حتي ساعات قليلة من بدء الاقتراع يوم الثلاثاء الرابع من نوفمبر 2008 كان هناك اعتقاد لدي بعض المراقبين أن العنصرية لا تزال عميقة الجذور في المجتمع الأمريكي,وأن الناخب الأمريكي الأبيض يحاول في استطلاعات الرأي أن يظهر أنه غير عنصري وعندما يدلي بصوته في سرية فإنه يصوت للون…
أما وقد فاز المرشح الديموقراطي الشاب أسمر اللون باراك أوباما بالرئاسة الأمريكية فقد أعلن الأمريكيون انتهاء التفرقة العنصرية في بلادهم واكتمال المواطنة الأمريكية,وذلك لأول مرة منذ 300سنة أي منذ جلب تجار العبيد الأوربيون الزنوج من موطنهم الأصلي أفريقيا ليعملوا في حقول القطن بالجنوب الأمريكي.
وواقع المجتمع الأمريكي أنه رغم إلغاء العبودية بعد حرب أهلية طاحنة بين الشمال والجنوب جرت رحاها بين عامي 1860-1864 إلا أن الزنوج الأمريكيين ظلوا يعانون من التفرقة العنصرية لأكثر من قرن آخر,أي إلي أواخر ستينيات القرن العشرين.وكان لابد من حركة أخري قادها داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج حتي يستكمل الزنوج الأمريكيون كل حقوق المواطنة.
في خضم هذه الحركة ولد باراك أوباما الذي جاء ترشحه لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة قفزة نوعية هائلة وغير مسبوقة في تاريخ حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
يقول المراقبون: منذ البداية جاء أوباما يتحدث باسم كل مواطني الولايات المتحدة البيض والسود والملونين,ومن ثم نجح في تجاوز مرحلة القس الأمريكي الأسود جيسي جاكسون ومارتن لوثر كنج ومالكوم إكس وغيرهم من دعاة المساواة بين السود والبيض…بل إن المتتبع لأوباما يلاحظ قلة حديثه عن عدم المساواة بين الأمريكيين باعتبار أن هذه المساواة قد تحققت بالفعل بوجوده مرشحا رئاسيا للبيت الأبيض.
والحقيقة أن أوباما أجاد العزف علي أوجاع الأمريكيين المالية ولم يخف في جولاته بأن يشير إلي المسئولية التي تقع علي الرئيس جورج دبليو بوش,وتتمثل في عدم رؤية مؤشرات الأزمة في وقت مبكر.
ففي خضم الجولات الانتخابية تناول المرشحان جون ماكين وباراك أوباما الأزمة المالية وسبل الفكاك منها بأقل قدر من الخسائر,فبينما عزا ماكين الأزمة إلي ما سماه جشع وول ستريت وغياب رقابة واشنطن,وأن المخرج يأتي عن طريق وضع حد لانهيار سوق الرهن العقاري وتوجيه 300مليار دولار من مخصصات خطة الانقاذ المالية البالغة 700مليار دولار لشراء الرهونات العقارية السيئة والتفاوض مع أصحاب العقارات المتعثرين علي إعادة جدولة قروضهم العقارية.
في المقابل اتهم أوباما إدارة الرئيس بوش بعدم الاعتراف بوجود أزمة اقتصادية أصلا وشكك في حلول منافسه ماكين وخطة الإنقاذ المقترحة وأن الحل يكمن في عودة الرقابة والضوابط القانونية علي عمل المؤسسات المالية في بورصة وول ستريت التي انفلتت الرقابة الصرمة عليها طيلة السنوات الثماني الأخيرة.
المعروف أن أكثر من 10ملايين عقار تراجعت قيمتها بصورة مخيفة وفي الوقت نفسه بدأت الشركات الصغيرة والمتوسطة في تسريح أعداد كبيرة من موظفيها,بسبب تراجع الطلب في الوقت الذي تشددت فيه البنوك في ظل انكماش معدلات السيولة النقدية.
