القديس كيرلس السكندري فيقول: ##جسد المسيح ودمه يبعدان عنا كل فساد, ويطردان الموت الذي يسكن جسدنا البشري, وذلك لأن الدم الذي نتناوله ليس دما بشريا قابلا للموت بل هو دم الحياة نفسها##. وفي المقابل يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ##المشاركة في جسد المسيح ودمه تجعلنا جسدا واحدا ودما واحدا معه. وبامتزاج جسده ودمه بجسدنا ودمنا نصير ##حملة المسيح##.
أعطانا الله أن نشاركه في طبيعته الإلهية, بتجسد كلمته في يسوع المسيح, فأتاح لنا بتناولنا خبز الحياة الأبدية أن نصبح جسدا واحدا رأسه المسيح.
الله كريم لا يبخل بنفسه من أجل خلاصنا, والإنسان يبادل هذا الكرم ببخله, حين يبقي لا مباليا أمام جود الله وعطائه اللامتناهيين. يقول القديس إيريناوس أسقف ليون: ##إن المسيح, لأجل محبته اللامتناهية, قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله##, فهل نريد نحن أن نصير مثله؟ خبزا يأكل ,وعطاء لا محدود لكل إنسان محتاج.