لقاء رئيس الوزراء جوردون براون الشهري مع الصحفيين هذا الأسبوع ـ السادس منذ توليه الوزارة اتباعا للتقليد الذي كان آخر رئيس وزراء للمحافظين السير جون ميجور بدأه في منتصف التسعينيات، وحوله توني بلير الى روتين منتظم ـ اتسم بمدلولات، لعل أوضحها، اما معاناة الرجل ماسوكية استعذاب سياط الصحفيين فوق ظهره، أو محاولته بصبر أيوب، من دون نجاح ملحوظ، اظهار قدرته على توجيه سفينته في مسارها وسط عاصفة الأحداث.
كان براون في غاية اللطف معنا، نحن الصحفيين، ويزداد لطفه كلما تعمق مأزقه؛ فطبيعته التجهم وهو لا يتمتع بخفة ظل سابقه بلير، وقدرته الفائقة على القفشات الضاحكة. وتميزت لقاءات بلير معنا بالمرح، وكانت مبارزة في البراعات اللفظية وخفة الدم وسرعة البديهة. ولأن اللقاء الصحفي الشهري يبث على الهواء مباشرة، فموهبة الخطابة اللفظية، وهي شرط أساسي لنجاح السياسي في مجلس العموم يميزه عن اي برلمان آخر، وحدها لا تكفي ويحتاج لحس الأداء المسرحي، وسرعة البديهة مع خفة الدم.
هذه المواهب ومهارات الاستعراض والترفيه رصيد استثمار كبير، عندما يدخله التلفزيون الى غرفة جلوس الناخبين، وينقل الراديو صوته الى مئات الآلاف الذين انحشرت سياراتهم في زحمة المرور؛ لكن الوجه الآخر للعملة نفسها تحول الشفافية لأداء السياسي وحياته الى مطلب عام للمستمعين والمشاهدين، من سائقي التاكسي وجرسونات المطاعم وربات البيوت، وليس فقط الطبقة السياسية المثقفة من قراء الصحف الجادة ونصف الجادة (10 من مجموع 20 صحيفة قومية يومية) عندما كنا نحتكر، كصحفيين، تقديم الصورة للقراء وانطباعاتنا، في شكل الاسكتش المكتوب، وتحليلنا لأداء رئيس الوزراء في المؤتمر الصحفي أو في مجادلاته البرلمانية، قبل عصر البث المباشر على الهواء. في البرلمان تتعرض الحكومة لأسئلة المعارضة وهو ما لا يحدث في المؤتمرات الصحفية، فتصبح السلطة الرابعة فيها عين الامة المراقب لالتزام ساسة الحكومة بالشفافية والقانون ولذلك تحول لقاء الثلاثاء 27 نوفمبر الى حلقة لجلد الزعيم البريطاني، وكلما ازداد ت درجة لطفه، ازدادت قسوة لسعات الأسئلة.
فـ36 سؤالا من مجمل 52، كانت في وقع قبضات الملاكم الأمريكي الاسطورة محمد علي فوق فك كهل أعمى. الأسئلة يمكن تلخيص مجملها بمثل اصرار وكيل نيابة يريد معرفة الحقيقة من متهم مراوغ. الصحافة اتهمت رئيس الوزراء، اما بالكذب على البرلمان والشعب؛ او أنه مثل زوج مخدوع، كان آخر من يعلم بخطيئة حزب العمال الحاكم، وهي انتهاك اهم شروط الديموقراطية: القانون والشفافية والصراحة مع ممثلي الشعب. تركز 13 سؤالا حول هاريت هارمن رئيسة الاغلبية البرلمانية، لأنها تلقت تبرعا بمبلغ خمسة الاف جنيه (10,100 دولار، أي أقل من ثمن تذكرة سفر الدرجة الاولى من لندن الى القاهرة). المشكلة ليست المبلغ، بل مصدره وتوقيت التبرع.
