لا شك أن تعديل المادة الأولى من الدستور المصري لتنص على أن “جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة” هو من أهم الخطوات التي اتخذتها مصر على طريق الإصلاح الدستوري، وقد أنعش هذا التعديل الأمل في أن يعود الوطن وطنا للجميع؛ بصورة تتحدى الواقع الذي غالبا ما يستند ـ بالحق أو الباطل ـ إلى “المادة الثانية”.
لكن إدراج هذه المادة الأولى بالدستور لا يمثل نهاية المطاف، بل ينبغي أن يكون بداية لخطوات جادة على سبيل تفعيل المواطنة وعلاج نقاط ضعف، بل خلل، متعددة تحتاج لمواجهتها بصورة مؤسسية وشاملة.
سنركز في هذه الورقة على مسألة التمييز السلبي ضد الأقباط في مجال الوظائف العامة، باعتبار أن المشاركة في قيادة الدولة ومقاديرها ـ سياسيا وإداريا ـ هي من أسس وضروريات المواطنة.
والخطوة الأولى هي وضع اليد على بعض أعراض المرض تليها محاولة التشخيص ثم العلاج.
***
1ـ الأعراض ـ معلومات ذات دلالة:
انتهزنا فرصة ما نشرته الصحف في 24 يونيو 2007 حول “وصول اعتذار إلى وزير الخارجية من منظمة العمل الدولية عما تضمنه تقريرها الصادر حول المساواة في أماكن العمل من إرشادات إلي التمييز ضد الإخوة الأقباط في مصر، وذلك ردا علي رسالة الاحتجاج قوية اللهجة التي وجهها السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية إلي المدير العام للمنظمة في هذا الشأن”. وكان الوزير قد أكد في خطابه إلي المدير العام للمنظمة “تمتع جميع مواطني مصر مسلمين وأقباطا بجميع حقوقهم المقررة في الدستور والقانون علي حد سواء”.
وعلى سبيل التحقق من مقولة السيد الوزير قمنا بمراجعة عينات من المعلومات العامة المتاحة، ومن بينها تلك التي نشرتها الصحف في الفترة من يونيو إلى أكتوبر 2007، فوجدنا الآتي:
[ملحوظة للقاريء الكريم: نظرا لضيق الحيز لن ننشر النقاط من أولا إلى تاسعا التي سبق تغطيتها في مقال بوطني بتاريخ 9 سبتمبر تحت عنوان ” نظام الأبارتايد النموذجي” وتبين كيف أن تواجد الأقباط في السلك القضائي بأفرعه والسلك الديبلوماسي والحكم المحلي الخ محكوم بحد أعلى في حدود 2%].
عاشرا: قمنا بدراسة حول أعضاء هيئة التدريس في جامعة أسيوط، استندنا فيها إلى الأرقام وحدها بعيدا عن الشكاوى الفردية التي قد يصعب الحكم عليها بصورة موضوعية قطعية، وذلك عن طريق مراجعة “دليل هيئة التدريس” لكل كلية من الكليات، ثم استنباط نسبة الأقباط عن طريق تحليل الأسماء الواردة في كل قسم، وطبقا للدرجات الوظيفية: أستاذ وأستاذ مساعد ومدرس (أو مُحاضر) ومساعد مدرس (أو محاضر) من الحاصلين على الدكتوراه، وأيضا تحليل المكون الطلابي عن طريق مراجعة أسماء الطلبة كما تظهر في قوائم نتيجة امتحانات السنة الدراسية الأولى للعام الدراسي 2006ـ2007 بكل كلية، عند توافرها.
وكان الهدف هو الإجابة على سؤالين محددين حول نسبة الأقباط بين الأساتذة، مما يعطي صورة للواقع الحالي؛ وأيضا نسبتهم في المناصب التعليمية الأدنى من درجة “أستاذ”، أي “الصف الثاني”، مما سيعطي صورة للواقع المستقبلي. وقد اخترنا جامعة أسيوط، نظرا لكثرة ما سمعنا عما حدث ويحدث فيها منذ أيام “الجماعات الإسلامية” في السبعينيات والثمانينيات، فضلا عن كونها أول جامعة إقليمية (أي خارج القاهرة والإسكندرية) وأول جامعة تُنشأ بعد الثورة.
وبدون الدخول في تفاصيل الدراسة (التي سبق أن نشرت في مقال صحفي) فقد تبين أن مجموع أساتذة الجامعة هو 819 أستاذا، من بينهم 48 (زائد أو ناقص 3) أقباط ـ بما في ذلك المحالين على المعاش ممن يطلق عليهم “أساتذة متفرغون” ـ أي بنسبة أقل من 6% مع ملاحظة أنه ليس فقط لا يوجد من بين عمداء الكليات الخمس عشرة قبطي واحد، بل ليس هناك قبطي واحد بين رؤساء أقسامها التي تبلغ 108 قسما. أما مجموع “الصف الثاني” فهو 1271 من بينهم 22 (زائد أو ناقص 2) من الأقباط بنسبة 1,7%. بمعنى آخر، فإنه مع دخول جيل جديد من الأساتذة خلال السنوات القليلة القادمة، سوف تنخفض نسبة الأقباط إلى أقل من ثلث نسبتهم الحالية، التي هي أصلا متدنية بصورة واضحة.