في براعة أداء كسب أوباما الطبقة العاملة والمتوسطة لصفه وسط تراجع حالة الرضا العام بين الأمريكيين بسبب سيطرة الأزمة الاقتصادية ونذر شبح كساد قريب قد يحل بأمريكا والعالم.ومن ثم شمل برنامجه خفض الضرائب علي العمال وصغار الدخل وزيادتها لمن يزيد دخله علي 250ألف دولار سنويا.
قصة صعود أوباما كمرشح ديموقراطي للبيت الأبيض جاءت إفرازا لنهج الحزب الديموقراطي منذ كارتر,حيث دأب الحزب علي هذا النمط بظهور مرشح مجهول قادم من آخر الصفوف ليفاجئ الديموقراطيين أنفسهم بالتقدم المطرد حتي يكتسح منافسيه داخل ترشيحات الحزب.
جري هذا النهج بالكامل عام 1992 مع بيل كلينتون الشاب قليل الخبرة القادم من ولاية أركانسو الصغيرة الفقيرة.وقبلها كارتر سنة 1976 وإذا بالشابين (كارتر وكلينتون) قليلي الخبرة يطيحان بمنافسيهما الجمهوريين واللذين كانا في المرتين شاغلين للبيت الأبيض بالفعل وهما بوش الأب المنتصر في الحرب الباردة ونائب الرئيس ريجان ومدير وكالة (سي.آي.إيه) والسفير السابق في بكين وأحد أباطرة النفط في حالة كلينتون,ثم جيرالد فورد رئيس مجلس النواب العتيد والرئيس المضمد لجراج ووترجيت المستند علي كتف هنري كيسنجر أشهر مستشاري الأمن القومي الأمريكي ووزراء الخارجية وبطل إنهاء حرب فيتنام وذلك في حالة كارتر عام 1976.
عن تجربته الخاصة ومعركته في الحياة التي تصالح معها في شيكاغو قال أوباما البالغ من العمر 47عاما: عندما عملت لثلاث سنوات منسقا اجتماعيا في المناطق الفقيرة من خلال شبكة رعاية اجتماعية تابعة لإحدي الكنائس رأيت المشاكل التي تواجه البشر ليست محلية الصنع,بل هي من قبل ساسة علي بعد آلاف الأميال,وأيقنت أنه عندما ينحرف الأطفال ويتجهون إلي العنف فالسبب هو الفراغ الناتج عن عدم توفر الكتب المدرسية وأجهزة الكمبيوتر في المدارس أو غلق مصنع للصلب في المنطقة.
تعرف الأمريكيون علي أوباما من خلال كتابه الأول أحلامي من أبي الذي نشره عقب ضجة رئاسته لتحرير دورية هارفارد للقانون صاحبة الـ106 أعوام ليكشف عن عالم من التناقضات الجلية…فالأب حسين أوباما التقي الأم آن دانهام في جامعة هاواي قبل 46عاما وتزوجا وبعد عامين جاء الطفل أوباما…لكن الأب آثر الدراسة في هارفارد عن البقاء مع الأسرة الصغيرة,فقرر الرحيل إلي بوسطن,ثم إلي بلاده كينيا بعد نهاية دراسته.
استمرت الأم والابن في هاواي خمس سنوات ثم رحلا معا إلي جاكرتا لخمس سنوات أخري تزوجت خلالها الأم من رجل إندونيسي قبل أن يعودا إلي هاواي ليعيش الصغير باراك مع جده وجدته من أمه حتي نهاية التعليم الثانوي.
تخرج أوباما في جامعة كولومبيا وقضي ثلاث سنوات في شيكاغو في وظيفة منسق اجتماعي,لكنه لم ير والده طوال تلك الفترة سوي مرة واحدة عندما كان في العاشرة,ولم يقض معه سوي شهر.
وعندما عاد مرة جديدة إلي كينيا شابا يافعا في عامه السادس والعشرين كان الوالد قد رحل عن الحياة.