المدام هارمن تلقت الشيك، لمساندة حملتها الانتخابية كمرشحة لمنصب نائب زعيم الحزب، بعد انتهاء الحملة بثلاثة اسابيع، وهي مخالفة زمنية تجعلها مذنبة في تلقي تبرع لغرض غير الغرض الذي دفع من اجله؛ كما ان الشيك دفعته سيدة اتضح ـ من تحقيق الصحفيين ـ انها مجرد واجهة للمتبرع الحقيقي وهو مليونير الاستثمار العقاري ديفيد ابراهام. 6 بطاريات من مدفعية فليت ستريت الثقيلة وجهت القذيفة نفسها بتكرار نحو المستر براون: «هل لا تزال المدام هارمن تحظى بثقته؟» فمنصب رئاسة الاغلبية البرلمانية هي حقيبة وزارية في مجلس الوزراء في نظام وستمنستر. غالبية الـ23 سؤالا الأخرى، حاولت استدراج رئيس الوزراء بأمل ان يتعثر لسانه «متى وكيف علم بارتكاب الحزب الحاكم مخالفات ضد الشفافية وقانون جمع التبرعات» بعدم الاعلان عن تبرعات المستر ابراهام للحزب (بلغ اجمالها حوالي 200 الف جنيه) بأسماء اشخاص آخرين؟ ام انه كان كالزوج المغفل؟
وكانت الصحافة كشفت ان المستثمر أبراهام كان من المقربين لمجموعة بلير، فتمحورت ثلاثة اسئلة عما اذا كان يعتقد ان هذه الممارسات تعود الى عصر زعامة بلير للحزب؟ لكن الرجل، رفض التعليق بطوق ادانة سابقه، لأن الشفافية ستكشف انه طوق من الرصاص الثقيل.
والى جانب خروج المستر براون من حلبة مقارنته بسابقه بلير في المركز الثاني، فالحكمة التي اريد مشاركتها مع القراء ، هي اهمية الشفافية واحترام قانون نشاط الاحزاب السياسية ـ رغم ان تكوين حزب سياسي لا يحتاج لترخيص أو اذن من احد، حتى ولو كان الحزب من عضو واحد وهدفه عبث كوميدي مثل عبادة الاخطبوط بالرقص تحت اشعة القمر.
فالديموقراطية ليست مجرد تصويت المواطن مرة كل خمس سنوات، ثم يعود لاحتضان التلفزيون في اوقات مباريات الكرة والفوازير ومسلسلات الماضي المجيد، وإنما هي تركيبة معقدة متراكمة عبر اجيال من الممارسات والقوانين، التي تطبق بإحكام شديد، بلا استثناءات عبر جهاز قضائي مستقل تماما عن الحكومة، والتي بدورها تتمركز في البرلمان، وحقائب الوزراء (وهم ايضا نواب منتخبون)، اما الجهاز الوظيفي والقضاء والجيش، فهي الدولة التابعة للتاج والمنفصلة عن الحكومة. الشفافية جهاز ضبط عمل الساعة الديموقراطية بدقة. الشفافية تسهل المراقبة، وهي من مهام نواب البرلمان، وتبقى الصحافة خط الدفاع الرئيسي للحفاظ على الشفافية، ضد محاولات الساسة الدائمة للتواري عن عيون المراقبة. كانت الصحافة هي التي كشفت انتهاك حزب الحكومة لقواعد اللعبة الديموقراطية بعدم الافصاح علانية عن مصادر تمويل للحزب ـ بضعة آلاف وليس بضعة ملايين.
وأمام وابل الاسئلة المستمر من بطاريات الصحفيين، أعلن رئيس الوزراء، الذي امر السكرتير العام للحزب بالاستقالة السبت الماضي، بإجراء تحقيق، يشترك فيه قضاة.
لا تستطيع حكومة الحزب، بسبب الشفافية والتقاليد الديموقراطية، توجيه ادارات ومصالح الدولة لدعم مصالحها وهو الاختبار الحقيقي للديموقراطية، بعكس بلدان أوهمت نفسها ان الديموقراطية محصورة في الانتخابات فقط، حيث يسيطر الحزب الحاكم على الاعلام، مما يعمي الشفافية، وعلى الدولة بأجهزتها بما فيها رقابة الاشراف على الانتخابات، فيضمن تكرار انتخابه بلا انقطاع.
عندما تكشف الصحافة البريطانية محاولات الحكومة الالتفاف على الشفافية، لا يجد رئيسها مخرجا الا اجراء التحقيقات القضائية وتتدحرج الرؤوس السياسية، والا دفع الثمن غاليا في الانتخابات التالية.
فرئيس الوزراء براون، والعشرات الذين سبقوه، دخلوا داوننج ستريت وخرجوا منه عبر صندوق الاقتراع، وليس على ظهر دبابة، أو لسطوة العشيرة والعائلة، حتى ولو كان السياسي يمثل قرية من شارعين فقط في المجلس المحلي للمقاطعة، فلا بد ان يأتي عبر الانتخاب.
فغياب الشفافية هو أحد أهم الأسباب (ضمن اخرى) المعرقلة التي ظهرت، في بحث اشرف عليه، عما اذا كانت العوامل السائدة اليوم في منطقة الشرق الأوسط، تجعلها بيئة تسمح بنمو أنظمة برلمانية تعددية، او تتيح فرصة عودة النظام البرلماني لتداول السلطة، الذي اجهزت عليه الانقلابات العسكرية. والنتائج ثلاثة اشهر فقط قبل انتهاء البحث، لا تدعو للتفاؤل.