وإن كان من الطبيعي للجامعة، وخاصة إذا كانت “إقليمية” مثل جامعة أسيوط، أن تعكس مكوناتُها، طلبةً وهيئاتِ تدريس، مكوناتِ الإقليم الذي تقع به؛ ولما كان الأمر ليس سرا من أسرار الدولة أن نسبة الأقباط في هذا الإقليم، الذي يشمل بصفة رئيسية محافظات وسط الصعيد، هي الأعلى بمصر وتزيد على ربع السكان؛ فمن الطبيعي ـ طبقا لبديهيات علم الإحصاء ـ أن تكون مكونات الجامعة في هذه الحدود. وبالفعل، فإن نسبتهم بين الطلبة المتقدمين لامتحانات السنة الأولي تتراوح بين 19% و 30%. [بالطبع لا أحد يطالب بـ “كوتا” بين هيئات التدريس، بل فقط نقول: إما أن الأقباط قد أصيبوا بغباء وبائي جمعي حاد، وفي هذه الحالة نطالب بحملة قومية تشارك فيها المنظمات الدولية المعنية، بهدف علاجهم بصفة عاجلة؛ أو أن الخلل يرجع لأسباب “أخرى” خارجة عن إرادتهم!].
***
2ـ ملاحظات:
لقد اقتصرنا في هذه العجالة علي أرقام محددة ومنشورة ـ وليس علي انطباعات أو مشاعر؛ كما اقتصرنا علي ميدان “الوظائف العامة” ليس لأن الأمر يتعلق “بالرزق وأكل العيش” بل لأن المشاركة في إدارة شئون الوطن هي من أسس المواطنة التي بدونها يصبح المفهوم مجرد لغو بلا معنى.
وإضافة إلى كون ما ذكرناه ليس سوى “عينات”، نود لفت النظر ما يلي:
أولا: لم نتعرض لأرقام ونسب المقبولين من بين الأقباط في الكليات العسكرية بكافة أنواعها، والتي من المعروف أنها لا تتعدى سقف الـ 2% الشهير، وذلك لأنه ليس لدينا ما يوثق هذه المعلومة، لكننا نطالب بنشر ما يتعلق بها في حال خطأ هذا الزعم.
ثانيا: بغض النظر عن الأرقام والنسب، التي أشرنا إلى عينات منها، فمن المعروف أن هناك وظائف (بل جهات) “معينة” محظور على الأقباط الاقتراب منها…
ثالثا: لم نتطرق إلى العديد من المجالات التي تتحدى، بل تنسف، أسس المواطنة؛ مثل المشاركة السياسية وانحسار تواجد المواطنين الأقباط بين أعضاء كافة المجالس التمثيلية إلى درجة العدم، الخ الخ؛ وهي أمور تستلزم معالجات خاصة.
***
3ـ تشخيص واستنتاج:
من الواضح مما سبق أن التمييز السلبي ضد الأقباط ليس مجرد “تعبير عن ضيق أفق شخصي” أو تصرفات “بضعة أفراد من ذوي النفوس الضعيفة” (كما يزعم البعض) بل تخطى مستوى العرف الذي هو بمثابة “المقنن” ليكاد يصبح سياسة ممنهجة (systematic) تمارسها الدولة بكل أجهزتها وأفرعها، التنفيذية والقضائية والتشريعية، وعلي جميع المستويات.
ويهمنا تأكيد أن الأقباط ليسوا، بالطبع، الفئة المهمشة الوحيدة في مصر. ولكننا، من ناحية أخرى، نلاحظ أن الدولة قد اعترفت بوجود مشاكل تتعلق بالمرأة وبدأت في اتخاذ خطوات فعالة على سبيل “تمكينها”. بل وصل الأمر إلى أن مصر، بمناسبة انتخابها في مايو الماضي لعضوية مجلس حقوق الإنسان الجديد، التابع للأمم المتحدة، عن الفترة 2007ـ2010، كانت قد وجهت مذكرة لرئيس الجمعية العامة بتاريخ 18 أبريل 2007، (طلبت توزيعها على الدول الأعضاء كوثيقة رسمية في دورة الأمم المتحدة 61 تحت البند رقم (105 هـ) في الأجندة) تضمنت عددا من التعهدات الاختيارية (voluntary pledges) والالتزامات (commitments) في مجال حقوق الإنسان، داخليا ودوليا.