يقول باراك,سإنه بذل خلال حياته جهدا مضاعفا للعيش مع المتناقضات والقبول بخصومات الزمن والواقع ومصارعته أيضا,ولم يجد أمامه سوي القيام بعملية مصالحة بين أشياء غير متوافقة,مثل حياته مع جدية صاحبي البشرة البيضاء ولون بشرته الأسمر,حيث وجد في الروح التقدمية الراقية لجديه تعويضا عن تناقضات أخري في مجتمع السود والبيض.
ارتبط باراك بزميلة الدراسة ميشيل ولديهما طفلتان: ماليا (10سنوات) وساشا (7سنوات)…وهو يعتبر زوجته بمثابة الذراع اليمني,حيث تفرغت تماما لدعم زوجها في حملته الانتخابية حتي جاء الفوز.
تعهد أوباما ضمن برنامجه الطموح للتغيير بخفض الضرائب وتوفير فرص عمل أكثر للطبقات الوسطي والعمال وأقسم علي تأمين مصادر طارقة بديلة للبترول القادم من الشرق الأوسط واتباع دبلوماسية الحوار مع أعداء أمريكا,وأن يكون الخيار العسكري هو آخر الطريق.
نجح أيضا جون كيندي الجديد كما كان يلقب إبان الحملة الانتخابية الطويلة في طرح حلول للقضايا الاقتصادية والبيئية,مثل الاحتباس الحراري وقضايا الهجرة,وهي قضايا تهم المواطن الأمريكي في المقام الأول,ومن ثم حصد أصواتا عالية واقتحم ولايات كانت بالأمس القريب معاقل جمهورية تصوت لرمز الفيل إذا بها تنجذب لشخصية القادم من خلفية الطبقة الوسطي وتختار رمز الحمار شعار الديموقراطيين.
اتهموه بقلة الخبرة في الشئون الخارجية,لكن اختياره لنائبه جوزيف بايدن (66سنة) وهو من المحنكين في الشئون الدولية ويرأس لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكي أحدث توازنا في الحملة الانتخابية,ومن ثم جاءت آراؤه في السياسة الخارجية مريحة لشرائح عديدة من الأمريكيين…فهو عارض الحرب في العراق منذ عام 2003ووعد بسحب القوات الأمريكية بامتداد 16شهرا حتي منتصف 2010 مع الإبقاء علي قوة أمريكية في العراق للقيام بمهمات ملاحظة التمرد مع معارضة إقامة قواعد دائمة بالعراق.
ويؤيد باراك أوباما بدء حوار مع إيران دون شروط مسبقة باعتبارها تشكل تهديدا خطيرا علي الشرق الأوسط والولايات المتحدة,مشيرا إلي تقديم عرض لإيران إذا ما تخلت عن برنامجها النووي وأوقفت دعم الإرهاب بجملة حوافز كدخول منظمة التجارة العالمية وباستثمارات وإقامة علاقات دبلوماسية مشتركة.
وفي الشرق الأوسط تعهد ساكن البيت الأبيض الجديد حال تسلمه المنصب بالالتزام بأمن إسرائيل وبضرورة عزل حماس وحزب الله ما لم يتخليا عن الإرهاب وعدم الاعتراف بإسرائيل,كما انتقد المستوطنات اليهودية بالأراضي الفلسطينية واعتبرها لا تساهم في إحلال السلام.
قال عنه مستشاره لشئون البيئة وتغير المناخ البروفيسور دان أستي إنه تجاوز كل التصنيفات التقليدية عن العرق واللون والعقلية التي يمكنها النفاذ إلي عقول البسطاء في المقاهي الشعبية,وبعد دقائق قليلة يدخل في حوار مع مفكرين في منتديات الصفوة بنفس درجة الحماس وبطريقة مختلفة تماما…إنه جون كيندي الجديد الذي طال انتظاره بين صفوف الديموقراطيين…شخص يقود التغيير…لكن الذي لا يختلف عليه مراقب أن دولة مثل أمريكا لا يحكمها الرئيس وإنما الدستور وأن عصرا جديدا بالنسبة للأقليات وللدبلوماسية الأمريكية قد بدأ.
نبيل…