وغير مكتفية بالنصوص العامة مثل الالتزام بالمواثيق الموقعة في هذا الشأن؛ تتحدث المذكرة أكثر من مرة عن حقوق المرأة وتمكينها، وهو مما نغتبط له ومما يدل على اهتمام القيادة السياسية للبلاد بالأمر؛ لكنها لا تذكر حرفا واحدا عن الفئات المهمشة مثل الأقباط. ونلاحظ أكثر من ذلك أنها تتحدث عن “التمييز الإيجابي” لصالح المرأة، بينما سبق أن هوجم من طالبوا بتمييز إيجابي مؤقت لوقف تهميش واستبعاد الأقباط، واتهموا بالطائفية. كما تعد المذكرة “بالعمل على محاربة العنف ضد المرأة واستئصال التمييز ضدها عبر إجراءات تشريعية وتفعيل السياسات القائمة”، لكن لا كلمة عن “الحد من” ـ التمييز السلبي ضد الأقباط!! كل هذا يعطي انطباعا قويا بأنه أنه لا توجد حتى الآن إرادة سياسية بالقضاء على تلك الظاهرة المشينة، وذلك برغم المواثيق الدولية الواضحة في هذا الشأن، والتي صادقت عليها مصر فأصبحت “جزءا من النظام القانوني”، وبرغم اهتمامها ـ كما تقول المذكرة ـ بـ “حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع”، “على قدم المساواة وبدون تفرقة أو معايير مزدوجة”.
***
4ـ مقترحات للعلاج ـ ما هو المطلوب عمله:
أولا: قبل كل شيء، من المهم أن تقرر القيادة السياسية انتهاء عهد سقف الـ 2% ورفعه بصورة فورية ليصبح حدا أدنى ـ وليس سقفا ـ في حدود 10% مثلا. وأن تقوم القيادة السياسية والإدارات التنفيذية العليا بإعطاء المثل الأعلى في محاربة التمييز السلبي بكافة أشكاله، فما لم تقم القيادة بدورها في هذا المجال فلا أمل في نجاح باقي مفردات “الروشتة”.
ثانيا: استصدار قانون يُجرِّم، ويعاقب على، أفعال التمييز السلبي ضد المواطنين بناء على العقيدة أو الجنس أو غيرها في أجهزة الدولة أو في المؤسسات المملوكة جزئيا أو كليا للدولة.
ثالثا، إنشاء “مجلس قومي لحقوق المواطنة” يتصدى للموضوع بصورة كاملة ومتكاملة. وإذا “تعذر” هذا الأمر حاليا، نطالب بإنشاء مكتب “أومبودسمان” داخل “المجلس القومي لحقوق الإنسان” مخصص لمعالجة مواضيع المواطنة والمساواة، من بين مهامه تحليل المعلومات في هذا المجال (خاصة وأن الكثير من أفعال التمييز السلبي التي تمارس بصورة يصعب التحقق منها على المستوى الفردي) ولفت نظر الجهات المخالفة، عن طريق توصيات ملزمة يتم متابعة تنفيذها بالإضافة إلى استلام شكاوى المواطنين المتضررين وتزويدهم بمساعدات قانونية.
رابعا: تشجيع مبادرات المجتمع المدني في هذا المجال، كوسيلة لدفع ثقافة المساواة مجتمعيا من أسفل إلى أعلى. وفي هذا المجال، نحيي مبادرة د.م. محمد منير مجاهد في تكوين ورعاية جماعة “مصريون ضد التمييز” التي وإن كانت لا تزال في مرحلة “المجموعات النقاشية بالإنترنت”، فالمأمول أن تأخذ شكلا قانونيا كجمعية حقوقية تقوم بدورها الرائد.
خامسا: بما أن المساواة التامة بين المواطنين هي مبدأ أساسي من مباديء حقوق الإنسان تشكل المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات الدولية المصدق عليها بشأنه جزءا من النظام القانوني الوطني واجبَ التنفيذ، وبما أن مجرد عضوية مصر في مجلس حقوق الإنسان الدولي يعني إقرارها (إن كانت هناك حاجة لذلك) بأن قضايا حقوق الإنسان أمرٌ دولي، وبالتالي يحق للمجتمع الدولي أن يراقب السياسات والممارسات الداخلية لكافة دول العالم وينتقدها؛ فعلى “المجلس القومي لحقوق الإنسان” عدم الاكتفاء بإنكار أو شجب الملاحظات التي قد تأتي من آليات حقوق الإنسان الدولية بل (طبقا لالتزامات مصر التي نصت عليها المذكرة الموجهة للأمم المتحدة المشار إليها) “إعداد أهداف وردود ذات مصداقية”.
***
ختاما، نعتقد أنه قد آن الأوان للتخلص من البديل الحالي الممقوت، الذي هو “الدولة الطائفية”، أي التي تتمسك فيها “طائفة” (حتى لو كنت هي الأغلبية) باحتكار كافة مقاليد الحكم، وأن يتقبل الجميع الفكرة البديهية التي تقضي بأن المواطنة ستبقى حبرا على ورق ما لم يتم معالجة موضوع مشاركة الأقباط في إدارة شئون بلادهم كمواطنين درجة أولى، وليس أقل، بصورة حاسمة.
المهم أن تخلص النيّات أولا حول الهدف، أما الباقي فهو سهل يسير! وكما يقول المثل الصيني: إذا وجدت الإرادة، وجدت الوسيلة!
وفقنا الله جميعا لما فيه رفعة مصر وشأنها.